في ذكرى الثورة المجيدة خرجنا لنحتفل بالمناسبة، لم نكن نعرف بالضبط أية ثورة عظيمة كانت تلك التي سنحتفل
بها. لم نعرف الا بعد ان أحضروا لنا اللافتات القماشية الضخمة التي سنحملها فوق رؤوسنا ومكتوب عليها بالخطوط الزرقاء الكبيرة عاشت ذكرى ثورة يونيو العظيمة. كان الجو قائظا حتى أنّ أحد زملائي علّق هامسا حين أحرقتنا الشمس مجرد أن غادرنا مبنى الشركة التي نعمل بها. ألم يكن بإمكان هؤلاء العسكر الانتظار قليلا حتى يحل الشتاء، ثم يقوموا بثورتهم المجيدة هذه! شعرت برغبة في التمرغ في الأرض من فرط الرغبة في الضحك لكن الضحكة لم تخرج من جوفي، شعرت بقوة مجهولة تقمع ضحكتي وتحولها الى طاقة خوف مكبوتة ، قلت له: كيف تقول ذلك عن الثورة التي انقذتنا! نظر لي زميلي بإستغراب ولم يقل شيئا. رأيته يحمل احدى اللافتات ويرفعها عاليا ويزعق بصوت عال: عاشت الثورة العظيمة.. الموت للعملاء! حين ابتلعنا الشارع الذي كان على وشك ان يشتعل بفضل حرارة الصيف الجهنمية. بدأ زعيقنا يخفت كلما توغلنا في صمت الشارع، لأننا لم نجد أية إنسان يصفق للمسيرة او حتى يعبر بجانبها. كانت الشوارع خالية كأن كل شئ فيها ذاب بفضل القيظ، فجأة توقفت المسيرة المنهكة أمام طفل صغير عار لا يرتدي شيئا ، كان يمد يده طالبا للمساعدة. إنتبهنا الى أنفسنا في مرآة الطفل العاري، رأينا وجوهنا المحروقة بسبب الجحيم ، وملابسنا البيضاء التي رأينا في مرآة الطفل انها كان متشابهة لأنها كانت تعكس دواخلنا المفرغة من أية شئ في تلك اللحظة! بحثنا في جيوبنا عن شئ نعطيه للصبي فلم نجد شيئا، وجدنا في جيوبنا مفاتيح قديمة مغطاة بالصدأ وبقايا ألعاب أطفال، أعطي أحدنا للطفل الصغير لعبة بلاستيكية خضراء صغيرة تصور دبا ينطلق جاريا بمجرد ان تقوم بتعبئة مفتاح الظهر الذي يشبه مفتاح علبة السردين. بمجرد ان تسلم الصبي اللعبة وضعها في فمه وحاول ان يأكلها وحين استعصت اللعبة على أسنانه لفظها ومد يده مرة اخرى طالبا قطعة خبز، بدأنا نفتش جيوبنا مرة اخرى، خرجت في جنون التفتيش هذه المرة، قطع نقدية صغيرة يعلوها ايضا الصدأ لابد انها سحبت من التداول منذ سنوات منذ آخر تغيير للعملة الوطنية . أخرج احدهم وردة ذابلة يعلوها بعض الصدأ ودفع بها للصبي، حمل الصبي العاري الوردة ونظر اليها برهة، كان المنظر مدهشا لنا حتى انني حاولت الاحتفاظ بصورة تلك اللحظة المدهشة للصبي العاري الجائع الذي يحمل وردة في يده فيما الشمس الحارقة تحرس أو( تحرق)خلفية الصورة. لكنني لاحظت ان الصورة كانت تقاوم حفظها في الذاكرة وتحترق في كل لحظة من وطأة القيظ ، اكتشفت شيئا مثيرا: يمكنني حفظ الصورة في ذاكرة الصبي نفسه! تعلم الطفل بعض الحذر من تجربة اللعبة البلاستيك حتى انه دفع بجزء صغير من الوردة داخل فمه، تغير شكل وجهه كأنه وضع سما داخل فمه، تسلل مذاق السم الى فمي حتى انني دهشت ان وردة بهذا الجمال تحمل في دواخلها طبيعة عقرب! اخرج الطفل الوردة من فمه لكنه لم يلقها مثلما فعل مع لعبة البلاستيك. كان واضحا من حيرته أنه مقتنع بأن الوردة يمكن ان تساعد في شئ ما، لكنه لا يستطيع تحديده، رفع يده فإرتفعت الوردة بإتجاه الشمس وبدأ شكلها يتغير، سرى دم خفي في أوراقها فإستعادت نضار وردة لم تقطف أبدا وتحول لونها الى اللون الأحمر. عندها تقدمت المسيرة مرة أخرى وتجاوزت الطفل العاري صاحب الوردة الحمراء. ارتفعت اصواتنا مرة اخرى تزعق بنفس الشعارات المكتوبة على اللافتات التي نحملها، كأن مشهد الطفل العاري اعاد شحن بطاريات اصواتنا. ثم فجأة بدأت أصواتنا تخفت مرة أخرى، لتتوقف المسيرة للمرة الثانية فجاة على مشهد طفل صغيرعار آخر يمد يده طالبا المساعدة ! بدأنا نبحث في جيوبنا مرة اخرى ، وجدنا اشياء بلاستيكية رخيصة، قطعة حبل، قلم رصاص، عازل طبي خرج خطأ وشعر صاحبه بحرج شديد وحاول سحبه لكن الوقت كان قد فات. قال أحدنا: لا يوجد مال في جيوبنا رغم اننا نعمل في بنك الوطن! انتبهنا في تلك اللحظة للمفارقة الغريبة لكن ذلك لم يستمر سوى ثانية واحدة، ليتواصل البحث في الجيوب دون جدوى، اعطينا الطفل قلم الرصاص فوضعه فورا في فمه، يبدو ان طعم القلم الرصاص لم يكن سيئا كما كنا نعتقد، فقد أكل الصبي جزءا منه، تركنا الصبي يمضغ قلم الرصاص وواصلنا سيرنا، فجأة اكتسحتنا عاصفة خريفية حملت معها اليافطات القماشية الى الفضاء وهطل وابل غزير من المطر، لكننا واصلنا مسيرنا رغم عوائق الطبيعة. أصبح الجو باردا فجأة وارتجفت أجسامنا بسبب البرد والمطر. قال زميلي الذي انتقد ثورة الصيف في البداية: ألم يكن بإمكان هؤلاء العسكر الانتظار قليلا حتى يحل الصيف ثم يقوموا بثورتهم المجيدة هذه! قلت وكأنني منوم مغناطيسيا: كيف تقول ذلك عن الثورة التي انقذتنا! لم يندهش زميلي فقط لكلامي، لكنني ايضا دهشت مما قلت حتى انني لكمت رأسي لأتأكد أنني لم اكن أحلم. هز زميلي رأسه ثم رفع صوته بحياة الثورة العظيمة وموت العملاء والطابور الخامس والسادس. تقدمت المسيرة ،كنا نشعر أن مسيرتنا يجب أن تستمر رغم علمنا أنها تمضي دون هدف الى المجهول ، توقفنا مرة أخرى بعد قليل على منظر طفل ثالث عار يمد يده طالبا المساعدة. لم نتوقف كثيرا للبحث هذه المرة، أعطيناه قطعة الحبل البلاستيك التي بقيت معنا وواصلنا المسير دون حتى ان نعرف ان كان سيحاول أكل قطعة الحبل. فجاة توقفت المسيرة أمام جدار عال يمتد على مد البصر يمينا ويسارا. وقف الزميل صاحب ثورتي الشتاء والصيف واقترح ان نعود من حيث اتينا، قال عبارة غريبة لم يفكر فيها أحد: ربما وجد هذا الجدار لينبهنا الى انه لا يمكننا ان نستمر في مسيرتنا هذه الى الأبد. قال أحد زملائنا: هل تعرفون كم يوما لبثنا؟ تلفتنا جميعا نبحث عن إجابة، كان منظر ملابسنا يقول اننا لم نغيرها لعدة أيام وربما أشهر. عدنا من نفس الطريق الذي جئنا منه، حين مررنا بمكان الطفل الثالث الذي اعطيناه قطعة حبل، لم نجده في البداية، لكن حين اقتربنا وجدنا جسده مشنوقا يتدلى من شجرة قصيرة! لقد انتحر مستخدما نفس الحبل الذي اعطيناه له. رأينا أنفسنا في مرآته نرتدي أكفاننا البيضاء! مثل ثلة من الموتى يتظاهرون في الجحيم! وجدنا انفسنا نجلس أرضا وننخرط في البكاء، لم نعرف ان كنا نبكي على الطفل الذي شنق نفسه أو على صورتنا التي رأيناها في مرآة الطفل الميت. بكينا حتى استنزفنا آخر قطرة دمع، وحتى نسينا سبب بكائنا. قبل ان نواصل المسير، حين وصلنا الى مكان الطفل الثاني، اجتاحنا الفرح فقد كان الطفل حيا، كان لا يزال يمد يده طلبا لأية مساعدة. لم نجد أثرا لقلم الرصاص. حمل احدنا الطفل فوق رأسه وواصلنا المسير، مجرد أن رفعنا الطفل فوق رؤوسنا حتى بدأت الحياة تسري في عروق المسيرة المرهقة، وصلنا بعد قليل الى مكان الطفل الثالث وجدناه لا يزال حيا لحسن الحظ، كان قد استخدم وردتنا الحمراء كغطاء لعورته. حمله أحد زملائنا في المقدمة ووضعه فوق رأسه. ، قال زميلنا صاحب ثورات الشتاء والصيف : لدينا الان لافتات حية لانحتاج لننظر اليها كل مرة لنعرف ماذا نقول! لم نندهش هذه المرة لكلامه، شعرنا بمسيرتنا تصبح أكثر قوة وعددا وهي تهدر في طريق العودة الطويل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة