شدني مقال كتبه "جوزيف ستيجليتز" الأستاذ في جامعة كولمبيا والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، بعنوان "موريشيوس ومجانية التعليم" في جريدة "الاقتصادية" السعودية، المحببة إلى نفسي لكونها مائدة غنية بتنوعها في شتى ضروب المعرفة السياسية والاقتصادية والإجتماعية، وكان ذلك في مارس من عام 2011. وقتها رأيت ودون إستئذان من الكاتب إستنساخ بعض أجزاء ذلك المقال بشيء من التصرف عن الأنموذج الموريشيوسي في النهوض والتطور خاصة في جانب "مجانية التعليم"، وإضافة تجربة أنموذجية أخري هي "تجربة النهضة الاقتصادية الماليزية"، ومقارنة نتائج التطور والنماء الباهرة في هاتين الدولتين، والتي كانت دائما محط أنظار وإعجاب بالغين للكثيرين من أهل المعمورة، بما يجري في بلدي سودان العز منذ إستقلال يصفه بعض الخبثاء ب "البغيض" بدلا من "المجيد" الصفة الدارجة عندما يأتي ذكر الاستقلال، رثاء لحاله كيف كان قبيل وبعيد الاستقلال، وما آل إليه اليوم . والقصد من المقارنة أو المقاربة هو "إيصال وإبلاغ رسالة"(من باب التذكير عملا بقوله "ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين") لسياسي وقادة بلدي بأنه ليس ثمة علاقة طردية بين "توافر الموارد الطبيعية" ونهضة الشعوب أو الدول كما يبدو دائما، إذ أن العامل المحدد (governing factor) للنمو والتطور الأنموذجي، هو وسيبقي هو "التخطيط السليم" المقترن بالوطنية والتجرد الصادقين، والإرادة القوية للتنفيذ. منطلقنا في ذلك هو تماثل معطيات ومكونات حالتي هاتين الدولتين الأنموذج في الكثير من الأوجه مع السودان. وأهم هذه المعطيات واقع التخلف الذي كانت تعيشه الدولتان قبل الإنطلاق، وكذلك التباين والتعدد الإثني والثقافي واللغوي والديني والسياسي، والاعتماد على المنتج الواحد على الأقل لفترة طويلة بعيد الاستقلال. والغريب في الأمر أن السودان سبق موريشيوس في الاستقلال بأكثر من عقد من الزمان، وتزامن في إستغلاله تقريبا مع ماليزيا التي إستقلت في نهاية أغسطس من عام 1957، وتفوق عليهما كثيرا من جهة ما حبانا الله به من موارد طبيعية ضخمة (زراعية وسياحية وتعدينية ... إلخ)، وفوق ذلك ما كان يتمتع به بعيد الاستقلال من فائض تجاري، وبنية تحتية جيدة (مشاريع زراعية، طرق خدمات مياه واتصال وتعليم وصحة) وخدمة مدنية منظمة. لكن للأسف وللأسي الشديدين فشل في المحافظة وتطوير ما هو متوافر له، بل جرى تدمير كل ذلك. الأنموذج الأول هو دولة موريشيوسالتي تمثل مجموعة جزر صغيرة (أرخبيل حسب الإصطلاح المتعارف عليه) تقع قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للقارة السمراء، وتبلغ مساحتها نحو 2,040 كم2، كما يبلغ تعداد سكانها نحو1.340 مليون نسمة، وذلك حسب كتاب "حقائق عالمية" الذي تصدره وكالة الاستخبارات الأمريكية لعام 2015. تعاقبت على استعمارها عدة دول هي: هولندا (1638 - 1710)، وفرنسا (1715 وحتي سقوط نابليون) وبريطانيا (1810 - 1968). ورغم إفتقار هذه الدولة في جانب الموارد طبيعية، إلا أنها حققت قفزات "بالزانة" في كل الاتجاهات منذ استقلالها في مارس من عام 1968(أعلنت كجمهورية في مارس 1992). وربما من نعم الله عليها أن يحدها البحر من كل الاتجاهات، فلا شمال يربطها به علاقات أذلية كاذبة أو أوهام تكامل اقتصادي و يحتل جزءا عزيزا منها، ولا غرب أو جنوب تطمح في بناء علاقات إستراتيجية معه، متأرجحة صعودا وهبوطا حسب المزاج السياسي للحكام، ولا شرق يغتصب جزءأ من أرضها عنوة وإقتدارا ومسكوتا عنه لقلة الحيلة، وفوق ذلك "وخشم بليلة"، والأخيرة