لم يخدم استخدام العنف لإنهاء الإحتلال القضيّة الفلسطينيّة كما يجب، بل بالعكس زاد الطين بلة، حيث أنه صلّد عزم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للتعامل مع التطرّف العنيف بقبضة من حديد. والإشتباكات الدموية الحالية ، التي غالباً ما يشار إليها باصطلاح “إنتفاضة السكاكين”، وقتل المارة الإسرائيليين الأبرياء أغضب تقريباً كلّ إسرائيلي، بغض النظر عن ميوله السياسية (لسبب وجيه)،هذا في حين أن الفلسطينيين بحاجة لجذب الإسرائيليين لدعم قضيتهم. لقد حان الوقت للفلسطينيين للبحث عن وسائل أخرى يمكن من خلالها أن ينقلوا للإسرائيليين وللمجتمع الدولي صورة الظروف التي لا تطاق والبؤس الذي يعيشون تحت وطأته منذ عقود. يجب أن يفعلوا ذلك من خلال العصيان المدني الجماعي والمتواصل وعدم التعاون اللاعنفي الذي لا غبار عليه.
وعلى الرغم من معاناتهم والبؤس الذي يعيشون فيه تحت ظل الإحتلال، فإن الفلسطينيين مضلّل بهم من قادتهم، لأنّ هؤلاء قد فشلوا في حشد غالبية الإسرائيليين الذين يريدون السلام لدعم قضيتهم المشروعة. بل على العكس من ذلك، فمن خلال روايتهم اللاذعة وأعمال العنف التي لا معنى لها، نجحوا في إقصاء هذه الشريحة الحرجة من السكان الاسرائيليين اللذين هم بحاجة لدعمهم أكثر من غيرهم.
وعلى الرغم من أنّ العصيان المدني ليس غريباً على الفلسطينيين، فإنهم كثيراً ما لجأوا إلى العنف كخيارهم الأول. فبعد سبعة عقود من الصراع العنيف إلى حد كبير، يجب على الشعب الفلسطيني الآن أن يتوصّل إلى نتيجة، إن لم يكن قد توصّل إليها، مفادها أن العنف ضدّ الإسرائيليين يأتي بنتائج عكسية، ويستفيد منه فقط اليمين الإسرائيلي المتطرّف و يضعف في نفس الوقت الإسرائيليين المعتدلين.
وعلاوة على ذلك، بغض النظر عن أي نوع من العنف يستخدمه الفلسطينيون، فإن إسرائيل سوف تبقى مسيطرة الآن وفي المستقبل المنظور، الأمر الذي يترك الفلسطينيين بخيار واحد، وهو العصيان المدني، الذي يتطلب بدوره شجاعة هائلة، والصبر، والقوة الداخلية، وسيثبت أنه أكثر فعالية من أي فعلٍ عنيف، شريطة ألاّ يلجأوا أبدا ً إلى العنف، بغض النظر عن الترهيب وحتى استخدام العنف ضدهم من قبل القوات الإسرائيلية.
وتقدم المواجهات العنيفة السابقة بين الجانبين رواية يجدر سردها. فقد تحولت الإنتفاضة الأولى (1987-1993)، التي بدأت كمظاهرة جماهيرية غير عنيفة، إلى مقاومة عنيفة قتل خلالها أكثر من 1000 فلسطيني. وكانت الإنتفاضة الثانية (2000-2005) عنيفة من البداية مع هجمات مسلحة وإلقاء قنابل حارقة والقيام بتفجيرات إنتحارية، الأمر الذي أدى إلى هجوم مضاد مسبّبا ً دمارا ً شديدا ً من الجانب لإسرائيلي في الضفة الغربية، مع ارتفاع عدد القتلى إلى ما يقرب من 4000 فلسطيني وأكثر من 1000 إسرائيلي. لقد سبّب هذا خيبة أمل كبيرة لدى كلّ إسرائيلي وعمّق عدم الثقة لديهم بالفلسطينيين.
وأن يبقى الشعب الإسرائيلي في موقف ٍ سلبي تجاه الإحتلال هو أمر ٌ غير مقبول على الإطلاق لدى معظم الفلسطينيين لأنهم مستمرون في المعاناة مع وجود أمل ضئيل أو حتّى لا أمل للمستقبل. ويعتقد كثير من الفلسطينيين أن إسرائيل سوف تقوم بتسوية الوضع الراهن بسرور من خلال الحفاظ على الإحتلال وتوسيع المستوطنات، في حين أنها ستجعل حياة جميع الفلسطينيين لا تطاق من أجل إجبارهم على الرحيل.
يبدو أنّ الإشتباكات الحالية تهدف، من وجهة النظر الفلسطينية، لإشراك الإسرائيليين في مستوى متدني من المقاومة العنيفة وذلك لمنع انتقام واسع النطاق. كما أنه يرسل رسالة واضحة إلى أن الإحتلال لا يقدم أيّ أمن إذا كان عدد قليل فقط من الفلسطينيين قادرا ً على خلق مثل هذه الفوضى في جميع أنحاء البلاد.
ما لم يعطُ الكثير من الإهتمام هو العصيان المدني، الذي قد يكون أكثر طريقة فعّالة لتغيير ديناميكية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وليس هناك وقت أفضل من الوقت الحاضر لاحتضان اللاعنف لحلّ القضية الفلسطينيّة.
ولكي يكون فعالاً، يجب أن يتخذ العصيان المدني شكل المقاومة السلمية الجماعية. ينبغي أن تركّز الروايات الشعبيّة وتصرفات الفلسطينيين على شؤون دولتهم ، ولكن يجب ألاّ يكون هناك وعظ باستخدام العنف والتحريض، ولا يكون هناك ردّ على العنف بالعنف، الأمر الذي قد يضفي عنصرا ً أخلاقيّا ً قويّا ً على قضيتهم.
وتقدّم حركة الحقوق المدنية الأمريكية في الستينات من القرن الماضي مثالا ً قريباً لما يمكن أن يتبنّاه الفلسطينيون كإطار لمقاومتهم. الظلم في هذا السياق هو الإحتلال نفسه الذي تحكمه القوانين العسكرية والتي تُعتبر – بحكم طبيعتها – تمييزية وتعسفية، وبالتالي يستدعي الأمر تحدٍّ سلمي لقوانين الإحتلال .
لقد صاغها مارتن لوثر كينغ بشكل بليغ عندما قال: “أيّ فرد يكسر القانون الذي يقول له ضميره بأنه ظالم، ومن يقبل عن طيب خاطر عقوبة السجن من أجل إثارة ضمير المجتمع على ظلمه، يعرب في الواقع عن أسمى احترام للقانون “.
ويشمل العصيان المدني العديد من التدابير الموجهة نحو رفع وعي الجمهور الإسرائيلي لأنه في نهاية المطاف أفضل سلاح للفلسطينيين هو تعبئة الإسرائيليين أنفسهم للمطالبة من حكومتهم وضع نهاية للإحتلال، وهو الأمرالذي يخدم مصالح إسرائيل الأمنية الوطنية على النحو الأمثل.
وتشمل هذه الأساليب: الإنخراط في احتجاجات صامتة أمام نقاط التفتيش وعلى طول الجدار الفاصل، وحرق بطاقات الهوية الصادرة من إسرائيل واحتجاجات على غرار “راكب الحريّة” “Freedom Rider” (أي ركوب الحافلات التي تستخدم عادة من قبل المستوطنين)، والمظاهرات السلمية، وبالأخصّ مظاهرات النساء الفلسطينيات، ومسيرات التضامن الكبيرة، واحتلال أماكن عامة إستراتيجية، و “die-ins “(حيث يستلقي عدد كبير من الناس على الأرض ويرفضون التحرّك)، وتشكيل سلاسل بشريّة ، وتحدّى حظر التجوّل والقوانين التي تحظر رفع الأعلام الفلسطينية، هذا مع الحظر بشكل صارم حرق الأعلام الإسرائيلية، وملء السجون الإسرائيلية بالإستسلام بشكل ٍ سلمي لقوات الأمن الإسرائيلية، وهو أمر مكلف للغاية ومرهق من منظور أمني ومحبط للإسرائيليين.
وكما قال المهاتما غاندي يوما ً: “إن القانون الجائر هو في حد ذاته نوع من أنواع العنف. وإلقاء القبض على الإخلال به هو أكثر من ذلك. الآن يقول قانون اللاعنف بأن العنف يجب أن يقاوم ليس عن طريق العنف المضاد، ولكن عن طريق اللاعنف. هذا ما أفعله عند خرق القانون والإستسلام بشكل سلميّ للإعتقال والسجن “.
وينبغي على الفلسطينيين خلال جميع المظاهرات والمسيرات السلمية أن يحملوا لافتات مكتوب عليها شعارات مثل “نريد السلام”، “نريد العدالة”، “نريد حل الدولتين”، “نحن نحترم حق إسرائيل في الوجود”، “نريد التعايش السلمي “،” يكفي كراهية و يكفي ألم “، وغيرها، التي من شأنها أن تتحدى الأفكار العميقة الجذور بين الإسرائيليين بأن الفلسطينيين يريدون تدمير إسرائيل بدلا من صنع السلام.
وكما قال ببلاغة مبارك عوض، أحد رواد الفلسطينيين الأوائل في العصيان المدني خلال الإنتفاضة الأولى،: “عندما تكون على استعداد للتضحية بكل شيء من أجل حريتك – بدون سلاح، وحتى بدون حجارة – حتى لو هاجمتك الحكومة، على الجمهور الإسرائيلي أن يراك بطريقة مختلفة. علينا نحن أن نجعلهم يختاروا أي نوع من الناس هم “.
هذا النوع من العصيان المدني سيعزز أيدي حركة السلام الإسرائيلية ويشجعهم للإنخراط في نشاطات مماثلة من عدم التعاون اللآعنفي تضامنا ًمع الفلسطينيين، وهذه من شأنها أن تغير قواعد اللعبة.
والأهم من ذلك، سيكون للإنخراط في العصيان المدني تأثير نفسي على الفلسطينيين أنفسهم لأنهم سوف يكتشفون أن استمرار المقاومة السلميّة أقوى وسيلة للتأثير إيجابيّا ً على عملية السلام وووضع النبرة على التعايش السلمي.
وحتى بعد سبعة عقود من الصراع الدامي، لا الإسرائيليون ولا الفلسطينيون قادرون على الإستسلام للوضع الراهن.عليهم الواجب المقدّس بأن يمرّروا إلى الجيل القادم الدروس المستفادة من عدم جدوى العنف، وأنّ السّلام سيأتي فقط في غياب العنف.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة