|
الصندوق الزجاجي بقلم عماد البليك
|
02:59 PM May, 09 2015 سودانيز اون لاين عماد البليك -مسقط-عمان مكتبتى فى سودانيزاونلاين
لا يحكى
"ليست هي مزحة يا أخي.. فقد.." يقاطعه الرجل الآخر الواقف قريبا منه. لكنه لا يراه.. في الظلام.. "تستطيع أن تقنعني بذلك.. ولكنني أبدا لن..." ثم ترتفع أصوات سيارات قديمة متهالكة في المكان وبشر يسيرون في تموجات سريعة كأنهم يلاحقون شيئا ما.. لا أحد من الرجلين الواقفين داخل الصندوق على علم بما يدور في الخارج.. سوى أنهما يشاهدان ويسمعان ولكن الصندوق ضيق لا يسمح بالرؤية لمسافة بعيدة.. حدود خمسة إلى عشرة أمتار ليس أكثر. تضحك سيدة كبيرة السن كانت في أخر الصف الطويل.. انتهى التموج.. وتشير إلى الصندوق وتمضي لتتلاشى في الأفق. *** مضت أيام على هذا الحال لا أحد ثائر أو مناضل رآهما لكي يخرجهما من هذا البؤس.. لكنهما لا يفكران فيه على أنه كذلك.. يظنان أنهما في نعيم أبدي.. أليس كل شيء متوفر هنا.. أليس ثمة من يأتي كل صباح ويقدم لنا الطعام والشراب ويسمعنا النكات المسلية التي يتداولها الناس في المدينة.. أليس لنا حوائط زجاجية نطل بها على الشارع ونرى ما يمكن أن يشعرنا بأننا جزءا من هذا العالم.. قال الرجل الأول: "العالم من هنا أجمل.. والخروج إليه يصنع القلق والتوتر ويفضح طبيعة الحياة.." "ولكن متى تعلمت أن تفهمها أنت؟" لا يرد الرجل الأول.. يصمت كثيرا.. ثم يشرع في نوم عميق. *** يبقى الرجل الثاني وحيدا تراوده أفكار شريرة جدا. كأن... ثم يستغفر الله.. ويبدأ في تسلية نفسه بأن يفعل أشياء تنسيه الظلام الذي بدأ يرخي سدوله شيئا فشيئا، فقد دخل ليل المدينة. إنها الحياة قاسية يقنع نفسه وعليه أن يصبر على هذا الجحيم.. اليوم فقط يكتشف أن ذلك الصندوق الزجاجي جحيما.. ينسى فكرته الشريرة.. أفكاره.. ينظر إلى صديقه على الأرض نائما ربما كان يحلم بالخروج من هنا.. يستغفر الله أنه فكر في ..... يشعر بالشفقة اتجاهه.. إنه إنسان مسامح وطيب.. صحيح إنه فعل في السنين الماضية جرائم كثيرة واستحق أن يكون هنا.. لكن لسنا كلنا طيبين.. يكلم الرجل نفسه.. ثم يتذكر أنه هو الآخر ليس إنسانيا كما يحاول أن يتصور نفسه أحيانا.. حتى لو أنه قرر التوبة.. ليس متأكدا أنه سوف يبقى هكذا محافظا على الخواص الجديدة التي بدأ يكسبها. *** منذ ان تم اختراع الصندوق دخله أناس كثيرون جدا.. وسيدخله آخرون. ولكن لا أحد يعلم الغيب!.. والمهم أن الصندوق يحافظ على قوته ومتانته وزجاجه اللامع.. ليس بمقدور أي رياح قوية أن تقتلعه أو توسخه بغبارها.. ولا أحد يتذكر أن الصندوق كان قد خضع للصيانة ذات يوم.. يقول المسؤول عن شأن الطعام والشراب: "إنه ساحر يبدل هيئته كل يوم ويلبس لباسا جديدا ويصبح أندى وأجمل وأرق" *** اليوم يقرر المسؤول الكبير أن يفرج عنهما.. عن الرجلين.. سوف يفتقدهما الزجاج والصندوق سوف يشعران بالوحشة قليلا.. فغالبا سوف يأتي رجلان آخران.. أو سيدتان.. أو رجل وسيدة.. لكن الزجاج يفضح كل شيء.. يرتفع صوت المسؤول ويفتح الباب يخرج الرجل الأول فالثاني.. يشعران بالشارع.. بالحرية كما تُسمى.. يتذكران الماضي القريب.. هنا في الصندوق المجاور.. ينظران للوراء يشعران بالحنين إلى الزجاج وإلى الحوارات التي كانت تدور بينهما.. بعضها طابعه فلسفي والبعض في مغامرات قديمة منسية لا يجوز أن تحكى أمام الملأ.. وأكثر ما يشتاقان لمرويات الرجل الذي يحضر الطعام والشراب وقصصه ونكاته المسلية.. فالواقع خارج الصندوق ليس فيه من نكات رائعة.. لأنك سوف تعيش النكتة وتكون جزءا منها.. من أصالتها وتركيبها وعطرها.. *** في الأفق البعيد.. ثمة سيارات قديمة متهالكة ما زالت تسير باتجاه مقاصدها المجهولة.. البشر أنفسهم يسيرون لا يلاحقون سوى غبار كثيف أمامهم يسد الرؤية.. الرجلان يفترقان ربما إلى الأبد.. ليس من تكهنات قوية بشأن المستقبل.. كل شيء جائز وغير جائز.. السيدة المسنة تعثرت عن السير ووقفت في انتظار من يساعدها على النهوض بعد أن جلست على الأرض.. ولكن يبدو أنها سوف تنتظر طويلا.. *** ينفتح باب الصندوق يدخل الرجل المسؤول الكبير يتفحص المكان.. يأمر الموظف المعني بأن ينظف الموقع جيدا ويبث العطر الفواح فيه، لأن هناك شخصية مرموقة سوف تزور الصندوق اليوم وسوف تتأكد من قوة الزجاج وصلابته وأنه غير قابل للكسر ويسمح بالرؤية تماما، إنها أبسط حقوق السجناء.. يقوم الرجل المعني بالواجبات بدقة.. لن يتعب كثيرا فالزجاج كما تعلمون نظيف جدا.. *** في الهزيع الأول من الليل تهب عواصف قوية جدا.. تعقبها أمطار.. يكون الصندوق قد هوى لأول مرة في تاريخه.. وتهشم الزجاج.. متناثرا على الشوارع المجاورة.. لا أحد يتجاسر على السير في الليالي المطيرة والعاصفة.. كل شيء يسكن إلا الذكريات في عقل تلك المسنة التي ما زالت جالسة لا أحد يساعدها. mailto:[email protected]@gmail.com
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- الحياة كما لو أنها فيلم أمريكي بقلم عماد البليك 05-08-15, 02:23 PM, عماد البليك
- الفنان الشامل! بقلم عماد البليك 05-06-15, 02:43 PM, عماد البليك
- العقل بين التخييل والتأويل بقلم عماد البليك 05-05-15, 02:55 PM, عماد البليك
- ما بعد الكرونولوجيا بقلم عماد البليك 05-04-15, 03:34 PM, عماد البليك
- عرس الزين والهوية بقلم عماد البليك 05-03-15, 03:05 PM, عماد البليك
- الطريق إلى خيال جديد بقلم عماد البليك 05-02-15, 03:12 PM, عماد البليك
- جدل الذات والمجموع بقلم عماد البليك 04-30-15, 02:36 PM, عماد البليك
- الميتاسياسة بدلا عن السياسة بقلم عماد البليك 04-27-15, 03:10 PM, عماد البليك
- الفيتوري والهوية البديلة بقلم عماد البليك 04-26-15, 03:37 PM, عماد البليك
- نحو مجتمع متحرر بقلم عماد البليك 04-25-15, 04:04 PM, عماد البليك
- المثقف والتنميط (2 – 2) بقلم عماد البليك 04-23-15, 02:22 PM, عماد البليك
- المثقف والتنميط (1 – 2) بقلم عماد البليك 04-22-15, 03:48 PM, عماد البليك
- القوة والإلهام والتفرد! بقلم عماد البليك 04-21-15, 02:34 PM, عماد البليك
- السودان 2050 ! بقلم عماد البليك 04-20-15, 02:22 PM, عماد البليك
- هل قرأ أوباما إدوارد سعيد ؟ بقلم عماد البليك 04-19-15, 02:45 PM, عماد البليك
- النظر إلى العالم بالمقلوب بقلم عماد البليك 04-16-15, 02:40 PM, عماد البليك
- صوتك الآخر! بقلم عماد البليك 04-15-15, 02:54 PM, عماد البليك
- بانسكي في السودان بقلم عماد البليك 04-14-15, 02:27 PM, عماد البليك
- نوستالجيا المثقف! بقلم عماد البليك 04-13-15, 02:52 PM, عماد البليك
- ترويض الفيلة بقلم عماد البليك 04-12-15, 03:45 PM, عماد البليك
- الجثة الطائرة ! بقلم عماد البليك 04-11-15, 02:39 PM, عماد البليك
- الزمن المفقود ! بقلم عماد البليك 04-09-15, 05:31 AM, عماد البليك
- معان لفلسفة السعادة ! بقلم عماد البليك 04-08-15, 02:42 PM, عماد البليك
- الشوفينية بقلم عماد البليك 04-07-15, 02:36 PM, عماد البليك
- أبريل في حيز المراجعة بقلم عماد البليك 04-06-15, 05:52 AM, عماد البليك
- التجربة الفنلندية بقلم عماد البليك 04-05-15, 03:17 PM, عماد البليك
- الطريق إلى تعليم جديد بقلم عماد البليك 04-04-15, 06:41 AM, عماد البليك
- في منهج بناء الشخصية بقلم عماد البليك 04-02-15, 02:22 PM, عماد البليك
- الاستشراق مرة أخرى! بقلم عماد البليك 04-01-15, 03:25 PM, عماد البليك
- الصور النمطية للسوداني بقلم عماد البليك 03-31-15, 03:02 PM, عماد البليك
- جدل الرواية والتاريخ بقلم عماد البليك 03-30-15, 02:56 PM, عماد البليك
- حنين القواديس ! بقلم عماد البليك 03-28-15, 03:21 PM, عماد البليك
- توثيق الفنون والتراث بقلم عماد البليك 03-27-15, 02:01 PM, عماد البليك
- رد الاعتبار للعرفان بقلم عماد البليك 03-25-15, 03:27 PM, عماد البليك
- إشكاليات الذائقة الجمالية بقلم عماد البليك 03-24-15, 03:16 PM, عماد البليك
- ابن عربي الهندي ! بقلم عماد البليك 03-23-15, 03:01 PM, عماد البليك
- صندوق "بنو حنظل" بقلم عماد البليك 03-19-15, 04:47 PM, عماد البليك
- ما بعد ريلكه ! بقلم عماد البليك 03-17-15, 04:27 PM, عماد البليك
- طقوس فنية في الحياة السودانية بقلم عماد البليك 03-16-15, 02:09 PM, عماد البليك
- الطبقات مرة أخرى ! بقلم عماد البليك 03-15-15, 02:13 PM, عماد البليك
- جهل كونديرا وفلسفة الاغتراب ! بقلم عماد البليك 03-12-15, 03:40 PM, عماد البليك
- الانتقام الرباني ! بقلم عماد البليك 03-11-15, 02:44 PM, عماد البليك
- أزمة النشر في السودان بقلم عماد البليك 03-10-15, 06:15 PM, عماد البليك
- الفاسد والمفُسِد بقلم عماد البليك 03-09-15, 02:44 PM, عماد البليك
- الاختلاف والهوية ! بقلم عماد البليك 03-08-15, 04:30 PM, عماد البليك
- الـديستوبيا ! بقلم عماد البليك 03-07-15, 03:15 PM, عماد البليك
- حقيقتي.. إرهابي ؟! بقلم عماد البليك 03-05-15, 01:37 PM, عماد البليك
- الساحر ينتظر المطر ! بقلم عماد البليك 03-04-15, 03:01 PM, عماد البليك
- سعة الأحلام وعبادة الصبر ! بقلم عماد البليك 03-03-15, 04:47 PM, عماد البليك
- عن سليم بركات والكرمل وعوالم أخرى! بقلم عماد البليك 03-02-15, 11:39 PM, عماد البليك
- وزارة الفلسفة! بقلم عماد البليك 03-02-15, 06:32 PM, عماد البليك
- صناعة الوهم ! بقلم عماد البليك 02-26-15, 04:02 PM, عماد البليك
- سينما.. سينما !! بقلم عماد البليك 02-25-15, 02:40 PM, عماد البليك
- واسيني والمريود بقلم عماد البليك 02-24-15, 03:57 PM, عماد البليك
- المدن الملعونة ! بقلم عماد البليك 02-22-15, 02:26 PM, عماد البليك
- نهاية عصر البطل ! بقلم عماد البليك 02-19-15, 02:24 PM, عماد البليك
- ما وراء الـتويوتا ! بقلم عماد البليك 02-18-15, 02:24 PM, عماد البليك
- حوار مع صديقي مُوسى ! بقلم عماد البليك 02-17-15, 05:44 AM, عماد البليك
- شياطين الحب وأشياء أخرى ! بقلم عماد البليك 02-15-15, 03:12 PM, عماد البليك
- الحداثة المزيفة وما بعدها المتوحش بقلم عماد البليك 02-14-15, 04:32 PM, عماد البليك
- ما بين السردية السياسية والمدونة الأدبية بقلم عماد البليك 02-13-15, 02:31 PM, عماد البليك
- قوالب الثقافة وهاجس التحرير بقلم عماد البليك 02-11-15, 02:50 PM, عماد البليك
- لا يُحكى..أزمة السودان الثقافية بقلم عماد البليك 02-10-15, 06:15 AM, عماد البليك
- لا يُحكى فقر "سيتوبلازمات" الفكر السياسي السوداني بقلم عماد البليك 02-09-15, 06:13 AM, عماد البليك
- عندما يُبعث عبد الرحيم أبوذكرى في "مسمار تشيخوف" بقلم – عماد البليك 07-26-14, 09:31 AM, عماد البليك
- إلى أي حد يمكن لفكرة الوطن أن تنتمي للماضي؟ بقلم – عماد البليك 07-06-14, 01:32 AM, عماد البليك
- المثقف السوداني.. الإنهزامية .. التنميط والدوغماتية 07-02-14, 10:33 AM, عماد البليك
- بهنس.. إرادة المسيح ضد تغييب المعنى ! عماد البليك 12-20-13, 04:08 PM, عماد البليك
- ما بين نُظم الشيخ ومؤسسية طه .. يكون التباكي ونسج الأشواق !! عماد البليك 12-16-13, 06:11 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (2- 20) عماد البليك 12-05-13, 07:01 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (1- 20) عماد البليك 12-02-13, 05:48 AM, عماد البليك
|
|
|
|
|
|