كنا نقولها ونحن يفعا في خصوماتنا البريئة. ففي مجال السياسة تُعرف موريشيوس على أنها جمهورية ديموقراطية مبنية على نموذج ويستمينستير وما يعنيه ذلك من فصل كامل للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى النقيض من الكثير من دول العالم رأت أن أغلبية الإنفاق العسكري ليس أكثر من هدر للموارد، وأكثر من ذلك إن ذاك النوع من الإنفاق هو مدعاة للإحتراب والتقتيل والتدمير والتخريب. أما إجتماعيا فتتعايش في موريشيوس عدة أعراق هي الكريولية والصينية والتاميل في تناغم وإنسجام تامين،تدين بعدة ديانات هي الهندوسية بمعابدها (48.5% من السكان) والمسيحية الغربية بكنائسها (26.3% من السكان) والإسلام بمساجده(17.3٪ من السكان) بجانب ديانات أخرى وكذلك لا دينيين. وتتحدث هذه الأعراق كلاً من الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، إلا أن الإنجليزية هي اللغة الرسمية للجزيرة، وتوجد بها كذلك لغات شرقية. ولموقعها الاستراتيجي القريب من خطوط الملاحة العالمية بين آسيا أفريقيا والأمريكيتين وسحر طبيعتها الخلاب إستقرت بها أعداد مقدرة من الأوربيين خاصة الإنجليز بعيد الاستقلال، ذلك إلى جانب عدة جاليات من اللبنانيين والمصريين. ولافتقارها لأي نوع من الموارد الطبيعية كما أسلفنا، أدركت موريشيوس أن الإنسان هو "الأصل الوحيد" الذي تتمتع به الدولة وهو "محور" وكذلك "هدف"أي عملية تنموية. لذلك وبالرغم من هذا التباين الإثني والديني والسياسيبين السكان، كما أشرنا، إلا أن ذلك التباين كان عامل حسم في ترسيخ الوحدة الاجتماعية، إذ إلتزمت الدولة بقوة بالمؤسسات الديمقراطية وأرساء مبادئ التعاون بين العمال والحكومة وأرباب العمل، لذا فإن موريشيوس هي إحدى الدول الأفريقية "محدودة العدد" في تصنيف مؤشر التنمية البشرية .. "عالية". ومع ذلك لم تتوقف جهود الحكومة في مجال التنمية البشرية عند هذا، إذ وضعت في عام 2015 "خطة مارشال" من أجل مكافحة الفقر والإقصاء الاجتماعي. أما في المجال الاقتصادي، فقد نجحت موريشيوس في الإنفكاك من الاعتماد على منتج واحد هو السكر، هذا الاعتماد الذي استمر لأكثر من خمسين عاما، إلى اقتصاد متنوع قائم على السياحة والمنسوجات والتقنية المتقدمة وتصميم المجوهرات والتصنيع. ومؤخرا لجأت إلى قطاعات جديدة للنمو مثل التعهيد (الاستعانة بمصادر خارجية للأعمال)معالجة المأكولات البحرية، التسوق المعفي من الضرائب ومخططات المنتجعات المتكاملة. وكمحصلة لهذا المجهود التنموي، فمنذ أكثر من 30 عاما تشهد البلاد معدل نمو سنوي في الناتج المحلي الإجمالي يقدر بحوالي 5%، وزاد نصيب الفرد من أقل من 400 دولار وقت الاستقلال إلى حوالي 9,000 دولار اليوم، وتوفر الدولة لكل مواطنيها مجانية التعليم حتى نهاية المرحلة الجامعية، ومجانية النقل لتلاميذ المدارس، ومجانية الخدمات الصحية بما في ذلك جراحات القلب، وأكثر من ذلك يمتلك أكثر من 87% من السكان لمساكنهم. لذلك تعتبر موريشيوس هي أحد البلدان التي تغلبت علي بذور الخلاف فيها، وحققت بكل النجاح تنمية بشرية واقتصادية جديرة بالدراسة والإقتداء. وحاليا تخطط الحكومة بأن تصبح موريشيوس بالنسبة لإفريقيا ما أصبحت عليه سنغافورة بالنسبة لبلدان آسيا، ودبي بالنسبة للشرق الأوسط. وأختم مذكرا قادة بلدي السودان بهذا الأنموذج الذي تفوقت فيه موريشوس في كثير من الجوانب (خاصة مجانية التعليم والصحة ونسب السكان الذين يمتلكون مساكنهم) على دول عظمى كأمريكا وبريطانيا.. فهل من مدكر؟؟!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة