|
الرمزية في "اسطورة" الأصل و الوسم عند الهواوير الروباب عبدالرحيم محمد صالح
|
[email protected]
أجمع الرواة أنّ حامد ود رُوُبة هو جد الهواوير الرُّوباب. وكانت أمه رُوُبة، حسب وصفهم، أجمل بنات الهواوير وأعدلهن قواماً وأكثرهن صّبَاحَة ووَضَاءَة وارجحهن عقلا وأصدقهن لساناً إلا أنّها كانت عنوداً عنيدة وجاسرة شَرِيسة. وصل عصيانها وعنادها حده حينما رفضت الزواج من أبناء عمومتها واحداً تلو الآخر وأصرت أن تتزوج من "يملا عينها" ففسر أبناء عمومتها قولها ذلك أنهم دون المقام. فكثرت عليها الضغوط وأشتدت بل أراد بعضهم "أخدها" عنوة قَهْراً وأُذلالاً لما حسبوه أنتقاصا لقدرهم. فمنهم من هدد بخطفها ومنهم من أقسم بقتلها فالتهمتها نيران غضب الأهل والعشيرة وقَهَرَتْها حتى شرد ذهنها وفقدت عقلها وصارت مجنونة فصاروا عليها من الشامتين ثم تروكها وإمها المجبورة عليها جوار عدٍ شحيح ونشقوا فقومها الهواوير أهل تجْوال وتّطْواف. ظلت هي ووالدتها بجوار ذلك العِد حولاً كاملاً نسوة فَقَائِر يلتمسن الفضل من واردي العد في النهار ويأْوين إِلى رفّة شيّدنها حول جذع شجرة قريب إلا أن مرّ بهما شيخ سائح قاصداً بيت الله الحرام (تكروني في روايات وفلاتي في روايات أخرى ). انتبه الشيخ الزائر لجمالها الفائق الأخاذ وقال إنه يستطيع علاجها بإذن الله إن زوجوها له. فحضر أبناء عمومتها، الذين كانوا قد فقدوا الأمل في شفائها، فتشاوروا أمرهم بينهم ومكروا وأسروا أمرهم بينهم ولكنّهم وافقوا على الزواج. ما أن عالجها الشيخ حتى أغلظوا عليه وأخذوه خارج حدود وادي المقدّم وطردوه شر طردة بعد أن هددوه أن لا يذكر ذلك لأحد. تركهم وذهب في حال سبيله. في صبيحة التالي انتكست رُوبة وعادت إلى حالتها الأولى، فاسرع اهلها خلف الشيخ السائح يسألون عنه ويقصّون أثره إلى أن وجوده وأحضروه . جلس الشيخ ثم أفتى قائلا يجوز زواج المجنونة والخارجة على أهلها ولكنّه لن يعالجها هذه المرة إلا إذا عقد عليها على سنة الله ورسوله. فتزوجها وأمضى معها ليلة واحدة وتركها قاصداً الحج إلى بيت الله الحرام. حبلت روبة في تلك الليلة وأنجبت أبناً وسيماً أسمته حامد. نشأ حامد بين أبناء عمه وأقاربه الذين كانوا يدعونه حامد ود روبة. فتح الله عليه في الرزق وصار من شباب القبيلة الأقوياء ووجهائها. كان كلما سأل أمه عن من هو والده تلزم الصمت فيرى في عينيها ما لا تود أن تحكيه فالصمت أحياناً أبلغ من الكلام! إلى أن جاء يوماً ضاق صدره بمناداته "ود رُوبة" فدخل في مواجهة مع أمه مهدداً بأن ينجع قائلاً "أكان ما كنت ود حرام وريني أبوي منو". جرحتها كلماته القاسية وأحزنتها وتماسكت وأخبرته بما كتمته عنه عقوداً خوفا على شعوره . شعر بعدها بذنب سوء الظن وسعد بأن له اباً مثل الآخرين وأن كان لم يره أو يسمع به من قبل ثم استدرك قائلا ماذا ترك لي؟ فاحضرت له زقاً صغيراً فتحه على عجل فوجد بداخله المصحف الشريف والعصا التي كان قرأ عليها وقرعها بها على رأسها فشفيت بأذن الله. ثم فتح المصحف فوقعت عينه على عبارة "لا إله الله هو الحي القيوم" نظر ملياً وأعجبته اللام ألف في الآية وطريقة كتابتها. خرج صائحا لإعلان أخواله " ياناس هووي من اليوم دا أنا فلاتي وما عندكم عليّ طلب ولا شورة"، أي غير مُلزَم بمشاورتهم في أي أمرٍ يخصه". فرز أبله وأغنامه عنهم وأضاف فرزاً جديد لوسم الهواوير المعروف بالقلايد (القلائد). وهو وسم على هئية الرقم and#1633;and#1633; يوضع على رقبة البعير من الجهة اليمنى. وكل وسم قبيلة عام في السودان جهة اليمين تيمننا وإن كان الفرز أحياناً يُوضع جهة اليسار وهذا عرف ثابت. القلايد جمع قلادة وهي في أصلها ما توضع على أثداء الإبل ولكن عند الهواوير القلادة هي ما يُجعَل على العنق. الفزر وسم يضاف إلى الوسم العام، يكون داخل القبيلة الواحدة أو الفرع العشائري، وذلك للتفريق بين الممتلكات من الإبل داخل القبيلة الواحدة ولتسهيل البحث والتصنيف (إي الوسم علامة عامة لكل القبيلة أما الفرز فعادة علامة إضافية بواسطة البطون المختلفة داخل القبيلة الواحدة) .فأضاف المطرق على شكل العصا المعكوفة فصارت تشبه المحجان ولكنها تختلف عند الوسامين من حيث الطول فالمحجان أطول من العصا في الوسم وأن كان الكثيرون لا يرون فرقاً. أختار حامد المطرق التي تركها أبوه فوضعها على يمين القلايد فصارت على هيئة II حيث شكل الأخيرة معكوفاً قليلا ويعرف بالمطرق أو المجحان. ثم أضاف اللام ألف كما تكتب برواية ورش وهي أول ما وقعت عليه عينه عندما فتح المصحف الشريف. وأينما وجدت بعيراً يحمل القلائد والمطرق أو المحجان واللام ألف جهة اليمين تأكد يقيناً أنك تنظر إلى بعير من أبل الهواوير الروباب، يجب الانتباه إلى عدم الخلط بين وسم المقص والباب المخلوف باللام ألف. الوسم عند البدو من أهل السودان يكاد يكون مقدساً فهو جزء من هويتهم واستقر في نفوسهم وألفوه في معاملاتهم واستقامت عليه أمورهم فهو جواز سفر وبطاقة وتصريح للرعي ورقم حساب. وهذا ما يجعله يختلف القوانين عن التي تفرض على الناس فرضا أما العرف القبلي فقد أختاروه بأنفسهم ورضوا به لأنفسهم وتقبله منهم الآخرون وهذا هو سر قوة العرف والإلتزام به. فالبدو في السودن مأتمنون على أوسامهم لا يغيرونها أو يتلاعبون بها. فقد شهدنا مانقلته وسائل الإعلام عن الخلافات والنزاعات على وسم إبل المشاركين في مهرجانات الهجن في بعض دول الخليج حيث يصل الأمر أحياناً إلى المحاكم. ولا أظن ذلك يحدث في السودان وذلك لوضوح اعراف الوسم ودقة تفاصليها. حيث لا يغير الوسم ولا يعدل حتى في حالات انتقال الملكية في حالات الإهداء والبيع، فالمشتري من خارج القبيلة يحق له وضع وسم مخلف على ولد (تيراب) الأناث إن ولِدت فتيراب الذكور لا وزن له فالأصل النوق وليست الجمال رغم أهتمام البدو بإختيار المُقرَع الفحل عندما تسْتَقرَع لَقْوَة من النوق. المهدية والروباب ومنشأ الأحداث: من المعروف أن القبائل البدوية في شمال كردفان قبل العهد التركي كانت تنقسم إلى قسمين، قسم يوالي سلطنة الفونج (and#1633;and#1637;and#1632;and#1633; إلى and#1633;and#1640;and#1634;and#1633;) وآخر يوالي سلطنات الكيرا (and#1633;and#1638;and#1637;and#1632; إلى and#1633;and#1640;and#1639;and#1638;، and#1633;and#1640;and#1641;and#1641;إلى and#1633;and#1641;and#1633;and#1638;) وكانت بين القسمين حروب وسجالات (Browne 1801). بعض الروايات الشفاهية، على قلتها، تذكر الهواوير عرضا قبل بداية القرن التاسع عشر، وأهمها وصول المماليك إلى "مدينة" دنقلا الأوردي التي أخطتها أحمد بك المنفوخ (العُرْضي حالياً) حيث أغار المماليك على بعض الرعاة الكبابيش والهواوير بالواحات غرب دنقلا وأسروا الأطفال دون النساء. فالمماليك محاربون أشداء وكانوا يعلمون جيداً أنّ أختطاف النساء يعني الحرب. فأسروا الأطفال وساوموا القبيلتين على حمايتهم من الناحية الغربية حتى يتفرغوا لمجابهة أعدائهم من الشمال (الأتراك) ومن الجنوب (الشايقية) وسكنت بعض أسر الأطفال الأسرى من الكبابيش قريبا من الأوردي وأصبح مكان إقامتهم نواة لمدينة الديم (دنقلا) والتي أصبحت فيم بعد مقراً لعمودية الكبابيش النوراب (جماعة فضل المولى ود رخا). لم تخضع قبائل شمال كردفان من الكبابيش والهواوير لسلطة الحكومة التركية رغم أداء قسم الولاء والطاعة وقد أطلقت الحكومة التركية يد الكبابيش وحلفائهم الهواوير على اعدائهم النوبة في جبل حرازة وبني جرار والحمر الذين كانوا موالين لسلطنة دارفور وممثلها في الأبيض. بل ودعمتهم في غاراتهم على تخوم دارفور وخاصة غاراتهم على بني جرار والحمر والزيادية (Parkyns 1850) فاستطاع الكبابيش السيطرة على آبار كجمر والمراعي الغنية في شرق كردفان وكونوا قوة أقتصادية وقبلية لها وزنها. كان للخليفة عبدالله عداء شديد وواضح للشيخ صالح زعيم الكبابيش بعد رفض الأخير صراحة الحضور لإمدرمان للتأدب بأدآب المهدية (يذكر عدو الله صالح في بعض خطابات الخليفة). ودبر الخليفة بحنكة للفتك بالشيخ وأولها تدابيراته كانت إهدار دم الشيخ وتأليب أعدائه عليه. فارسل إلي الأمير النجومي في دنقلا لقطع الطريق قوافل الكبابيش ومصادرتها وجعل سرية بقيادة مكين النور في واحة قعب اللقية أحدى واحات الكبابيش في الصحراء غرب دنقلا وأرسل أخرى بقيادة عثمان أزرق إلى عيلاوي وثالثة بقيادة أحمد الطيب البصير في عين حامد. فتم سد المنافذ الشمالية على الكباببيش والهواوير وأثمر ذلك الحصار في القبض على نوفل النمساوي ومصادرة and#1634;and#1632;and#1632; بندقية رمنقتون و and#1636;and#1632; صندوق خبخانة وand#1633;and#1633; طبنجة سداسية كانت أرسلتها المخابرات الأنجليزية دعماً للشيخ وقبيلته المتمردة على سلطات الخليفة. وتم فوراً قتل أقارب الشيخ دون الآخرين وتم أسر and#1636;and#1635; من رجال الكبابيش أرسلوا إلى إمدرمان كما هو معروف (أنظر خطاب الأمير عبدالرحمن النجومي إلى خليفة المهدي بتاريخ and#1634; شعبان and#1633;and#1635;and#1632;and#1636; هجري الموافق and#1634;and#1638; أبريل and#1633;and#1640;and#1640;and#1638;م) .وتم انتهاج سياسة مماثلة على الحدود الغربية من دارفور. واستطاع الخليفة تأليب أعداء الشيخ في دار حامد وخاصة بني جرار وقيل إن الخليفة وبّخ الأمير جريجير بعدم قدرته الأخذ بثأر عمه وأخيه الذين قتلهم الكبابيش في صراعهم مع بعض قبائل دار حامد عامة وبني جرار على وجه الخصوص كما أرسل الخليفة الأمير ود نوباوي وبعض أعيان أولاد تمساح وازدادت الحملات التى أدت إلى تسليم الشيخ بعد مقتل ثلاثة من أخوته ووقوع خاصة أسرته في الأسر حيث سلم الشيخ وجلس على الفروة إلى أن قتله الأمير جريجير بضربة فأس على رأسه وأرسل رأس الشيخ المقطوعة في "مخلاية" إلى أم درمان وفي ذلك "ضرب قراب" بائن كان القصد منه أعداء المهدية من الكبابيش والهواوير! ( أنظر مقال فرش الفروة). حاول الخليفة ضم الهواوير في حربه ضد الشيخ صالح. وتقول الروايات الشفاهية أن الخليفة كان حذراً في تعامله مع الهواوير وخشي أن يقفوا مع خصمه الشيخ فأرسل إليهم يحثهم على الجهاد ودفع الزكاة إلى بيت المال فوافقوا على دفع زكاة الأبل وتم إنشاء حوش لجمع الزكاة جوار جبل كان يُسمى الجبل يعرف الآن بجبل الحوش. واستطاع استمالة معظم الهواوير الروباب إلى جانبه عدا قلة من شيوخهم وأحدث بذلك أول انشقاق في جسم كيان الهواوير وتم وسم أبل المجوعة الموالية لضمان عدم تعرض أهلها للعقوبات التي فرضها الخليفة على غير الموالين. جرت عدة محاولات لإثناء الروباب الموالين وعدولهم عن موفقهم ولكنها جوبهت بالرفض المطلق من المنشقين .المعروف أنّ ليس كل الهواوير كانوا ضد المهدية فالشيخ آدم ود كردم شيخ الهواوير الموالكة قدم خدم أميراً في المهدية وكذلك الشيخ جابر ودتقى شيخ الهواوير الخماسمين أشهر قائد غارات (همباتي) في تاريخ الهواوير دون منازع قد كان أميراً في المهدية وقد كافئه الخليفة باعتمادة شيخاً عاما على الهواوير بعد أقالة حسن خليفة شيخ عموم الهواوير بعد أن تلكأ ثم رفض الأخير الهجرة إلى أمدرمان (Beck 1996) وفي أواخر عهد المهدية ناصب معظم الهواوير المهدية العداء البائن واعتبروا حمكمها ظُلْماً وعُدواناً على الناس عدا الروباب الذين شقوا عصا طاعة القبيلة بل وناصبوا قيادتها التقلدية العداء وبعض الشيوخ الذين والوا الخليفة باختيارهم. فكان الهواوير ينظرون إلى جيش المهدية على أنهم ضروب متفرقون من الناس ونُهاب أطلقت يدهم فيما شاءوا لا يقوم حمكهم على مْنَع الظالم من الظلم بل على النَّهْب والغارة والسَّلْب. فعندما لم تنجح سياسات الخليفة في ضم الهواوير إلى جانبه أطلق يد عامله المقيم بنواحي جبل الحوش على الهواوير فصادف جيشه المكون من حوالي and#1635;and#1632;and#1632; رجل وقيل أكثر من ذلك فنهبوا أبل الهواوير لأرسالها إلى بيت المال وقد سكت الهواوير على ذلك، فالهواوير قوم سكوتون كتمون حتى أبلهم سكُوتة لا تَرْغُو عند شد الرحال! بعد عدة أيام أسر نفس الجيش عدد من فتيات الهواوير أَسيرات أَخِيذات في قيد الكِتافِ قسراً تحت إمرة رجلٍ مهين رذل لأرسالهن هدية إلى خليفة المهدي فما كان من الهواوير غير "دق النحاس" وإعلان الحرب التي اصبحت،في عرفهم، واجبة. وتقول الروايات إن بطون الهواوير تجمعت وأرسلوا إلى المجموعات البعيدة وانتظروا يخططون سرا حتى يصل رجال المجموعات البعيدة كالتي كانت في مديرية دنقلا. جمع مشايخ الهواوير رجالهم وحَضَّضوهم على القتال وحَرَّضوهم على الدفاع عن عرض حسيباتهم الأسيرات النائحات في القيود من أَن يُنتقصَ ويُثلب. بدأت المعركة في يوم جمعة والناس ضحى جنوب جبل المعيقل. والخطة كانت تقوم على أنهاك جيش الخليفة بالمناوشة والمهاوشة دون الدخول في مواجهة مرة واحدة فاستطاعوا جر الجيش بعيداً عن الجبل والبئر الوحيدة المعروفة بأم طوب وهي بِئر جَرُور عميقة. ما أن ابتعد الجيش عن الفتيات الأسيرات حتى أرسلوا مجموعة صغيرة منهم فاطلقوا النساء المكبلات في القيود وتم تأمينهن في مكان آمن عند سفح الجبل ثم سكبوا مياه الشرب ودفنوا البئر وأحرقوا مؤونة الجيش من الطعام وأخذوا جمالهم المنهوبة وانسحبوا إلى شمال الجبل. عاد الجيش فلم يجد الماء ولا الطعام ولا النساء في يوم غائظ شديد الحر بل وجدوا رجال الهواوير يحاصرونهم من كل جانب وهم عطشى وجوعى في مكان عَطِش لا ماء ولا زاد فيه. دارت المواجهة وقاتل أفراد جيش الخليفة حتي آخر رجل فتمت ابادتهم جميعاً وكان النصر حليفا للهواوير والذين فقدوا مجموعة من خيرة محاربيهم. وقد سببت هذه المعركة حرجا شديداً للروباب الذين آلت إليهم السلطة وشيخوهم الموالين حيث وجدوا أنفسهم بين خياري الولاء السياسي الديني والولاء القبلى وظلت جرحا في جسم القبيلة كانت له آثار جسام كما سنرى لاحقاً. وقد كَرِه الشيوخ المحاربون أَن يحْرِجوا بني جلدتهم من الروباب فيقاتلونهم فطلبوا منهم الحياد ولا ندري أن كانوا قد إلتزموا الحياد في تلك 'الكتلة" أم حادوا عنه. فالروباب بجانب عهدهم لخليفة خليفة المهدي (عامل الخليفة) كانوا أيضا يخشون على حياة شيخهم جابر ودتقى والذي كان الخليفة قد استدعاه إلى أم درمان في معية أمراء آخرين. ومن الجانب الآخر أثارت تلك المعركة نقمة الهواوير الآخرين عليهم خاصة بعد سقوط المهدية وسيطرت آل خليفة الحرارين على السلطة فظل الروباب كياناً متمرداً على إدراة القبيلة حتى بداية السبعينات من القرن الماضي. فك الشفرة: أسطورة الأصل هي أساس للوعي الشعبي كرستها خيالات الثقافات البدوية للهواوير الروباب لتتماشى مع الذوق العام لثقافتها الشفاهية لتسهل على الإنسان البدوي وبأسلوب سلس وجذاب فهم عِبر التاريخ والصراع بين قوى الظلام والنور، أو الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة دون الأشارة للأحداث بأنها أسطورة أم حقيقة. فتم تحوير الحدث التاريخي من معلومات تاريخية جافة الى حكاية شعبية شيقة وممتعة لتحكى للأجيال فترسخ في أذهانهم ماعاشوا. الشيخ التكروني السائح المعالج يرمز إلى الخليفة عبدالله، وروبة وجمالها وحسبها وعنادها و مشاكستها يرمز إلى فرع الهواوير الروباب الذين خرجوا على قيادة القبيلة التقليدية وعلناً شقوا عصا الطاعة. وابناء عمومتها الذين مارسوا عليها شتى أنواع الضغوط هم فروع الهواوير الأخرى. أما اللام ألف (لا) فترمز للشهادة المكتوبة على رايات المهدية (لا إله إلا الله) والعصا ترمز للسلطة. والرمز (and#1633;and#1633;) أو القلايد يرمز إلى الأصل، أي أصل الروباب كبطن من بطون الهواوير. وبذلك لخّص وحفظ لنا هذا الوسم أو اللوقو (logo) والأسطورة الشعبية واحدة من أهم الحقب التاريخية وأحداثها عند الهواوير فهي التاريخ "الحقيقي"الذي غفلت عنه أقلام المؤرخين. وعلى الرغم من جد الروباب فلاتي أو تكروري حسب هذه الرواية إلا أنهم لا يعطونها وزنا عندما يكون الحديث حول الهوية الإثنية مع غير الهواوير ويعتبرون أنفسهم هواوير أقحاح! فمن الواضح أن مسألة الجد غير الهواري رمزية وتم استخدامها كوسيلة في تصفية حسابات لأحداث تاريخية.
أول المشكلات التي واجهت الهواوير بعد الاحتلال الأنجليزي كان عدم الاستقرار وانعدام الأمن. لم تنعم شمال كردفان وتخوم مديرية دنقلا بدخول الانجليز وإصدار فرمان الأمان الشهير المعروف الذي وقعًه اللورد كتشنر في عام and#1633;and#1640;and#1641;and#1640;م. فقد استمرت الحروب والغارات بين القبائل في شمال كردفان وإن كانت قد قلت وتيرتها بعد منتصف الثلاثينات من القرن العشرين. فمن المعروف إن الهواوير والكبابيش كانوا قد سارعوا بتأييد الجيش الإنجليزي ليس حبا في الأنجليز بل نكاية في المهدية و للحصول علي السلاح والسيطرة على شمال كردفان وأعلن مشايخ الكبابيش والهواوير والسواراب ولاء الطاعة بعد أن خطب فيهم اللورد كتشنر خطبة جهنمية كما وصفها الجنرال ونجت في كورتي. وطلب منهم تطهير شمال كردفان مما اسماه "فلول الدراويش" ( يقصد أنصار الأمام المهدي). وتم تزويدهم بالسلاح والذخيرة. وكانت أولى غارات الكبابيش والهواوير، بعد دخول الأنجليز، على إبل الشنابلة والزيادية والحمر وبني جرار بالقرب من أمدرمان بعد تقدم الجيش الانجليزي وأسر الأمير محمود ود أحمد عام and#1633;and#1640;and#1641;and#1640; تمت تحت ستار مساعدة الجيش الأنجليزي ولكنها في حقيقتها كانت تصفية حساب ورد لما ذاقوه في عهد المهدية. واستمرت حروب الهواوير وغاراتهم عاما بعد عام ونذكر منها هنا على سبيل المثال لا الحصر هجوم الزيادية على الهواوير الموالكة عام and#1633;and#1641;and#1632;and#1633;مand#1644; منها قيام مجموعة من الهواوير والكبابيش أم متّو بغارات على القرعان والطوارق وفي العام نفسه بقتل عدد من البديات، رغم تحذيرات حاكم دنقلا. وفي العام and#1633;and#1641;and#1633;and#1632;م قام البديات بنهب and#1634;and#1637;and#1632; من إبل الهواوير غرب دنقلا وقد رد الهواوير الغارة واعادوا الابل المنهوبة في العام and#1633;and#1641;and#1633;and#1633;م. وفي العام and#1633;and#1641;and#1633;and#1633;م نفسه قامت مجموعة من الهواوير والكبابيش بغارات على القرعان في الصحراء على الحدود التشادية وخاضوا حرباً ضد الزيادية في منطقة النطرون. وفي يونيو عام and#1633;and#1641;and#1633;and#1634;م قامت مجموعات من الكبابيش العطوية والهواوير الموالكة بغارات على الميدوب والزغاوة. والعام نفسه شهد حرب الهواوير ضد الكبابيش حول بئر الصافية كما هو معروف. وتلك مجرد أمثلة نسوقها هنا للدلالة على عدم الاستقرار وكاد ماكمايكل أن يصدق عندما وصف رجال شمال كردفان حينما وصف تلك الفترة قائلاً " الرجل في شمال كردفان أما قاتل أو باحث عن قاتل للأخذ بثأر". وثاني المشكلات التي واجهت الهواوير كانت إدراية. لا نعرف السبب أو السر الحقيقي وراء ابتعاد الهواوير من منطقة شمال كردفان وبقائهم في مديرية دنقلا بعد دخول الأنجليز السودان. ربما كان السبب الخوف من ضم القبيلة لتكون تحت سلطة ناظر الكبابيش تحت إدارة عمدة بدلا من تكون لهم نظارة خاصة وذلك لصغر حجمها من ناحية العدد وهو ما يؤكده تقرير صدر في عام and#1633;and#1641;and#1636;and#1636; من توجس الشيخ نمر من ضم الهواوير تحت سلطة ناظر الكبابيش. وربما كان السبب وجود مجموعات قوية وثرية ومؤثرة في منطقة مديرية دنقلا فخشيت إدارة القبيلة من تنامي نفوذهم وانفصالهم عن الأصل. خاصة إذا أخذنا في الإعتبار أنّ الشيخ حسن نمر كان يستمد سلطاته من كونه كان قائدا للقوات غير النظامية أكثر من كونه شيخاً على الهواوير. في العامand#1633;and#1641;and#1633;and#1635; أصدر حاكم مديرية دنقلا، جاكسون باشا، قراراً إداريا غريبا، دون الرجوع إلى حاكم مديرية كردفان، وضع إدارة الهواوير تحت إشراف مديرية دنقلا بعد كثرة الشكاوي المقدّمة ضد الهواوير من مشايخ وعمد مديرية كردفان وذلك لكثرة قطعان الهواوير والعبء الذي سببته على المراعي ومصادر المياه في شمال كردفان. وفي العام and#1633;and#1641;and#1633;and#1636;م كتب حاكم مديرية كردفان إلى مفتش بارا بعدم السماح للهواوير بدخول دار الكبابيش إلا بأذن مكتوب وهو نفس العام الذي قدم فيه شيخ وعمد الهواوير طلبا للسماح لهم بقضاء فصل الشتاء في كردفان وقع على الطلب الشيخ حسن خليفة كعمدة وليس كناظر للهواوير والشيخ حميدة and#1649;دم شيخ الهواوير الموالكة والشيخ خليفة جبا شيخ الهواوير الحباساب والشيخ آدم عبدالله شيخ الهواوير الروباب والشيخ عبدالله محمد شيخ الهواوير الفزاراب. والملاحظ عدم توقيع مشايخ الجوتاب والخماسين على الطلب. ويقول الطلب "نحن عمدة ومشايخ الهواوير نعلم أنه لا دار ولا حق لنا في مديرية كردفان ولن نطالب بتلك الحقوق في المستقبل وأن ندخل كردفان كضيوف غير مقيمين ونلتزم بالعرف والقانون وعدم ضرب النحاس وألا نضع وسماً على شجرة أو جبل و ألا نحفر بئرا". ويبدو أن هذا الطلب قد تم فرضه على الهواوير في ملابسات غير واضحة. فلا يُعقل أن يتنازل زعيم ومشايخ قبيلة مثل الهواوير عن حقوقها وحروبها وتاريخها وتضحياتها ببساطة كهذه. في تطور مفاجئ تم إعادة الهواوير لتكون تحت مديرية كردفان في يناير عام and#1633;and#1641;and#1633;and#1639;م وتم كذلك إعادة ترسيم الحدود بين مدريتي دنقلا وكردفان ولتبدأ بذلك سلسلة من المنازعات والمساومات بين الهواوير والكبابييش. والجدير بالذكر أن الروباب لم يلتحقوا بكردفان إلا في العام and#1633;and#1641;and#1633;and#1641;م ولم يمتثلوا للأمر إلا في العام and#1633;and#1641;and#1634;and#1634;م. وكان أشهر أحداث تلك الفترة محكمة القاضي هايس التي انعقدت في كجمر في يوم and#1633;and#1639; يناير عام and#1633;and#1641;and#1637;and#1635; واستمرت لمدة ثلاثة أيام وصدر فيها الحكم الذي جاء مخيبا لآمال وتطلعات الهواوير وكان ممثل الهواوير المحامي الشهير مبارك زروق وممثل الكبابيش المحامي محمد أحمد محجوب. موضوع المحكمة كان طلبا تقدم حسن نمر عن الهواوير وطالبوا بحق الدار في شمال كردفان وحددوها بالخط الوهمي الذي يصل الربدة ــ الصافية ــــ المرخ ـــ أم سنيطة وقد حدد الشيخ حسن نمر الحدود الغربية للدار بالخط الذي يربط أم سنيطة ببئر النطرون. واستنكر الكبابيش بقيادة الناظر التوم علي التوم ذلك الطلب ورفضوا "حق الدار" للهواوير ولكن وافقوا على "حق المحنّة". ورفضت آلمحكمة "حق الدار" للهواوير وأعطتهم "حق المَحنّة" وسنتناول ذلك في مقال منفصل إن شاء الله. ومن ناحية أخرى ظل تمرد الروباب ومن تبعهم يؤرق قيادة قبيلة الهواوير وكان آخر وأهم الأحداث مايعرف في التاريخ الشفاهي بـٍ "كتلة أم جواسير" في بداية السبعينات من القرن الماضي والتي راح ضحيتها أكثر من عشرين شخصاً. حيث رفض الهواوير في المديرية الشمالية، ومعظمهم من الروباب، دفع ضرائب القطعان المفروضة عليهم بحجة أنهم ليسوا مقيمين في كردفان وكانت الضريبة في كردفان أعلى من تلك المفروضة في الشمالية. ويقال إنّ الرئيس جعفر نميري، رحمه الله، حضر بطائرة عمودية إلى إم جواسير لفض النزاع. واستمر تزمر الروباب حتى عهد الناظر أب قدم (آدم ود حسن ود نمر) والذي انتهج نمطاً إدارياً مختلفاً عن أبائه وأجداده مكّنه من حل هذا الموضوع، الذي بدأ في عهد المهدية، جذرياً بالحكمة والتواداد والرأفة. وكان، رحمه الله، رجلا ضاربا في المجد ومدرسة متفردة في الإدارة الأهلية.
المراجع: W. G. Browne: Travels in Africa, Egypt and Syria. London 1799 und 1806
Kurt Beck: Nomads of Northern Kordofan and the State: From Violence to Pacification, the Commission on Nomadic People, Nomadic People 1996
Kurt Beck: Vom Gast zum Unterworfenen Ueber Gefolgschaft und Gebietsherrschaft anhand eines Urteils aus Kordofan, Ruediger Koeppe Verlag (2009)
Hayes, Kevin: Dar Rights Among the Nomads: An Arbitral Award, Sudan Law Journal and Reports 1960
Kordofan Province Annual Report 1952/1953, Sudan Library Collection U. of. K
Parkyns Manfield: The Kababish Arabs between Dongola and Kordofan, the journal of Royal Geographical Society of London 1850.
|
|
|
|
|
|