رحل في الإسبوع الماضي الدكتور محمد المهدي أستاذ اللغة العربية في كلية التربية جامعة الخرطوم، بعد رحلة طويلة بين قاعات الدراسة، إن كانت في المدارس، حيث عمل استاذا للغة العربية، ثم بعد ذلك واصل دراسته الجامعية في جامعة الخرطوم في كلية الأداب قسم اللغة العربية، و معيدا في ذات الجامعة، ثم أبتعث لبريطانيا لنيل شهادة الدكتوراة في ذات المجال. ولكن يهمنا الجانب الآخر من سيرة الرجل، باعتباره الجانب الذي لم يسلط عليه الضوء، فالدكتور محمد المهدي أحد الرعيل الأول لحزب البعث العربي الاشتراكي في السودان، و كان عضو القيادة القطرية، و كان مسؤولا عن القطاع العسكري في الحزب حتى عام 1977، هو العام الذي تفجر فيه الصراع داخل القيادة القطرية، أدى إلي انقسام طولي في الحزب، كانت اسباب الصراع تتمحور في شقين، التنظيمي و الفكري، و في الجانب التنظيمي ليس فقط داخل منظومة السودان، إنما طالت العلاقة بين القيادة القطرية و القيادة القومية، و في الجانب النظري كانت قضية الديمقراطية هي محور الاختلاف الفكري. بين تيارين الأول كان يمثله الدكتور محمد المهدي و إبراهيم البيكيفو و حسين حامد و آخرين و التيار الثاني يمثله الأستاذ بدرالدين مدثر و محمد علي جادين و آخرين. في عام 1977، هو العام الذي بدأت فيه مجموعة قيادية داخل الحزب تنقد علاقة القيادة القومية بالقيادة القطرية، و كانت تعتقد إن القيادات في القيادة القطرية هم الأقدر علي رسم خطط و سياسات الحزب دون أي تدخل من القيادة القومية، و يجب أن يكون رآى القيادة القومية في أية قضية داخلية لأية قطر هو رآي استشاري، و أن تكون القيادة القومية قيادة تنسيقية، و إن قراراتها حول المشاكل القطرية غير ملزمة، و القيادة القطرية وحدها المناط بها تقدير الموقف و أتخاذ ما تراه مناسب من إجراءات، أعتقد البعض إن هذه الرؤية الهدف منها هو تقييد تدخلات الأستاذ بدر الدين مدثر في مجريات عمل القيادة القطرية، باعتبار إن الأستاذ بدر الدين كان مسار حديث العمل التنظيمي، حيث كان الأستاذ بدر الدين مدثر قد سافر إلي المغرب العربي في رحلة عمل، و كان من المفترض أن يرجع للبلادليمارس مهامه، و لكنه سافر من هناك مباشرة إلي بغداد و مكث فيها، ثم أصبح عضو القيادة القومية بحكم منصبه، كانت رؤية مجموعة الدكتور محمد المهدي، إن الأستاذ بدر الدين مدثر باعتباره أمين سر القيادة القطرية، كان يمثل رمزا لحزب البعث، و كان ذو علاقة وطيدة مع القوي السياسية في الداخل، و من المهم جدا أن يدير العمل داخل السودان، و أن لا يذهب للبقاء في القيادة القومية في بغداد، الأمر الذي رفضته المجموعة التي كانت تدين بالولاء للأستاذ بدر الدين مدثر. كانت القيادة القطرية خاضعة خضوعا كاملا للأستاذ بدر الدين، و تأتيها التوجيهات من قبل القيادة القومية في بغداد فقط للتنفيذ دون أية نقاش في تلك القرارات، الأمر الذي استفز عدد من القيادات، و كانوا مقتنعين ليست هذه قرارات القيادة القومية، أنما هي قرارات بدر الدين مدثر، لذلك ثاروا هذه القضية داخل القيادة القطرية، و استمر حولها النقاش شهورا، ثم أرسلت القيادة القومية لبعض القيادات لكي تحضر إلي بغداد لحل الأزمة المستمرة داخل القيادة القطرية، و بالفعل ذهب البعض و رفض البعض الأخر الذهاب، و تمسكوا برؤيتهم إن الأزمة الداخلية للحزب يجب أن تحل في السودان، و يرفضون ممارسة أية ضغوط من أية جهة كانت، لذلك ذهبوا في القضية إلي المسار النظري، حيث كان نقدهم لقضية الديمقراطية، و كانوا يعتقدوا إن البناء الفكري للحزب ضعيف خاصة في قضية الديمقراطية، حيث مبدأ "نفذ ثم ناقش" هذا المبدأ العسكري قد أضر بعملية تطور الحزب من الناحية الفكرية و الثقافية، و أصبحت علاقة القيادة بالقواعد هي إصدار قرارات و تنتظر من جانبهم التنفيذ، و ليس الحوار و النقاش فيها، الأمر الذي جعل البعض ينظر إلي القيادات بأنها كائنات مقدسة، يجب أن لا تناقش فيما تقول أو ما تصدره من القرارات، و بالتالي أية عمل سياسي لا يخضع للنقاش الحر المفتوح من القاعدة إلي القيادة، هو عمل لا يؤدي لوعي، و لا يكسب خبرات و مهارات، و لا يطور الكوادر الحزبية، و إن الحزب لا يستطيع أن يستقطب وسط المجموعات المستنيرة، التي ترفض أن تعطل عقولها، و تصبح توابع للهتاف و التنفيذ، هذه الرؤية اعتقد البعض إنها موجهة للأستاذ بدر الدين مدثر، الذي بالفعل كان يحاول أن يدير القيادة القطرية من بغداد، الأمر الذي أدي لخروج هذه المجموعة. وسط هذا الصراع الحاد في القيادة القطرية انسحب علي قطاعات الطلاب خاصة في جامعتي الخرطوم و القاهرة فرع الخرطوم حيث خرج الدكتور مضوي إبراهيم أدم " فك الله معضلته" و شين سليمان شين و مرشد الدين أحمد يوسف و عمر حسن و آخرين و كذلك في جامعة القاهرة حيث خرجت مجموعة كبيرة منهم اسامه عبد الحليم و معتصم أحمد الحاج ، أما في بغداد فنقسمت رابطة الطلاب السودانيين إنقساما طوليا، و إن كان في بغداد حاول البعض بتسخير من الأستاذ بدر الدين ممارسة الترهيب و التخويف و التلويح بالطرد و غيرها، لكي لا يسمحوا للطلاب إبداء الرآي في الأحداث الجارية، باعتبار إن بغداد دولة الحزب، و لكن الحصل العكس خرج نصف الطلاب. الغريب في عام 1997، أثارت مجموعة أخرى ذات القضية بعد عشرين عاما، و التي تتمثل في التدخل السافر للقيادة القومية في عمل القيادة القطرية، و هذه المرة كانت المجموعة التي تتخذ من بغداد مقرا لها، تريد أن تمارس ذات الفعل الذي كان يمارسه الأستاذ بدرين مدثر من قبل، حيث كانت مجموعة بغداد " علي السنهوري و محمد الضو و الدكتور بكري خليل، يتدخلون في عمل القيادة القطرية، الأمر الذي رفضته مجموعة كبيرة بقيادة الراحل محمد علي جادين و عبد العزيز حسين الصاوي و يحي الحسين و محمد سيد احمد عتيق و مجذوب العيدروس و آخرين، و في ذات الوقت حولوا الصراع من صراع سياسي إلي صراع فكري، حيث انتقدوا المكونات الرئيسية للبعث، أولها اعتقدوا إن مركزية الصراع ليس القضية الفلسطينية، إنما هي المشاكل الداخلية لكل قطر، خاصة إن مشكلة جنوب السودان أكثر خطورة للسودان من غيرها، و قضية الديمقراطية التي أهملها الحزب، حيث أصبح البعث و بحكم تجربتي الحكم في بغداد و دمشق هي تجارب في خصام عدائي مع الديمقراطية، الأمر الذي ولد صراعات داخل كل منظومة قطرية، و أدي لمحاولات سيطرة مجموعة قليلة باسم القيادة القومية علي مؤسسات الحزب في الدول العربية، هذا الصراع الفكري لم تستطيع أن تتحمله مجموعة بغداد، إن قبولها لهذا النقد و التجاوب معه يعني الدخول مباشرة في صراع مع مجموعة صدام حسين، و بالتالي سوف يفقد الحزب أهم مصدر للتمويل، لذلك أعتبر هؤلاء خارجين عن مسار البعث، الأمر الذي جعل المجموعة تكون " حزب البعث السوداني. أتذكر عام 1998 جاء محمد علي جادين و المجذوب العيدروس و محمد سيد أحمد عتيق للقاهرة في تلبية لدعوة من مركز الدراسات السودانية، همست في آذن جادين و أنا أصافحه " بعد عشرين عام يأتي الوعي" ضحك و قال هذه تريد جلسة، مع أختلاف القضيتين من النحاية الفكرية، و بالفعل جلسنا جلسات طويلة. تأثر الدكتور محمد المهدي الذي كان في تلك الفترة قد سافر إلي بريطانيا لدراسة الدكتوراة، و كان علي اتصال مع مجموعة الطلاب التي خرجت من الحزب، الغريب كان الاتصال علي نفس تلفون رابطة الطلاب، و بعد خروج الطلاب من لرابطة التي كان يسيطر عليها البعثيين، استمريت في الاتصال مع الدكتور محمد المهدي، و أصبح محور الحوار بيننا هي الثورة الإيرانية التي اندلعت عام 1979. كان الدكتور محمد المهدي مهتما بالثورة لمعرفة الأسباب المباشرة التي أدت لتفجير الثورة ، و البحث عن العوامل التي تؤدي لنجاحها، و كان يقول رغم إن القوميين العرب قد سيطروا علي بعض الدول، و كونوا أحزابا شاركت في نظم سياسية أيضا في عدد من الدول، و سكبوا كمية من الآحبار علي الورق تنظيرا للثورة، و لكنهم فشلوا في أن يفجروا الثورة العربية لكي تؤدي للوحدة، و لكن استطاعت الثورة أن تسقط نظام الشاه المدعوم من قوى الأمبريالية. فكان يعتقد أن الدين أكبر مؤثر في قيام الثورات إذا تم أستغلاله بالصورة الصحيحة. و في عام 2012 التقيت بالدكتور محمد المهدي في جلسة مع الدكتور معتصم أحمد الحاج و محمد علي جادين، كان مايزال يبحث عوامل الثورة في المجتمع، من خلال صوته الهادي، إذا لم تصغي تماما لا تستطيع أن تسمعه بوضوح، و كلماته التي يختارها بعناية فائقة، و دائما يميل لطرح الأسئلة من الاسترسال في الحديث، و أضاف عامل أخر للدين كمفجر للثورة الشعبية، هو انتشار وسائل الاتصال، لكنه كان يقول ليس كل حديث منشور بصورة واسعة يمكن أن يحدث ثورة. رحم الله الدكتور محمد المهدي بقدر ما اعطي للأجيال و بقدر مكان في حسن معشره و خلقه، صاحب الابتسامة الخافته التي تجذبك لهذه الشخصية الودودة، نسأل الله له الرحمة و المغفرة. و نسأل الله أن يلهمنا الصبر في أوجاعنا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة