الشيخ عبد الرحمن إبراهيم جابر ( المُقدم ) : في حلبة الذكــر
عن أبي سعيد الخراز أنه قال : تٌهت في البادية مرةً ، فكُنتُ أقول :
أتيهُ فلا أرى من التّيه منْ أنا .. سوى مايقول الناسُ فيَّ وفي جنسي أتيهُ على جِنِّ البلاد وإنسّها .. فإن لم أجد شخصاً أتيه على نَفسي
قال : فسمعت هاتفاً يهتُف بي ويقول
:أيا منْ يرى الأسباب أعلى وجوده .. ويفرَحُ بالتيه الدّني وبالأنسِ فلو كنت من أهل الوجود حقيقةً .. لغِبت عن الأكوان والعرش والكُرسي وكنتَ بلا حال مع الله واقفاً .. تصان على التذكار للجِنِّ والإنسِ
* من كتاب الدكتورة آمنة بلعلى ( تحليل الخطاب الصوفي)
(1)
" عبد الرحمن المُقدَّم " . من أهلنا جَموعية الفتيحاب ، جنوب أمدرمان .شيخ من شيوخ الطرق الصوفية ، وهو من أهل " الجذب " و" الترجمة " ، التي هي من أسرار المتصوفة و شفافيتهم الروحيّة . تظهر الأعراض عند مرحلة من مراحل العُمق العَقدي ثم الجذب الروحي ، والانفلات من زخم الحياة التي نحياها . يكاد المرء عندها ، أن يتمرَّغ في أشواق المحبة الإلهية ، ومحبة " المصطفى " عليه أفضل الصلاة والتسليم. ينفلت من دُنيا الناس غير عالم بحاله . يتحدث خلالها بلغة أخرى ، ويغيب بُرهةً أو زماناً ،ثم يفيق .
(2)
هو فارع الطول ،عَبْل الكتفين . قوي الجسد . هجر دنياه الضيقة إلى سِعة العمل العام في مجتمع المتصوِّفة .يسترشد بالذكر جُلّ وقته ، ويَشُد وثاقه بالتقوى ، وسِعاية الخير بين الناس .عمِل لآخرته كأنه سيموت غداً . إخوته أربعة : عبد المطلب ، وجابر ، وعبد الله والحاج ، أبناء إبراهيم جابر . ووالدتهم : " بتول بنت بابكر الشتَّات" . احترف صيد الأسماك من " النيل الأبيض " والنيل الأزرق " ، الذي كان يسميهما أهلنا " بحر أبيض " أو السافِل و " بحر أزرق " . ترقَّى في عمله وزاول التجارة ، وحملَ " وكالة " التصدير إلى مصر منذ أربعينات القرن الماضي . لقبه هو " عبد الرحمن المُقدَّم " ، وكان مُقدماً في حلقة الذكر على نهج " الشيخ إبراهيم الكباشي " بشهادة موثقة من الخليفة " عبد الوهاب والشيخ أبوقرجة " . من زريته المُباشرة : " زينب " و" حبيب الله " و" الجيلاني " والسِّر " وصديقنا الصدوق " النيّل ".
كان أنصارياً ، في محبته ،للسيد عبد الرحمن المهدي و لأبناء الإمام . له قصص مع " السيد الصدِّيق عبد الرحمن المهدي " . أحدها أن جاء لزيارته في منزله بأبي كدوك ، فكان أن أمر بهدم الحائط حتى يدخل موكب الضيف .ورغم ذلك تسامحتْ روحه ، مع رجال المتصوِّفة السُنيين من المدارس الأخرى المُتعددة في السودان ، التي اختلفت أورادها ، وطرائق الذكر عندها ، فكانت نفسه عامرة بالمحبة ، تتدفق ينابيعها على الجميع .
(3)
في يوم من أيام ستينات القرن الماضي ، كان من ضِمن مُستقبلي السيد "إسماعيل الأزهري " في محطة السكك الحديدية في الخرطوم ، وكان حينها الزعيم رئيساً لمجلس السيادة . فجّ هو صفوف المُستقبلين مُقتحماً ، وداهمته حالة الجَّذب الصوّفية فترجَّم . دعى الأزهري سكرتيره " أحمد الرُفاعي " أن يعطيه بطاقته ، ويدعوه لزيارته في " القصر الجمهوري " ، فذهب معه ابنه " النيَّل عبد الرحمن المُقدم " وكان حينها صغير السّن . وجد عند وفادته طيب نفسٍ وكرم أصيل عند الزعيم " إسماعيل الأزهري ".
(4)
تلك قبس من مَحطات قطار العُمر ، طفحت من بركة عميقة . يعلم كثيرون أن الشاعر " محمد المهدي المجذوب " قد انتضى من كِنانته سهماً شِعرياً ، يوصف فيه احتفالات أمادرمان بالمولد النبوي . حين كانت تبدأ " الزفَّة " منذ ثبوت شهر ربيع الأول ، وكانت تستمر الاحتفالات إلى ليل الحادي عشر وفجر الثاني عشر . يسهر الجميع: نساء وأطفال ورجال حتى السادسة من صباح العيد النبوي الموافق 12 من ربيع الأول :
يقرأ الجميع طائفة من قصة مَولد المُصطفى من سِفر مولد " البرزنجي " :
مَــــولــــدٌ كـــان مـــنـُـــه فـــي طـــالـــــع الـكـُــفـــرِ و بــــالٌ عــلــيــهـــم و وبــــــاءُ و تــوالـــت بُــشــرى الـهــواتـــف أن قـــد ْوُلِــــدَ الـمـصـطــفــى و حَــــــقَّ الـهــنـــاءُ
(5)
تخيّر لنا الباحث في التراث ، وصائد لؤلؤ الأشعار : " عبد الكريم الكابلي " خرزة من ذلك الزمان . بحث هو عن قصيدة الشاعر المخضّرم " محمد المهدي المَجذوب " . فتح كِنانة المخزون في ديوان الشاعر ( نار المجاذيب ) ، وانتقى منها أيقونة ( المولد ) التي كتبها صاحبها عام 1957 م .
وكان الشاعر يزور حفاوة العامّة والخاصة بأعياد مولد النبي الأكرم . شَهِد " المجذوب " "عبد الرحمن إبراهيم جابر المُقدم " ، فجاء خبره في سيرة القصيدة ":
صَلَّ يا ربِّ على المُدثِّرِوتَجاوَزْ عن ذنوبي وأَعِنِّي يا إِلهي بمَتابٍ أَكْبَرِ فزَّماني وَلِعٌ بالمُنكرِ
** دَرَجَ الناسُ على غيرِ الهُدى وتعادَوْا شَهَواتِ وتَمَادَوْا
**
حتى يأتِ في قصيدته تلك على ذكر " الشيخ عبد الرحمن إبراهيم جابر المقدم " :
انتقل الشيخ " عبد الرحمن إبراهيم جابر المُقَدَّمْ " إلى الرفيق الأعلى ، ووري الثرى بمقابر الشيخ حمد النيل عام 1981 .
اللهم أدخله إلى رحابك الجليل ، مَدخَل الذين أحببت من عبادك ، فقد عَرِف الطريق إليك منذ بواكير طفولته و شبابه وإلى المشيب .لم يرَ في الدُنيا حبيباً خصَّه بذات نفسه إلا أنت وخاتم النبيين ، واجتمع في محبة الله من الأحباب عنده الكثيرون ، فبسطة يده وبسمه وأريحيته تُنير وجها أخلص إليك ظاهراً وباطناً .لجلالِك مالتْ دوحة شجنه و فكره .شجرةٌ أينعتْ ويحين قِطافها كل عامٍ في ذكراه .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة