قال صالحين: شجرة الليمون ليها سنتين ما طرحت أي ليمون ولا نوّرت، نصحونا قالوا نربط بعرة حمار في قطعة قماش ونعلقها في الشجرة! حسين عمل ليها سماد بزبل الحمام، الحمدلله طوّالي نوّرت واتملت بالليمون، حسين كان بيودي االليمون يبيعوا في السوق، ساعدنا شوية في مصاريف البيت والدوا. الدوا بقى غالي، لو ما بعنا التور ما كنا نقدر نعالج أمك.
قلت ليه أرجع المدرسة يا ولدي، رفض قال لي حيطردوني تاني، والحالة ما بتسمح لازم ألقى شغل عشان اساعدكم.
كنت متمني واحد فيكم يواصل تعليمه لأن انا بسبب الظروف ما قدرت، المفتش الانجليزي جة الحلة وقال لي ابوي ودي الولد المدرسة ابوي قال ليه نحن ناس فقراء، ما بنقدر على مصاريف المدرسة والولد لو قعد بيساعدني في الزراعة، المفتش قال ليه المدرسة مجانا، ولو الولد جة المدرسة بنعفيك من الضريبة، والولد وكت يقرا ممكن يشتغل وظيفة كويسة ويساعدك. ابوي كان متردد، امي اصرت وقالت ليه خلي الولد يمشي لو ما نفعت المدرسة الزراعة موجودة، الارض ح تروح وين؟
بديت المدرسة، بعد سنة واحدة يا دوب اتعلمت افك الخط، ابوي مات، اجتمعوا اعمامي وقالوا انا لازم اقعد في عقاب ابوي، لأن انا الولد الكبير، واخواني صغار انا لازم اشتغل واراعيهم، عقاب شنو كله بقرتين ونعجة! الله يسامحهم لو خلوني يمكن كان بقيت افندي، الحمدلله الدنيا كانت بخيرها، البهايم الخلاها ابوي خلال سنتين اتضاعفت، اخواني الصغار بقوا يزرعوا معاي، في الشتاء نزرع الفول والقمح وفي الصيف المريق عشان البهايم. بعد سنتين بنيت انا بيت صغير جنب بيتنا واتزوجت أمك، العرس كان بسيط زمان يا ولدي، عقد في المسيد وبالليل زفوا العروسة جابوها البيت، عملوا حفلة صغيرة بالدلوكة، نفيسة بت عشميق كانت مرة غناية وصوتها جميل تغني بالدلوكة وكانت بتألف الاغاني براها، مرات تغني ومرات تمدح، صوتها جميل وقوي، كانت تغني والنسوان يشيلوا وراها والشباب يرقصوا، ضرب السوط كان ممنوع الايام ديك، لأن قبل عرسي بسنة كان عرس نجومي والد الطاهر، في ضرب السوط حميدان أخو شيخ النور قالوا كان زعلان من عبيد ولد حاج علي، لأن في آخر مرة اتصارعوا قبل سنة ولا اكتر عبيد ضربه شديد خلاه يرجف قدام النسوان، مشى حميدان أتدرب، سنة كاملة يشرب في السمن واللبن وياكل التمر عشان يقوي جسمه ويتدرب على ضرب السوط، أها وكت عبيد نزل الحلبة، طوالي حميدان نزل، عبيد قال ليه إنت ما بتتوب! ولا خلاص جلدك إتعود لو ما انضربت ما بترتاح، حميدان كشف ضهره وبرك، عبيد بقى يلف ويدور حواليه، أداه السوط الاول وحميدان ثابت، اداه التاني والتالت لغاية وصل العاشر، داير يقيف حميدان قال ليه أردب! يعني اربع وعشرين، انتهى عبيد وكشف ضهره وبرك، اخد الاول، والتاني في السابع رقد في الواطة ناشف، مسكوا حميدان لقوا عبيد ميت! العمدة طلع قرار قال تاني مافي ضرب سوط في البلد دي، من الوكت داك بقت اعراسنا ما عندها طعم، هسع أولاد الزمن دة قبل ما السوط يلحقهم تلقى الواحد براه وقع، الناس زمان بصحتها يشربوا اللبن والسمن وياكلوا التمر، جانا زمن الواطة نشفت من الموية والنخيل نشف ووقع.
قال شيخ علي: يا شيخ النور ما تشوف لينا طريقة حنخلص متين من حكاية ودخلت نملة وأخدت حبة! العيد فضل ليه ايام ولسة ما صلحنا البيوت ولا اشترينا طلبات العيد!
قال شيخ النور: نحن ما فارقة معانا. أحسن نكون قاعدين هنا لغاية العيد يجي، العيد بقى بس للحكومة وناسها. زمان الناس تفرح للعيد. هسع العنده أولاد صغار يخاف وكت يسمع كلمة عيد، حتى لو كان عيد إستقلال!
كان الوقت قد إقترب من الفجر، نام معظم الناس في اماكنهم على الرمل. بقي صالحين ممسكا بالمايكرفون ويتحدث مع ولده وبجانبه شيخ علي وحاج النور، بدأ صوت المايكرفون يضعف، أمسك شيخ النور بالمايكرفون وقال: حجارة البطارية دايرة تغيير، تعال ارتاح شوية يا صالحين، وكت الشمس تطلع نرسل نجيب حجارة جديدة.
قبل صلاة الصبح إستيقظ الجميع لتناول طعام السحور، جلسوا في حلقات وشربوا الشاي والقهوة. بعد صلاة الفجر أخلد البعض للنوم، وجلس بعض الصبية يتسامرون. بعد شروق الشمس أرسل شيخ على أحد الاطفال لاحضار حجارة بطارية جديدة لمكبر الصوت، في تلك الاثناء إمتلأت الساحة بالباعة الجوالة الذين يظهرون كل عام مع إقتراب عيد الفطر، باعة الملابس الجاهزة، ملابس الأطفال وملابس النساء. والمراكيب الفاشرية. باعة الحلوى. حلوى الكراميل المعبأة في علب ورقية وأكياس أقراص حلوى روح النعناع. باعة مساويك شجر الأراك، باعة النبق والليمون، وباعة عقود السكسك والخرز، والمسابح، وباعة الحبال.
كان رجل ينتمي لأحد الجماعات السلفية قد تجمع حوله بعض الصبية ، كان يتحدث عن ان سبب البلاء والغلاء أن الناس تركت طريق ربها واتبعت الشهوات، رغم أن العالم كان يبدو خاليا من أية شهوات يمكن إتباعها. الشهوات تكلف كثيرا، حتى أن البعض تركها بسبب الفقر. وكانت هناك حلقة اخرى في الجانب الآخر تجمع فيها بعض اهل البلد حول فرقة مداحين متجولة. اشترى حاج النور مسبحة خرز زرقاء، وإشترى طاقية حمراء ليرتديها يوم العيد. قبل سنوات كان يحرص على خياطة جلباب جديد وعمامة قبل عيد الفطر، لكن بسبب تدهور الأحوال المعيشية في السنوات الأخيرة، اصبح يكتفي بشراء طاقية أو مركوب ويحضر صلاة العيد بنفس جلبابه القديم الذي يحرص على تركه للمناسبات المهمة.
كان الخوف قد تراجع، وبدت الحياة في القرية تستعيد صفائها، حتى ان شيخ علي فكر في مغادرة المكان، وترك الأمر لرجال الجيش الذين قد يصلون في اية لحظة، لكن احدا لم يظهر، لابد انهم لم يحملوا شكواه محمل الجد، او انهم مشغولون بمحاربة التمرد، فالبلد كله في حالة تمرد. فكر أن يترك لشيخ النور معالجة المشكلة خاصة انه يحتفظ بعلاقة طيبة مع صالحين وابنه. فجأة إنطلقت طلقة في الهواء ، جرى شيخ علي دون أن يشعر واحتمى خلف شيخ النور، ضحك شيخ النور وقال له، انت مش قلت مشيت الجهاد؟ ولا تكون في سفرك داك مشيت قعدت ليك في انداية شهرين وجيت شايل شهادة الجهاد! أو تكون مشيت عرّست وقضيت شهر العسل وجيت شايل شهادة الجهاد المدني!
همس شيخ علي لشيخ النور وهو يمد يده بمكبر الصوت ليعطيه لصالحين، قال شيخ النور انت مالك مستعجل؟ ما نواصل البرنامج بعد نفطر ونصلي المغرب، الناس صايمة خليها ترتاح شوية في النهار، ونواصل بالليل.
قال شيخ علي: يمكن الولد يقتنع ويجي يسلم سلاحه، نمشي نفطر في بيوتنا!
امسك العم صالحين بمكبر الصوت ونادى عثمان: رسلنا ليك أكل عشان تتسحر، أنشاء الله الاكل عجبك، امك رسلت ليك كسرة بالتمر، امك مسكينة رغم انها تعبانة وكت عرفتك جيت قامت عملت كسرة البلح عشان عارفاك تحبها يا ولدي. الولد الجاب السحور قال حسين ما رجع من الدهب، كان متعود يرجع يوم الخميس يمكن لقوا ليهم شئ وتأخروا. حسين مسكين الجو في الخلا صعب، حر بالنهار وبرد بالليل، قلت ليه اقعد جنبنا يا ولدي نحن كبرنا واخوك مافي، أزرع الحواشة بدل ساكت تتعب في الخلا وتجري جري الوحوش وفي النهاية غير رزقك ما بتحوش. ضحك وقال لي يا ابوي والله الكيزان ديل يقيفوا قدامك يحوشوا رزقك ذاته!
ضحك صالحين بصوت تردد في الساحة حتى توقف الرجل الذي كان يعظ الصبية، نظر حوله بعصبية كأن الضحكة العالية كانت تأكيدا لمزاعمه حول إتباع الشهوات الذي يجلب البلاء والغلاء، إستعاذ من الشيطان ثم نظر الى السماء وواصل حديثه، قال صالحين: كلام حسين صحي، ديل ما خلوا قرش حايم في البلد والا استولوا عليه، بعيدن دخلوا الخوف في قلوب الناس، الناس ما عارفة بكرة حيحصل شنو، زمان الناس ما كانت تفكر في بكرة، الحياة سهلة، الاولاد في مدارسهم والبيمرض يمشي المستشفى يتعالج مافي زول بيقول ليك ادفع حق الحقنة قبل نطعنها ليك، وكت اهلنا في امبدة او كوستي يكون عندهم عرس نبيع لينا بهيمة عشان مصاريف السفر، هسع البهايم بعناهم كلهم عشان ناكل ونشرب وندفع حق الدواء. الاولاد الصغار كانوا يشتغلوا في اجازة الصيف عشان يوفروا شوية قروش، يزرعوا ليهم شوية ويكة او بصل او يشتغلوا في المباني او يمشوا يشاركوا في حصاد التمر خاصة في المناطق الشمالية هناك معظم الشباب سافروا واغتربوا، وتلقاهم دايما فرحانين يمشوا يوم الخميس يفتشوا محلات الاعراس ، هسع كلهم في الخلا يفتشوا الدهب والناس كلها لو لقت فرصة تسافر لي اي بلد في الدنيا.الحرامية جوا قالوا دايرين نعمل دولة الدين، حرّم قدر الدين الفي ودروه. ضايقوا الناس في معيشتهم وما بيخلوك في حالك، ان قعدت في بيتك يجوك دايرين زكاة وضرائب، دايرين قروش للجهاد، ولو ما لقوا حاجة يسوقوا ولدك، ولو طلعت الشارع يقولو ليك إنت طابور خامس! يا يقبضوك ناس الجيش يودوك الحرب، لا ايدك لا كراعك تروح فيها.
عمتك السرة مشت كسلا، ولدهم برضو مشى الدهب مع حسين، بتها نفيسة جاها عريس، كوز غنيان، قالوا عنده مصنع، جة هنا أجّر الجروف وجاب مزارعين زرعوا الطماطم في الصيف، الطماطم شحنوه باللواري قالوا كسب منه ملايين، عمرنا ما شفنا طماطم يزرعوا في الصيف، قالوا لأ الدنيا اتطورت انتوا لسة من زمن القمح في الشتاء والويكة في الصيف، هسع في بذور يزرعوها في اي وقت تقوم وفي بيوت بلاستيك يزرعوا فيها اي حاجة في اي وقت. نفيسة رفضت قالت ما دايراه، زول متزوج وعنده اولاد رجال، قال لأمها بعرسها واخليها عندكم اذا هي ما دايرة تقعد مع زوجتي الكبيرة، البت رفضت. أريتك تجي تستقر يا عثمان معانا وتعرس البت دي، والله انا نفيسة دي بحبها زي بتي، الكوز مشى عرّس بت حاج فقير بت عذباء كان راجلها مغترب ومات قالوا في حادث عربية في السعودية، مسكين يا دوب عقد عليها وقعد معاها اسبوعين وسافر لأن اجازته انتهت قال بيرجع بعد ستة شهور، بعد شهور من رجوعه جة الخبر قالوا مات. مساكين اولادنا، غربة وتعب وكمان موت بعيد من اهلهم. الكوز عمل حفلة كبيرة جاب الفنانين من كريمة والخرطوم، الناس دي ترقص تلاتة يوم، من سنين مافي زول عمل عرس كبير زي دة. بعدين جوا خلق كتيرة من جهات الخرطوم، يمكن زملائه في الشغل واصحابه، كلهم بدقون ويرقصوا، قلت لي شيخ النور الناس دي ما عندها خدمة قاعدين اسبوع ياكلوا ويشربوا ويرقصوا، شيخ النور قال لي قالوا الزول دة كوز كبير وغنيان، واصحابه اقلاهم وزير، والناس دي كلها هو طالبها قروش عشان كدة جو رقصوا! عشان ما يضايقهم في السداد، الظاهر عندهم تأجيل وقت السداد بالرقيص!
ضحك شيخ النور وقال: يا صالحين لزوم الفضائح شنو؟ الله يستر الظاهرحنخلص من موضوع ولدك دة وحنرافقه في الحراسة!
يا زول عرس عجيب تلاتة يوم فنان يطلع وفنان ينزل، شئ طمبور وشئ فرق موسيقية، تتذكر يا عثمان وكت كنت صغير قلت لي يا ابوي انا وكت اكبر عاوز ابقى فنان! قلت ليك يا ولدي اقرأ قرايتك وامسك شغلك بعد داك سوي الدايرو مافي زول يسألك. كنت تحب تعزف الصفّارة واولاد البلد كلهم كنت بتعمل ليهم صفارة البوص، بالليل انا متذكر كنت وكت ترقد في سريرك تصفر لغاية ما امك مرات تنهرك وتقول ليك حميتنا النوم، انا كنت بقول ليها خليه صوت الصفارة جميل، يساعد على النوم، يوم سقتك معاي في نفس السنة الوديناك فيها المدرسة عشان نحضر عرس في أرقو، كان فنان طنبور جايي من كريمة، صوته جميل ، الطنبور عجبك، بعد الحفلة لقيتك مشيت وقفت مع الفنان ومسكت الطنبور تعاين فوقه. وكت رجعنا قلت لي انا داير طنبور، قلت ليك بالهزار اعمل واحد براك مش انت قاعد تعمل الصفارة بالبوص، بعد أيام لقيتك عملت واحد، بصحن وجلد عتود ونجرت عيدان خشب براك، بس اسلاك الوتر غلبتك لغاية لقيتها ليك بالصدفة عند واحد بيصلح الجزم في سوق السبت. بقيت تغني في المدرسة، يوم الجمعية الأدبية وفي حفلات المدرسة. وكت كبرت شوية بطلت الغنا بقيت تعزف بس للفنانين، ووكت مشيت المدرسة الثانوية اتعلمت الاكورديون.تتذكر يا عثمان مرة جيتنا من المدرسة خميس وجمعة وكان معاك اصحابك، مشيتو العصر بعد الغدا على البحر، عملتوا حفلة والبلد اتلمت كلها والناس انبسطت، واحد جاب ليه حمل ضبحه، وواحد مشى الجنائن جاب برتقال وجوافة والناس أكلت وشبعت، الدنيا كانت بخيرها قبل يجوا الجماعة ديل، قلبوا كل شئ لحرب وقلبوا حياة الناس فوق تحت.
رفع أحدهم أذان المغرب، توقف صالحين عن الكلام وبقي ممسكا بالميكرفون حتى ينتهي الأذان، ناداه شيخ النور لينضم لهم في الفطور. سأل صالحين: هل أرسلتم الاكل لي عثمان؟ أومأ حاج النور برأسه فجاء صالحين. تحلق الجميع حول صحون الاكل، أصر شيخ علي ان يأكل شيخ النور معه ومع بقية اعضاء اللجنة الشعبية.قال شيخ النور: يا زول خلينا في قراصتنا دي ما تخرب طبعنا باللحم والدجاج، بكرة المشكلة تنتهي ونرجع لقراصتنا!
لكن شيخ علي اصر عليه ان يأكل معهم، وقال النور: يعني انا بقيت حبيب الحكومة هسع لغاية المشكلة دي تخلص!
قال شيخ علي: يا النور انت حبيبنا من زمان، مش كنا عمرنا دة كله سوا، نمشي الاعراس سوا، وكت يموت زول نحن بالبنجهز القبر ونخدم الضيوف، نوزع الضيوف عشان ينوموا في البيوت ونأكّل دوابهم .
قال شيخ النور: ايوة لكن انت هسع بقيت حكومة ونحن ناس غلابة ما عندنا شئ، اصحابك بقوا ناس مهمين، وبقيت غنيان، زمن الفاقة كنا رفاقة زي ما بيقولو، رفقة فقر ساكت. هسع لو ما عرفت حقك كم ما بتقعد مع اي زول! كتر خيره ولد صالحين لو ما كان جة بالبندقية ما كنا بنشوفك ونقعد معاك يومين!
ضحك شيخ علي وقال: لا والله مشاغل بس، البلد في حالة حرب وكلما نقول الحمدلله عملوا اتفاق والدنيا حتروق، تقوم الحرب في جهة ثانية.
قال النور: البلد دي غلبتكم يا شيخ علي، اعملوا نتخابات وسلموها والا يحيجي يوم بعد تقتنعوا تسلموها ما تلقو شئ تسلموه.
قال النور: والفايدة ايه لو كان بني آدم نفسه انتهى، بعدين الخزان دة جبت قروشه من وين؟ مش ديون حيدفعها اولاد اولادنا ولا بنيتوه من قروش البترول الما معروف مشت وين؟ صدعتم راسنا الرد الرد كباري وسد، وفي النهاية اتضح ان السد حجر ساكت لا كهرباء لا موية، طردتوا الناس من المنطقة ودفنتوا فيها النفايات وبعتوا الباقي!
لم يرد شيخ علي، حشر قطعة لحم في فمه وشرب جرعة ماء. واصل النور: قبل عشرين سنة ارسلتم شيخ الطيب لمغتربين، قلتوا ليهم ادونا القروش اللميتوها لمحطة الكهرباء نحن بنعمل بيها الخزان! لأن محطة كهرباء بدون خط سكة حديد يجيب ليها الديزل ما بتنفع وشغلها ما حيستمر، المغتربين المساكين صدقوا وادوكم القروش ركبتوها عربات وصرفتوها مرتبات وحوافز وحفلات وضع حجر اساس، والخزان داير ليه حجر اساس، هو جبل تمشي تخت فوقه حجر وتعمل حفلة؟ وفي النهاية وكت المغتربين قالوا قروشنا وين، جبتو الحساب طلعتوهم مطلوبين، ولا في متر كهرباء طلع ولا في خزان اتبنى.
قال شيخ علي: ناس المنطقة رفضوا نبني الخزان، نعمل ايه؟
قال النور: وليه تغرق الناس ونخلهم عشان تعمل ليهم كهرباء؟ زول غرقان هو ونخله يودي الكهرباء وين؟ وقت الناس احتجت رسلتوا الصعاليك ضربوهم بالنار، يعني انت داير تصلح أحوالي وتعمل لي تنمية زي ما بتقولو وتقتلني في نفس الوقت دي يفهموها كيف؟ بعدين انت قلت انا اكتشفت البترول طيب ما تعمل محطة كهرباء بالجاز، الدنيا دي كلها منورة بالجاز، السعودية دي فيها بحر ولا خزانات، ما مشينا الحج الدنيا دي كلها منورة والكهربا ما قطعت دقيقة واحدة لغاية ما رجعنا بلدنا! لأنهم بيخدموا بلدهم باخلاص ربنا مبارك ليهم الرزق، انت تبيع الجاز بي مية، تخت خمسة وتسعين في جيبك وتجدع الخمسة للكلاب البتهتف ليك وتغشك انك رمز البلد وانك رجعت الدين، متين نحن كنا كفار؟ ولو حالنا قبل انتو تجوا الحكم داك كان كفر، حرّم الكفر اخير من دينكم دة!
كان شيخ علي مشغولا بالأكل نظر الى شيخ النور وهو يتحدث بدهشة وكأنه لا يعرفه أو لا يعرف ما الذي يقوله، أشار الى صينية الأكل و حين لاحظ ان شيخ النور توقف عن الاكل صاح فيه، كل يا شيخ النور! ذوق قليلا من هذا الارز باللبن!
مد شيخ النور يده رافضا الملعقة التي مد بها شيخ علي، أمسك بقطعة من خبز السناسن ليأكل بها الارز باللبن وقال: زي ما بتتذكرونا في الرز باللبن والضلع، اتذكرونا كمان في الأكل الكبير! في الأراضي والسكر!
قال شيخ علي: خليك قريب يا شيخ النور، لو جيت معانا تلقى الواطة والضلع، تلقى الخير ونسوقك معانا بعدين الجنة!
ضحك شيخ النور وقال: زي ما قال المرحوم عبد الرحيم : الله لا يلمني معاكم في جنة يديني ناري براي! وين في جنة للحرامية يا شيخ علي؟ لو داير يا شيخ علي تخلي ذكرى طيبة في البلد دي حاولوا ساعدوا شيخ الأمين يسدد ديونه للبنك، عشان المشروع يشتغل السنة دي، الناس حتجوع في البلد دي لو المشروع رقد!
قال شيخ علي: خلصنا من موضوع ولد صالحين دة وخلي موضوع المشروع عليّ، نشرب الشاي ونقوم.
أمسك صالحين مرة اخرى بمكبر الصوت وسأل عثمان: أكلت كويس يا ولدي؟ مسكين انت تكون راجع من الجيش تعبان واصلك انت زول ضعيف من وانت صغير ما تاكل كتير، امك كانت دائما تقول الولد دة أدوه عين من هو صغير، دايما مريض، وديناك وانت صغير قبل تدخل المدرسة للدكتور، كان دائما تجيك الحمى وانت صغير، وما عندك رغبة في الاكل، الدكتور كشف عليك، فتح خشمك وعاين جوة حلقك وقال الولد دة عنده إلتهاب لوز، أداك حقنة بنسلين وقال لينا احسن نشيل اللوز لأن الالتهاب لو اتكرر بيعمل ليه مشاكل في الكلى.أداك حقنة بنسلين بقيت كويس، بعد كملت العلاج، بأيام تاني مرضت بالالتهاب، الدكتور رسلنا المستشفى مشينا عملنا ليك العملية. الدنيا بخيرها والعلاج مجان، الدكتور قال لينا الولد بعد العملية صحته حتتصلح ووزنه حيزيد لأن التهاب اللوز بيخلي المريض ما عنده رغبة في الاكل. لكن نفس حالك استمر يا ولدي بعد العملية، تاكل شوية وتشبع. أمك مشت للشيخ جابت المحاية لكن انت قلت ما بتشربها، أمك بقت تخت منها شوية شوية مع شاي اللبن، كنت تحب تشرب شاي المغرب من انت صغير، في الشتاء كانت امك تعمل الزلابية في الصباح، وناكل الباقي مع شاي المغرب، في الصباح كنا نقعد في الدونكا جنب أمك، المطبخ دافئ، انت كنت بتحب ريحة دخان عبج النخيل، أمك تقول ليك الدخان دة ما كويس مع إلتهابات اللوز، انت تقول ليها: يا أمي اللوز ما خلاص شلناها! كنا نقعد في الواطة فوق حصير السعف حوالين امك، أمك تعوس كسرة الفطور في الدوكة بنار العبج وجريد النخيل، الدونكا دافئ رغم برد أمشير ، الدخان بيمرق من فوق، بيوتنا دي رغم انها مبنية بالجالوص لكن سمحة لأن السقف المرفوع بالحجر فوق الحائط بيجدد الهواء ويطلع الدخان للخارج، هسع ناس الحكومة بقوا يبنوا بيوت بالطوب الأحمر ويعملوا السقوف بالزنك والمواسير، بيوت زي دي نار العبج ما تنفع معاها، الا بوابير الغاز والجاز الحديثة، انت كنت بتحب ريحة دخان نار العبج، وبتساعد امك تمشي تجيب الجريد والعبج الناشف، في الصيف وانت صغير كنت بتساعد أمك تصلح البيت، تجيب معاها الرمل الأحمر من جنب البحر للحوش، وتلونوا حيطان البيت بالجير الابيض والملون . الدنيا كانت بخيرها. انت كنت هميم اكتر من حسين، كنت بتحلب معاي الماعز، وبتساعدني في حلب البقرة، تتذكر وكت العقرب لدغتك وانت بتحلب معاي البقرة؟ أمك فصدت ليك مكان اللدغة بالموس وعملت ليك شاي تقيل، الطراش منعك تنوم الليل كله. تاني يوم وكت مشيت احلب البقرة لقيتك وراي! قلت ليك انت ما بتتوب يا ولدي؟ بعد داك نادينا الجيران ونضفنا مراح البقر وبقينا نخزن القصب الناشف بعيد شوية عشان ما يلم لينا العقارب، الدنيا كانت بخيرها، هسع الناس تجري جري الوحوش وزي ما قال حسين يقيفوا ناس الحكومة قدامك يحوشوا رزقك ذاته، لكن الله كريم والظالم ليه يوم يا ولدي. هسع انت ذنبك ايه تمشي تحارب والجماعة قاعدين هنا كضب وسرقة وعرس، يولعوا النيران ويرسلوا اولاد المساكين يتحرقوا فيها. صمت صالحين قليلا، وشرب من كوب القهوة الذي وضعه أحدهم في يده دون أن يشعر: يا عثمان كتابي الأول بتاعك لسة انا محتفظ بيه، أوراقه اتقطعت لكن كامل، تتذكر يوم ادوك الكتاب، كنت فرحان يا عثمان كأنك لقيت كنز، الليل كله تقرأ: الولد ولد البلد والبنت بنت البلد، كنت دائما تنوم بدري بعد تتعشى باللبن، اليوم داك انت صاحي الليل كله، وكت صحيت لصلاة الصبح لقيتك قاعد في عنقريبك والفانوس جنبك وانت تقرأ، قلت ليك يا ولدي نوم والصباح رباح، بكرة الجمعة ممكن تقرأ اليوم كله، وضوء الفانوس دة يمكن يأذي عيونك لو قرأت بيه لفترة طويلة. يا سلام على سحر الكتاب يا ولدي، انا ذاتي مريت بالمرحلة دي في الفترة القصيرة المشيت فيها المدرسة قبل وفاة أبوي.
يا شيخ النور لو الزول دة ما جة سلّم، أنا حأتصل بناس الجيش استعجلهم، هم اصلا جايين لكن قالوا امس كان عندهم احتفال في الحامية.
رد شيخ النور: احتفال شنو، إنتصروا حرروا ليهم بلد من اهلها؟ نحن جيشنا مسكين محلي، ما بيحارب الا ناس البلد! الجيوش في الدنيا كلها واقفة في الحدود، جيشنا في نص البلد، وكل ضابط شايل بيانه الاول في جيبه، سبحان الله ناس نعلمهم وندربهم بقروشنا، ووكت يرفعوا البندقية يوجهوها لي ضهرنا!
قال شيخ علي: ما سمعت خطاب الريس امس؟ أمس كان عيد الجيش؟
ضحك شيخ النور وقال: ودة عيد جديد كمان؟ الناس بقت تسمع سيرة عيد تخاف، تشيل هم ملابس العيال الجديدة. عبد الرزاق ولد حسن نوري أخوه المغترب رسل ليه القروش عشان يمشي الخرطوم يقرأ الجامعة. أول مرة يمشي الخرطوم، لقى زملاه في الداخلية ماشين حفلة في رأس السنة، ساقوه معاهم، شاف البنات السمحات والرقيص والاكل النضيف، إنبسط مسك التليفون ضرب لاخوه الكبير علي حسن هنا، اخوه مسكين يا دوب رجع من الحواشة وراقد في العنقريب فتران منتظر العشاء، بين صاحي ونايم بالتعب. أخوه ضرب ليه، قايل اخوه داير يقول ليهم انا وصلت بالسلامة، الولد في زحمة الحفلة ضارب عشان يقول كل عام وانتم بخير! علي اتخلع، كورك فوقه، في شنو؟ قال ليه الليلة رأس السنة الجديدة! قال ليه راس ولا كراع خلعتنا قايلين العيد جة تاني ونبقى تاني في هم ملابس العيال! وكت عبد الرزاق جة الاجازة، جة المسيد سلّم علينا، واتعشى معانا، قلت ليه انت ضربت لعلي تبارك ليه السنة الجديدة؟ ضحك وقال لي انا غلطان، علي حياته كلها الحواشة والبقرة والحمار، ما بيكون عارف دي ذاتها سنة كم! وما بيفرز سنة ميلادية من سنة هجرية!
من رواية: الزمن قبل غارة الأنتينوف
للحصول على نسخ بي دي اف من بعض اصداراتي رجاء زيارة صفحتي:
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة