|
السودنة فى إطار كلى بقلم محمود محمد ياسين
|
هذا المقال مساهمة فى إلقاء الضوء على مسألة السودنة حفزنى على كتابته النقاش الدائر علي المواقع الإسفيرية حول الموضوع. ونشير الى أن السودنة هى عملية إنتقال إدارة الدولة السودانية من أيدى البريطانيين والمصريين إلى السودانيين بموجب الإتفاقية التى منحت السودان الحكم الذاتي فى 1953.
سلامة الراى الذى يشير الى دور السودنة فى احداث 1955 الدامية بجنوب السودان تدعمه حقائق ثابتة لا لبس فيها تمثلت فى الاستئثار الشمالى على الوظائف فى الاقليم التى اخلاها الانجليز فى مجالات الخدمة المدنية والجيش والبوليس. ففساد قسمة الوظائف كان من الاسباب فى تفجر الوضع فى جنوب السودان آنذاك.
وأيضاً، صحيح ان التكالب على وظائف الانجليز لم يكن مجرد ”تصعير خد شمالي وجشع“، فافتقار عملية السودنة للعدل كان وراءه توجه سياسى أتى تعبيراً عن واقع إقتصادى وإجتماعى سارت عليه القوى الاجتماعية التى ورثت الحكم من المستعمر؛ لهذا فإن السودنة من المظاهر السطحية التى يحول الوقوف المقتصر عليها بيننا وبين الرؤية المتعمقة للواقع فى كليته.
إن حقائق الواقع الإقتصادى منذ فترة الحكم الذاتى (1953-1956) كشفت عن إحتفاظ الحكام الوطنيين بوضع السودان كبلد ينحصر نشاطه الإقتصادى فى انتاج المواد الاولية تماماً كما اراد له حاكم عام السودان ريجنالد ونجت الذى أعلن فى 1920 أن محور السياسة الاقتصادية لبريطانيا فى السودان هو تهيئة المناخ لاستثمار رؤوس الاموال الواردة للبلاد فى مجال الزراعة لانتاج المحاصيل النقدية. وهكذا صارت الدولة السودانية (ركيزة الحكم فيها آنذاك الطائفية السياسية) عبارة عن جسر لتكريس التبعية بعد أن زال أسلوب فرضها بالحكم الاستعمارى المباشر. ولجعل هذا الواقع مستداماً أتمت الحكومات الوطنية قهر الحركة النقابية الذى بدأه الانجليز منذ ميلادها فى عهدهم. فالتبعية تعنى الإفقار وإخضاع العمال والمزارعين لابشع انواع الإستغلال. لهذا حاربت أول حكومة وطنية ( حكومة الحزب الوطني الاتحادي) الحركة النقابية ومطالبها فى الإعتراف بتنظيماتها وتحسين شروط خدمة أعضائها (الأجور)؛ ولإخضاع شعوب الجنوب للإستغلال ماطلت الحكومة فى تحقيق قسمة متوازنة للوظائف المسودنة ومساواة الأجور بين العاملين فى الشمال والجنوب. كما أن الطبقة الحاكمة استغلت السودنة من أجل تقوية جهاز الدولة البيروقراطي وبالتالى إحكام سيطرتها عليه وذلك إستنادًا على الشعار المخادع ”تحرير لا تعمير“ للحزب الوطنى الإتحادى؛ فبموجب ذلك الشعار تمت سودنة الوظائف العليا فى وقت وجيز، فقد كان المقصود من التحرير سودنة الوظائف فقط ولا شى آخر.
نقيضاً للقوى الإجتماعية المتنفذة وتوجهها المعادى للحركة النقابية والمجحف لحقوق المناطق المتخلفة وُجِدت المعارضة اليسارية الداعمة للحركة النقابية. وفى هذا الخصوص لم يكن للشيوعيين الدور الأكبر فى المبادرة لوضع اللبنات الاولى لتنظيم نقابات العمال والمزارعين ككيانات مطلبية فقط، بل اشاعوا وسط أعضائها الوعى السياسى الذى يجعلهم يدركون أن مستقبلهم الآنى والآجل رهين علاقات الإنتاج وتطورها، وكان هذا هو الإطار الذى تناولوا فيه قضيتى الوظائف المسودنة بجنوب السودان وعدم التكافؤ فى الاجور بين مكتسبيها فى الشمال والجنوب. وخلافاً للشعارات الفضفاضة المجردة حول العدالة والمساواة، نظر الشيوعيون لحل هاتين القضيتين كعملية موضوعية تحكمها درجة تطور المجتمع وليست الرغبات الذاتية؛ كما أبانوا أن إلغاء الفوارق بين العاملين فى كل أقاليم البلاد يشكل عاملاً حاسماً فى تكريس الوحدة الوطنية وشرطاً أساسياً لتحقيق التحرر الكامل.
إنعكس هذا التناول الجديد لقضايا السودان مقابل النظرة التقليدية فيما يخص قضية السودنة ومسالة المساواة فى الأجور فى مداولات البرلمان فى فترة الحكم الذاتى وبعد الإستقلال. ففى الجلسة الثانية - الدورة السابعة للبرلمان فى 1954، التى خصصت لمناقشة سياسة الحكومة تجاه المناطق المتخلفة، خاطب النائب حسن الطاهر زروق البرلمان قائلاً : ”التحدث عن المناطق المتخلفة يوهم السامع بأن بعض أجزاء البلاد متقدمة راقية، والواقع أن كل السودان يعانى تأخراً ثقافياً وإقتصادياً.......ولكن قبل التحدث عن تلك المشكلة أو علاجها ينبغى أن نذكر دائماً أن السبب المباشر لهذا التأخر، هو الاستعمار البريطانى الذى يجب أن ندين حكمه خلال الاربعة وخمسين عاماً الأخيرة “. وإستصحب النائب رأيه هذا حتى بعد أن نال السودان الإستقلال السياسى فكان إعتقاده أن حالة التخلف لن تزول ما لم تُستكمل مهمة التحرر الوطنى. ففى الجلسة التاسعة لبرلمان 1956 هاجم حالة التوتر والإضطراب التى تشيعها الاحزاب فى الحياة السياسية ودعا لتشكيل حكومة قومية قال أن مهمتها تكون ” تنفيذ برنامج وطنى ديمقراطى يُمكَّن من تحديد سياسة خارجية مستقلة ضد الأحلاف العسكرية ومواثيق الإستعمار ....مما يؤمن إستقلال هذا الوطن ويحميه .... هذا هو الطريق الذى نسير به للخروج من الازمة السياسية بوحدة وطنية تناضل لإستكمال استقلالنا الوطنى....“
إن مداخلات النائب حسن الطاهر زروق عكست موقف الشيوعيين آنذاك الداعى للنظر فى قضايا الوطن فى إطار كلى يجعل بالضرورة إعطاء الأولوية لمسألة التحرر الكامل من التبعية وقيام الحكم على أساس برنامج وطنى ديمقراطى كشرط لحلول أزمات الوطن بشكل مستدام.
وجدت الافكار الجديدة صدى إيجابياً وسط النقابات العمالية وكان لها أثراً كبيراً فى رفع وعى أعضائها وعبدت الطريق أمامهم للعمل من أجل تحسين ظروف عملهم وحماية حقوقهم؛ كما أن هذه الأفكار هى ما جعل موقف العمال الشماليين ينم عن همة فائقة فى مساعدة الجنوبيين نيل حقوقهم بشأن المساواة فى الأجور. ويبدو معقولاً وصف هذا الموقف بإقتسام الاستغلال (إستخدام راس المال للأجور ينطوى فى حد ذاته على الإستغلال)، وهو وصف أقرب من إعتباره تنازلاً عن أو إطراحاً لإمتياز (unlearning of privilege) وفقاً للنظرية الغائمة للمفكرة الهندية قياتري سبيفاك؛ فالعمال الشماليين وظفوا إمتيازهم النسبى على أقرانهم الجنوبيين لتحقيق مبدأ ”الأجر المتساوى للعمل المتساوى“ الذى لم يغب عن قائمة مطالب الجنوبيين أنفسهم. والجدير ذكره أن سعى الشيوعيين لتحقيق سودنة عادلة ومساواة فى الأجور لم يجد التجاوب المأمول من القوميين الجنوبيين المنتمين للبرجوازية الصغيرة؛ فهؤلاء لم يُقدِّروا فكرة ضرورة النظر لقضايا العاملين الآنية كمفردات جزئية هى محصلة للنظام الاجتماعى الاقتصادى، وبالتالى العمل على حلها الجزئى والجذرى يقتضى وضع الصورة الكلية للمشهد فى الإعتبار. وموقف القوميين الجنوبيين لم ينشأ من فراغ إذ كان تعبيراً عن وضعهم الطبقى كبرجوازية صغيرة صاحبة النزعة المتسمة دوماً بالسعى الدؤوب لان تصبح جزءاً من الشرائح العليا للبرجوازية، ومن ناحية أخرى الوقوف العرضى مع العمال الذى لا يحدث الا لتقوية موقفها على الصعيد السياسى فهى طبقة صغيرة من حيث ملكيتها لوسائل الإنتاج وضعيفة الفعالية الإقتصادية.
التعبير عن عدم توافق الجنوبيين مع الأفكار الجديدة نجده فى الجلسة الثانية - الدورة السابعة للبرلمان فى 1954، المشار اليها سابقاً؛ ففى تلك الجلسة بعد أن إستهجن مزايدات نواب الأحزاب الطائفية فى إظهار التعاطف مع الجنوبيين، لم يدارى حسن الطاهر زروق تبرمه من موقف الكتلة البرلمانية الجنوبية من قضية الوحدة الوطنية، التى أصر نوابها على قيام الفدرالية فوراً أو تقسيم السودان الى بلدين، فوجه حديثه لهم قائلاً: ”.......بقيت بعد ذلك مسألة جاءت فى حديث بعض الاعضاء المحترمين وهى (جنوبة) الجنوب، اننى أعتقد انه حتى بعد إنقضاء الاعوام الثلاثة فان السودنة لن تتم ولأن الجنوبيين إنما يقصدون بالجنوبة الانفراد بإدارة بلادهم وفى هذا تاخير لحرية البلاد، وهناك مبدأ آخر مستمد من إيماننا بوحدة هذه البلاد ، ألا وهو أن يعمل الناس فى كل الوظائف فى السودان شماله وجنوبه دون تفرقة أو تمييز، ولكنه لا يمكننا أن نقوم بخدمة هذا الغرض إذا راينا من اخوننا الجنوبيين تذمراً واحتجاجاً طول الوقت، وعليه فانى أناشدهم بأن يقدموا مشروعاً يساهمون به فى تطور الجنوب وبذلك يرسمون خطوة عملية تغنينا عن هذا التذمر والاحتجاج.“
رَّفْض القوميين الجنوبيين للطبقة كأداة لتفسير التخلف وإعراضهم عن برنامج التغيير الوطنى الديمقراطى على المستوى النقابي والسياسى بشكل عام ولجؤوهم الى الإنشغال بالمسالة العِرقيَّة جعلهم يرون أن حل مشكلة الهوية هو حل لمشاكل الاقليم بما فيها قضية المساواة التى تناولناها أعلاه.
—————————————— العرض السابق يتعلق بجزء من تاريخ وقائع إستقلال السودان. ومنذ ذلك التاريخ ظلت الحكومات المتعاقبة للطبقة المتنفذة تمارس كل صنوف القهر على شعوب السودان بهدف تعزيز مركزها الإقتصادى، وكانت النتيجة الظروف العصيبة التى تمر بها البلاد حالياً. وعلى صعيد النشاط السياسى للقوميين الجنوبيين فإنهم سلكوا مساراً ظل يتسم بإعادة تدوير النظرة الهووية خلال العقود اللاحقة مصحوبة بتجاهل أكثر لحقيقة الاختلاف فى النظر لمسألة القوميات بين القوى الإجتماعية فى السودان؛ وكان التجاهل بيناً رغم شعار تحرير السودان الذى جاء مبهماً. وهذا المسار غير مُعْفىً من نصيبه فى تقسيم البلاد والوضع المأساوى الذى وصلت له دولة جنوب السودان إثر الإنفصال الذى لم يستند على رؤى تنسجم مع مطامح شعوب الجنوب ومصلحة دولتهم.
ونختتم بالقول أنه إذا اردنا أن تكون نظرتنا لأحداث الماضى أكثر عمقاً علينا أن ننطلق من إشكاليات الحاضر وقضاياه، أى تشخيص الماضى على ضوء مشاكل الحاضر. عرَّفَ الفيلسوف الإيطالى الراحل بنديتو كروتشه التاريخ: ” التاريخ بأجمعه هو تاريخ معاصر“–(all history is contemporary history). كان كروتشه فيلسوفاً مثالياً ولكنه أدرك عين الصواب بتعريفه للتاريخ.
مكتبة شوقى بدرى(shawgi badri)
|
|
|
|
|
|