|
العجلات و عجلاتية أمدرمان
|
هلال زاهر الساداتي – القاهرة
لا زلت أتجول في شوارع أمدرمان مأوي أقوام و شعوب السودان و الذين امتزجوا فيها كنيلينا العظيمين الأبيض و الأزرق اللذين اجتازاها في ربطة واحدة ليكونا نهر النيل العظيم , ومدينة أمدرمان لها طعم خاص أو إن شئت نكهة خاصة فهي كالشوق لا يحسه إلا من يكابده , و أتناول اليوم لونا واحدا من الأنشطة العديدة التي يتخذها بعض أهلها لكسب الرزق , فقد كان هناك في الأربعينات و الخمسينات من القرن العشرين دكاكين لتأجير الدراجات و التي تعارفنا علي تسميتها بالعجلة أو البسكليت , و كان للعجلة شأن كبير كوسيلة للمواصلات و قد كان جل العمال إن لم يكن كلهم في مصلحة المخازن و المهمات و مصلحة الوابورات في الخرطوم بحري يمتلكون عجلات يذهبون بها إلى عملهم و يقضون بها مشاويرهم الخاصة , و لقد كتبت في مقال سابق عن العجلات في عطبرة و التي أطلقت عليها وصف مدينة الدراجات فهي في كثرتها كالحمير و الجمال في البادية .. أما في العاصمة و أمدرمان تحديدا لم تكن هناك سيارات خاصة إلا القليل منها لدي الأثرياء و الذين كانوا يعدون علي الأصابع , و كانت سيارات التاكسي قليلة و كان الترام أو الترماي أو الترماج كما يسميه العامة هو وسيلة المواصلات الوحيدة بين أمدرمان و الخرطوم يسير في الشارع الرئيسي الذي يشق المدينة وهو شارع الموردة الحالي و كان الشارع ضيقا يحتل الترام جانبا منه و الجانب الآخر للسيارات , ولم يكن يوجد بصات ركوب , ولم تكن المدينة بهذا الاتساع فكانت شمالا تنتهي بحي ود نوباوي و الكبجاب و تنتهي جنوبا بحي الموردة و غربا بحي العرضة ولم تكن أحياء الثورات وأم بدة قد شيدت بعد , و كان الناس يتنقلون في أحيائها علي أقدامهم و يقول الواحد انه جاء ممتطيا (2خ) يعني علي قدميه الاثنين فقد كانت لوحات العربات التابعة للخرطوم ولا زالت يرمز إليها بالحرف (خ) , و لنرجع إلى العجلات و العجلاتية , فقد كانت أقصى متعة للأولاد هي تأجير العجلات أيام العطلات و السير بها إلى أماكن بعيدة و كان تؤجر بالساعة و يتراوح إيجار الساعة من قرش ونصف إلى قرشين , وكنا كأولاد نكتفي بالإيجار لمدة ساعة – علي قدر قروشنا – و ربما غالطنا العجلاتي في بضعة دقائق زيادة فقد كانت المسألة تقديرية فلا نحن أو العجلاتي يمتلك ساعة .
كان اشهر عجلاتي في أمدرمان هو عوض كوج و كان دكانه ملاصقا لنادي الخريجين بامدرمان بشارع المهاتما غاندي أو شارع الدكاترة نسبة إلى عيادات الأطباء علي جانبيه بطول الشارع , وعجلات عوض كوج جيدة و يعتني بصيانتها , وكنت فيما بعد عندما اقتنيت عجلة جديدة اشتريتها بالتقسيط من محل حسن صالح خضر بامدرمان و كان ثمنها عشرة جنيهات و ماركتها (رالي) , وكان للجنيه و الذي مات بالسكتة القلبية في عهد الإنقاذ شأن و أي شأن فهو يساوي مائة قرشا و ألف مليما و يمكن أن تشتري بنصفه جلابية من قماش فاخر بخياطتها و تشتري (وقة) اللحم الضاني وهي اكثر من الكيلو بستة قروش و تشتري تسالي أو تمرا بمليم ورغيف خبز ضخم بخمسة مليمات ! كما أن مهر العروس يتراوح بين ثلاثين و خمسين جنيها !
و كانت شركتا دراجات رالي و فليبس يحتكران سوق الدراجات و تتخصص الثانية في الدراجات ذات الإطارات العريضة و التي يمكنها السير في الرمال , وكنت ادفع بعجلتي إلى عوض كوج ليعمل لها عمرة في كل شهر نظير خمسة و عشرين قرشا أو (طرادة) كما كان يقال لها , و استلمها منه كأنها جديدة ..
أما في سوق الموردة فقد كان هناك صدّيق العجلاتي و كنا نتعامل معه لانه ارخص و متساهل ولكن عجلاته عتيقة أكل الدهر عليها و شرب , ونجد العم صّديق ينفق معظم وقته في شد الفرامل ورتق ولحام الأنابيب الداخلية للإطارات و التي صار الكفر الداخلي منها من كثرة الرقع كجبة الدرويش , وكان من النادر أن نكمل الجولة بالعجلة دون أن ينفس الإطار و نضطر لسحبها و نحن راجلين لنستمع إلى تأنيب غاضب من العم صديق و نحن ندفع عن أنفسنا بالإيمان المغلظة أن العتب ليس علينا ولكن علي الدراجات الهالكة ! و برغم ذلك لا نرتدع عن تأجير عجلات العم صديق ولا يفتر هو عن صب غضبه و سخطه علينا ..
وكان غير المستطيعين من الأولاد علي إيجار العجلات يطلبون أن نعطيهم (سحبة) و معناها أن نجعله يركب العجلة لعدة دقائق وربما نرفض و نكتفي بإردافه أمامنا علي ماسورة العجلة ..
أما العجلاتي الثاني في السوق فهو العم مقبل وهو رجل جسيم طويل عريض و شديد الصرامة و لديه مسبحة كبيرة في مثل جسمه , ولكن عجلاته جيدة و نطلق عليها اسم (دبل) وهذه إطاراتها عريضة و يمكن أن تسير فوق التراب و الرمل بسهولة , ولكن كان إيجار العجلة لمدة ساعة بقرشين كما انه لم يكن يتسامح في التأخير و كنا نخشاه ولا نتعامل معه خوفا منه و من اجل القرشين , وكان الكبار الذين تضطرهم بعض المشاوير البعيدة يستأجرون منه العجلات . واجد نفسي احصر هذا المقال في عجلاتية اشهر سوقين في أمدرمان و هما السوق الكبير و سوق الموردة , و هناك سوق الشجرة الصغير الذي لا اعلم عنه شيئا .
و احسب أن العجلاتية قد اندثروا , ولكن شاهدت واحدا منهم مؤخرا في سوق الموردة لا زال يصارع للبقاء .
[email protected]
|
|
|
|
|
|