الخرطوم.. قصة صناعة عاصمة السُّودان بقلم الدكتور عمر مصطفى شركيان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-16-2024, 01:19 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-19-2015, 01:58 AM

عمر مصطفى شركيان
<aعمر مصطفى شركيان
تاريخ التسجيل: 11-01-2013
مجموع المشاركات: 144

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الخرطوم.. قصة صناعة عاصمة السُّودان بقلم الدكتور عمر مصطفى شركيان

    01:58 AM Jul, 19 2015
    سودانيز اون لاين
    عمر مصطفى شركيان-
    مكتبتى فى سودانيزاونلاين




    mailto:[email protected]@yahoo.co.uk

    مقدِّمة

    الخرطوم ملتقى النيلين الأزرق والأبيض ريثما يستأنفان تدفقهما كنهر واحد، وذلك بعد استصحاب نهر عطبرة، شمالاً صوب البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا الملتقى النهري المعروف بالمقرن التحمت ثلاث مستوطنات قديمة هي مدينة الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري لتكوِّن عاصمة السُّودان المثلَّثة. ولكن شواطئ هذه الأنهار متَّسخة ومحمَّلة بكل عناصر تلوُّث البيئة الصحيَّة مما يضر بالإنسان والحيوان على حدٍ سواء، وتحجم النشاطات السياحيَّة التي يمكن أن تجعل من هذه الشواطىء متنفساً جاذباً للعامة والخاصة. فلذلك نجد أنَّ النيل يحتضن بعضاَ من الأمراض الأكثر فتكاً بالناس في السُّودان والدول التي تشارك النيل. وهذه الأمراض تتناقل إلى ضحاياها عبر البكتريا أو الفيروسات أو الطفيليات، سواء في الغذاء أم الماء أم البيئة. والسباحة في النيل تحمل مخاطر الإصابة بمرض البلهارسيا، وتتكاثر البعوض حول النيل لتسبِّب الملاريا وحمى الضنك، وفيروس غرب النيل، ثمَّ هناك البراغيث، التي تلسع الأقدام مسببة "تونجياسيس" (Tungiasis)، والتي في حال عدم علاجها باكراً قد تؤدِّي إلى فقدان أظافر القدم، مما يتطلَّب الأمر عمليَّة جراحيَّة لاستئصال أصابع القدم. أفلم يكن من الأجدر على موظَّفي الدولة في الوزارة المعنيَّة بالأمر أن يهتموا بنقاء مياه هذه الأنهار، وينتبهوا إلى صحة السكان الذين يسكنون بجوارها، ويعتنوا يتزييتها بالأزاهر والورود بهجة للنفوس وإمتاعاً للناس. فقد قامت الحضارات الإنسانيَّة العتيقة على ضفاف الأنهر، وخلَّدت ذكراها بالمدن العريقة والمباني الشواهق، والتصريف الصحي، وزيَّنت شواطئها بالأرصفة والملاهي والمنتزهات الشاسعة، والبساتين الوريقة، والحدائق الفيحاء، والرياض الأريضة، وهي التي كثر عشبها وازدهت وحسنت في العين. مهما يكن من شيء، فماذا يعني اسم الخرطوم؟


    الخرطوم.. الاسم والمدلول

    عن أصل كلمة الخرطوم تقول البجة إنَّ الخرطوم لفظة بجاوية. وحسب رؤيتهم فإنَّ "خرطوم" تحريف لكلمة "هارتوما" البجاوية، والتي تعني "اجتماع". ويورد الدكتور عبد الله علي إبراهيم قائمة بأسماء أماكن ذات صلة بالخرطوم في اللغة البجاويَّة، وهي "كرري" (انسياب، جريان، مجرى)، شمبات (شجرة مائلة قليلاً إلى جانب)، توتي (المكان الذي ينمو فيه شجر الأماب)، بُري اللاماب (المكان الذي يمنع الماء من الارتداد إلى الوراء).(1) بيد أنَّ الدكتور عون الشريف قاسم قد أورد في كتابه "قاموس العاميَّة في السُّودان" بأنَّ معنى اسم كرري يرجع إلى اسم شخص كان يُدعى "كررابي"، وكان يسكن منطقة كرري. مهما يكن من أمر، فإن صحَّت مزاعم البجة حول علاقة أسماء هذه المناطق باللغة البجاويَّة فهذا يعني أنَّ قدماء البجة سكنوا هذه الديار، أو كانوا قريباً منها لأنَّ ارتباط الأسماء باللغة المتداولة في ذلك الرَّدح من الزَّمان يوحي بالضرورة بوجود علاقة إقامة أو تجاور أو ترابط تجاري أو أي نمط من أنماط التواصل الاجتماعي، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار عدم وجود وسائل الاتصال الحديثة كما هو متداول اليوم. إذن يبقى على الذين أخذ الدكتور إبراهيم منهم هذه المعلومات – شفاهة كانت أم كتابة – أن يثبتوا بأكثر مما جادت به قريحتهم اللغويَّة عن العلاقة المكانيَّة والزمانيَّة بين البجة وبين هذه الديار، التي نراها تبعد بالأميال من موطن البجة، أو "البليميس" كما كانوا معروفين بهذا الاسم في التأريخ القديم، في شرق وشمال-شرق السُّودان.
    ونحن إذ نرجِّح الترجيح الذي هو أقرب إلى اليقين أنَّ منطقة الخرطوم كانت في قديم الزَّمان موطناً لقبيل الشلك. وليس هذا رجماً بالغيب، فقد كتب الروائي ويلبر سميث في روايته الماتعة "النهر الإله" عن استرقاق الشلك في هذه المنطقة.(2) وفي هذا الشأن يقول رث الشلك إنَّ شعبه قد أزاح الفونج من منطقتهم غرب النيل الأبيض في الحرب التي خاضوها ضدهم قبل أكثر من 350 عاماً، ثمَّ استولى قومه على مساكنهم في ديموث، وشرعوا في احتلال المناطق الواقعة على النيل، والتي امتدَّت لتصل إلى أم درمان. وفي طبقات ود ضيف الله تكلَّم المؤلف عما تعرَّض له إسماعيل صاحب الربَّابة، وهو من أهالي منطقة تقلي بجبال النُّوبة، لقُطَّاع الطرق بمنطقة الكوَّة على النيل الأبيض، وهم كانوا من قبيل الشلك. ونقلاً عن مزاعم الشلك أنفسهم فإنَّ كلمة الخرطوم لها مدلول في لغتهم بمعنى ملتقى النهرين. والجزيرة أبا في النيل الأبيض كانت موطن الشلك قبل أن ينتقل إليها آل الإمام المهدي من جزيرة لبب ويستوطنوا فيها، ويتزاوجوا مع سكانها الأصلاء.
    ثمَّ هناك من زعم أنَّ اسم الخرطوم مشتق من خرطوم الفيل، والخرطوم لغة تعني الأنف. ودرءاً لما قد يقدم عليه المتأسلمون في عصر أسلمة المعرفة في السُّودان، ولئلا يقولون إنَّ لاسم الخرطوم مدلول إيماني لأنَّه ورد في القرآن الكريم، كما تشير الآية: "سنسمه على الخرطوم" (القلم: 68/16)، والذي جاء بمعنى سنضربه على الوجه، ويقال على الأنف، ويقال سيسودُّ وجهه، كان لزاماً علينا أن نوضِّح ما أتت به الآية الكريمة. إذ كان المقصود بالآية هو الوليد بن المغيرة المخزومي، ولئن لم تشر إليه الآية بالاسم بل بالضمير هو، وبخاصة "إذا راعينا الظروف التي نزل فيها القرآن، والوسط الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلَّم، والأقوام الذين خاطبهم القرآن وتحدَّث عنهم، واللهجة التي تحدَّث بها." فلم يقتصر التلميح في محكم تنزيله على الإشارة إلى الأشخاص، بل كذلك على الأمكنة. لذلك يرى بعض المفسِّرين أنَّ كلمة "القريتين" المذكورة في القرآن الكريم تعبِّر عن مكة المكرَّمة والطائف، وذكروا أنَّهم (أي قريش) أرادوا برجل عظيم من القريتين، الوليد بن المغيرة المخزومي وعروة بن مسعود الثقفي، وذلك في قوله تعالى: "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" (الزخرف: 43/31). فلا مريَّة في "أنَّ الصراع كان مريراً، والجدل كان محتدماً بين النبي (ص) وأهل مكة أثناء إقامته فيها. فهل كان من الضروري ذكر خصومه بأسمائهم كلما تحدَّث عنهم القرآن؟ ألم يكن من الأبسط والأوجز، بل من الأوضح، استخدام الضمير بدلاً من ذكر أسماء القبائل وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات المعروفة المألوفة بين المسلمين وأعداء المسلمين على السواء؟"(3)
    على أيَّة حال، فالمدن تأخذ أسماءاً نابعة من مصادر الأفعال، أو كدالة من دالات الحرفة أو الإثنيَّة أو الجغرافيا أو التأريخ. ثمَّ قد يصاحبها تحريف للمصدر الأصلي حتى تستقر على حال، وقد يتم تغيير الأسماء الأصليَّة لتواكب أيديولوجيَّة دينيَّة أو لإشباع شهوات الحكام السياسيَّة. أما أسماء المدن التي تحمل الأصل الإثني فكان هذا شائعاً حتى في الدول الغربيَّة فعلى سبيل المثال: مدينة ليدز البريطانيَّة تعود تسميتها إلى قبيل "ليوديس"، وهم سكان المنطقة الأصلاء الذين أقاموا فيها واستعمرهم الله فيها، ولا يزال هناك شارع في عرصة المدينة يحمل اسم القبيل القديم، أي "طريق ليوديس". ألم تر أنَّ أسماء المدن الفرنسيَّة كانت مراكزاً لتجمعات قبليَّة في العهد الروماني؟ بلى! ففي ذلك الحين من الزَّمان أخذت المدن تنمو كمراكز للقبائل. حتى يومنا هذا، فإنَّ كثراً من أسماء المدن الفرنسيَّة ما هي إلا أسماءاً سموها لهذه القبائل أكثر منها للمدن. هكذا نجد أنَّ "لوتيشيا" لقبيل "باريسي" هي باريس اليوم، و"دوروكورتورم" لقبيل "ريمي" هو ريمس حالياً، و"ديفودرم" لقبيل "ميديوماتريسي" هو "ميتز" في الوقت الحاضر.(4) وبالطبع، بعد أن أُدخِل عليها بعض التصحيف بسبب عامل الزَّمن والتأريخ، وعوامل أخرى اجتماعيَّة وسياسيَّة، التي تلعب دوماً الدور الأساس في تحريف الأسماء وتبديلها.
    وفي السُّودان نجد مدينة كادقلي والدلنج في جبال النُّوبة وهما مسمَّيان على قبيلي كادقلي والدلنج – على التوالي، وأغلب القرى في جنوب كردفان تحمل أسماء القبايل،(5) والروايف الذين يسكنون هذه الأرياف، وذلك قبل أن يقبل على بعض منها أصحاب المآرب المستريبة ويبدِّلونها بأخرى مستعربة. وعلى ضوء هذه التصحيفات المسيَّسة نجد أنفسنا بإزاء سؤال لا سبيل إلى إنكار أهميته: هل نجنح إلى العروبة بصورتها التليدة والطارفة لتفسير وتأكيد هُويَّتنا؟ كلا!
    أما مدينة بربر السُّودانيَّة، فلا ندري من أين أتت بهذه التسمية. إذ ذكر أحد المؤرِّخين بأنَّ مدينة بربر، التي تقع على بعد 196 ميلاً شمال الخرطوم، قد سُمِّيت بهذا الاسم لأنَّها كانت تحكمها قديماً امرأة تسمى "بربرة"، وتسمى المدينة أيضاً "المخيرف" وهي مشتقة من الخريف، وقد دخلها إسماعيل باشا عند غزوه للسُّودان العام 1821م بدون قتال، ثمَّ أمست فيما بعد إحدى طرق قوافل الرِّق القادمة من سنار. بيد أنَّ لفظة بربر أو البرابرة في صيغ الجمع، أو البربريَّة، مشتقة من الكلمة اللاتينيَّة (Barbarus)، وهو الاصطلاح الذي أطلقه الرومان ومن قبلهم الإغريق (اليونان)، على الشعوب التي تقل عنهم حضارة – كما كانوا يزعمون – أو على جميع الشعوب المتخلِّفة بمستعمراتهم سواء في الشرق الأدني أو في شمال إفريقيا أو أوربا. والبربر في شمال إفريقيا اشتهروا في التأريخ باسم "البتر" حيناً، و"البرانس" حيناً آخر، وسُمُّوا ب"الجدالة" (سكان الصحراء)، وب"المزاولة" (سكان الهضاب)، وسُمُّوا ب"النوميديين" من طرف اليونان.(6)
    والجدير بالذكر أنَّ شمال السُّودان كان يعتبر الحدود الجنوبيَّة للإمبراطوريَّة الرومانيَّة، وقد خضعت مصر للرومان العام 31 ق.م.، وعُيِّن كورنليوس جاليوس حاكماً رومانيَّاً بمصر من قبل الإمبراطور أغسطس، ومن ثمَّ سار الحاكم الروماني في مصر "حتى أسوان، وهناك دعا رؤساء النُّوبيين المقيمين قرب فيلة جنوبي وادي حلفا، وأفهمهم ما أصبح لروما من حقوق في تلك المنطقة من وادي النيل، وعرض عليهم أن يحتفظوا باستقلالهم على أن يدفعوا الضرائب المقرَّرة (عليهم)، ويحترموا الحدود."(7) ولذلك نرى أنَّ الإمبراطور الروماني أغسطس قد اكتفى بأن يجعل الشلال الأول (عند أسوان) في مصر حدوداً لجبهة الإمبراطوريَّة الجنوبيَّة. ولكن يبدوا أنَّ أهل النُّوبا لم ينصاعوا إلى التعليمات الاستعماريَّة إيَّاها، فثاروا على الرومان، مما اضطرَّ الأخير إلى إخماد ثورتهم العام 29 ق.م. وبعد سنوات هاجم النُّوبيُّون الرومان في مصر العام 23 ق.م. حينما توجَّه الأخير في محاولة منه فاشلة للاستيلاء على اليمن. ومن ثمَّ دخل الحاكم الروماني في مصر قايوس بترونيوس في حرب ضروس مع النُّوبيين وهزمهم وطاردهم حتى إبريم والعاصمة القديمة في نبتة، وعاد الحاكم الروماني إلى الإسكندريَّة، ومعه آلاف من الأسرى النُّوبيين أرسل بعضهم إلى قيصر، وترك خلفه في إبريم حامية مكوَّنة من 400 مقاتل روماني، ومعهم من المؤن ما يكفيهم لمدة عامين.
    وما أن علم النُّوبيُّون بانسحاب الحاكم وأغلب قواته، ولم يكد يستقر في الشمال، حتى عادت ملكة النُّوبا الملقَّبة ب"كنداكا" وجنودها وبشيء من الكثرة شديد، وهاجمت الحامية الرومانيَّة في إبريم، ومن ثمَّ عاد الحاكم مرة أخرى قبل أن تستولى عليها، "فاضطرَّت لإرسال رسلها لطب الصلح، لكن القائد الروماني قبض عليهم، وأرسلهم للإمبراطور (في روما)، حيث عرضوا قضيَّتهم وأسباب ثورتهم، وقد أعادهم قيصر لبلادهم، وقَبل طلبهم في أن يُتركوا أحراراً في بلادهم على أن يدفعوا جزية معيَّنة."(8) ولا نبالغ ولا نتزيَّد إن قلنا إنَّ شجاعة هذه الملكة تدمي القلوب، وتثير الشجون، وتهيِّج الكوامن. فقد كانت ذات شخصيَّة قويَّة، معتدَّة بنفسها، فخورة بقومها، أبيَّة لا تقبل الدنيَّة.
    ودمشق – حاضرة سوريا – أخذت اسمها من الفعل دَمْشَقَ، ويقال دمشق عمله: أي أسرع فيه، وهذا العمل دَمْشًقة؛ أي عُمِل بعجله، والكلمة فصيحة؛ والدمشق: الناقة السريعة، ومن هذا أُخِذ اسم مدينة دمشق، فقيل دَمْشِقُوها إذاً: أي أبنوها بالعجلة؛ ورجلٌ دمشق اليدين: أي سريع العمل بهما.(9) ثم ندلف إلى القاهرة، حيث "يروى أنَّ القائد جوهر عندما بدأ في بناء المدينة أحاطها بأعمدة خشبيَّة، ووضع بين كل عمود وآخر حبالاً تتدلى منها أجراس بغرض أن تدق جميعها في لحظة واحدة عندما تُعطى الإشارة لذلك. وأحضر جوهر العرَّافين المغاربة وطلب منهم أن يختاروا توقيتاً يكون طالعه سعيداً ليرموا فيه الأساس فيجلب لهم الحظ السَّعيد. ولكن حدث أن وقف غراب فوق أحد الحبال، فدقَّت كل الأجراس وظنَّ العمال أنَّها الإشارة المتَّفق عليها فرموا الأساس المكوَّن من الطين والحجارة. وقد صادف أن ظهر في السماء في هذا التوقيت كوكب المريخ الذي يطلق عليه (قاهر الفلك) فسُمِّيت القاهرة لذلك. وقد أُضيف لها بعد وصول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي اسمه فأصبحت تُسمَّى القاهرة المعزيَّة، وسُمِّيت أيضاً القاهرة المعزيَّة المحروسة."(10) تُرى ماذا كان ستكون حال المصريين اليوم لو سُموا عاصمتهم "الغراب"!


    الخرطوم أيام زمان

    على أيَّة حال، كانت سوبا في شرق النيل في غابر الزمان حاضرة مملكة علوة المسيحيَّة (600-1504م)، أي قبل أن تتلاشى سطوتها وتنتهي سلطتها عشيَّة خراب سوبا في القصة الشعبيَّة المحفورة في التراث الشعبي السُّوداني ب"عجوبة خربت سوبا". إذ أنَّ الأمر ليس صواباً بهذه الصورة المبتذلة، أو الكيفيَّة الأقصوصيَّة إيَّاها، بل هناك الكثير المندثر الذي لا نكاد ندركه تفصيلاً وتحديداً عن هذه المملكة، برغم من الجزء اليسير الذي تعلَّمناه ونحن أيفاع تلامذة في المدارس الابتدائيَّة. فأهل السُّودان القدماء لم يسعفهم الله بحظ تدوين التأريخ، أو حظوة حفظ سجلاته نقلاً عمن كتبوه؛ والشيء اليسير الذي اجتهدت القلة القليلة في صونه قد قضت عليه دابة الأرض، أو عوامل الطبيعة المدمِّرة الأخرى، أو جادت عليه يد الإهمال في غير ترحُّم. ومن يسمع عن مدينة سوبا، أو يقرأ عنها، أو يرى بقايا أطلالها لا بد له أن يستعيد مباشرة نظريَّة ابن خلدون عن العمران، أو النشوء والاندثار. فهذه المدينة كانت في حين من الدَّهر مركزاً تجاريَّاً هاماً، وكان موقعها يعد إستراتيجيَّاً. إذ كانت واسطة العقد بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. وبعدما كانت آهلة بالناس والحياة، وبعد سيادتها واضمحلالها، ثمَّ خرابها بواسطة العرب العبدلاب، فقدت مكانتها، وهجرها أهلها صوب كردفان، واندثرت معالمها، ولولا بقايا أطلالها لقلنا: إنَّ هذه البقعة لم يسكنها أحد، ولم تكن أبداً شيئاً مذكوراً.
    والرحَّالة العربي ابن حوقل هو أحد الجغرافيين الذين زاروا المملكة ووصفها بأنَّها أكبر وأغنى وأقوى من مملكة المغرة، وامتدَّت المملكة لتشمل أقاليم واسعة من إثيوبيا شرقاً حتى كردفان غرباً، وبين الشلالين الخامس والسادس شمالاً حتى مشارف بحر الغزال جنوباً. فبرغم من دوام المملكة مزدهرة زهاء الألف عام، واتِّقاد جذوة سلطتها، وترامي حجمها الجغرافي، إلا أنَّ كل ما هو معلوم لدينا عنها قد أتانا من خلال الحفريات الضئيلة التي قام بها علماء الآثار والحفريات. إذ اعتنقت المملكة العقيدة المسيحيَّة في القرن السادس الميلادي على أيدي المبشِّرين الذين ابتعثهم الإمبراطور البيزنطي جوستنيان وزوجه ثيودور.


    الخرطوم في العهد التركي-المصري (1821-1885م)

    وبعد ذلك عفا الزمن عن سوبا، ومضت قرون عديدة قبل تبدُّل الحال والمآل. ومن ثمَّ جاء إلى السُّودان غزاة جدد، حيث أخذ نجم الخرطوم يسطع. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ تأريخ الخرطوم يعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، أي تحديداً بعد الغزو التركي-المصري للسُّودان العام 1821م، حين تمَّ اختيار هذه المنطقة عاصمة للسُّودان. ومذَّاك الحين تحوَّلت الخرطوم من قرية صغيرة كان يقطنها الصيَّادون وملتقطو الثمار إلى مركز السلطة وكرسي الدولة. كانت الخرطوم قبل ذلك العهد غاصة بالغابات الكثيرة، وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض الضيعة روائح قتَّالة تجتاح الناس وتحصدهم، وكانت البيوت تبنى من الطين المعجون والقش والقصب، ولم يكن قاطنوها يعرفون الصحة العامة، ولذلك كانوا يلقون بأحشاء الحيوانات وأقذار المطابخ أمام بيوتهم، فتتصاعد منها روائح نتنة، وكثيراً ما كانوا يؤون معهم الحيوانات المستأنسة والداجنة. هكذا كانت البقعة التي اختيرت لتكون عاصمة البلاد، حيث لم تتغيَّر الحال الصحيَّة حتى بعد أن أمست عاصمة البلاد يومئذٍ.
    فبعد اعتماد موقع الخرطوم كعاصمة للدولة التركيَّة-المصريَّة في السُّودان ابتداءاً من اختيار عثمان بك جرجس البرنجي له وقيام علي خورشيد باشا بتشييده العام 1830م، لم يكن لديه ما يمكن أن يوصف بازدهار الحاضرة أو المدينة بالمعنى المعروف للمدينة كما كانت الحال في أقطار البحر الأبيض المتوسط وأوربا. فالمدينة – متمثِّلة في الوحدة الاجتماعيَّة – عنصر هام من الناحية الاقتصاديَّة والسياسيَّة. والسُّودان كواحد من الأقطار الزراعيَّة كانت المدينة عنده ما هو إلا عبارة عن قرية كبيرة، والخرطوم يومذاك كانت قرية ضخمة ذات مبانٍ مبنية على غير نظام، بالطوب أو الطين والقش والخشب، حيث كانت تكتسحها مياه الأمطار الغزيرة والفيضانات الموسميَّة من حين إلى آخر، فيعاد بناؤها من جديد. وكان الأهالي يحتفرون الأرض لأخذ الطين اللازم للبناء، وتتخلَّف مياه الأمطار والقاذورات في هذه الحفر وتنتشر الأمراض التي أمست تفتك بهم فتكاً شديداً. وقد بغضها الرحالة البريطاني صمويل بيكر وزوجه البلغاريَّة الحسناء منذ رؤيتهما لها بعد زيارتهما إليها. إذ وصفاها بأنَّها أكثر المناطق تعاسة واتساخاً ومرضاً. وإنَّه لمن الصعب تخيُّلها، ولم تجد ما وراء النهر غير الصحراء الكئيبة. أما داخل حدود المدينة نفسها فيقطن حوالي 30.000 من الناس مزدحمين في أكواخ مشيَّدة من الطوب المحروق، حيث تغمرها مياه الفيضانات بين الفينة وأخرى. وترى هناك حيوانات ميتة ملقاة في الشوارع العديمة التصريف، والمورد الوحيد للماء الكدر هو النهر، حيث تستخدم فيه الساقية ذات العجلات الفارسيَّة الصنع، ويجرها الثور في شكل دائري. وليس هناك ما يمكن إنجازه في المدينة من غير دفع رشوة؛ ولتجدنَّ التعذيب والجلد كأمر واقع وحتمي في السجون، وقد جمع موسى باشا حمدي – حكمدار السُّودان (1861-1865م) – بين أسوأ إخفاقات المجتمع وبشاعة الحيوان المتوحش. كانت هذه هي حال الأتراك-المصريين في السُّودان؛ فلم يكن قضاؤهم بالحق وأخذهم بالعدل، ولكن كانت شدة السلطان قتلاً بالسيف، وضرباً بالسوط، والظلم لا يكون إلا باتِّباع الهوى. وخلال أغلب أشهر السنة تبلغ درجات الحرارة أرقاماً عالية جداً، وعندما يهب الهبوب بالرِّمال يكسو السماء سواد ويصبح كالليل. ولعلَّ ذلك السبَّب هو الذي دفع الخديوي إسماعيل باشا أن يكتب إلى حكمدار السُّودان جعفر مظهر باشا (1866-1871م) مقترحاً له نقل العاصمة من الخرطوم إلى جزيرة توتي لصلاحيَّة الأخيرة من حيث الصحة، وعدم تناسب الأولى من ناحية انخفاض موقعها، وكثرة الرطوبة في جوها، ورداءة مناخها.
    ومن بعد، عاشت الخرطوم واعتمدت في ذلك الحين من الزَّمان على ما أسموه "تجارة النيل الأبيض". ومن غير تجارة النيل الأبيض – والحديث هنا لصمويل بيكر، الذي زار المدينة لأول مرة العام 1863م – لاختفت الخرطوم عن الوجود، ولم تبق شيئاً مذكوراً. وكانت هذه التجارة تتمثَّل في اختطاف أهالي البلد الأصلاء والقتل وجلب العاج، الذي بلغت قيمته السنويَّة للتصدير إلى الخارج 40.000 جنيهاً؛ إذ كان ذلك يُعد مبلغاً كبيراً في ذلك الرَّدح من الزَّمان. وكان التجَّار المشتغلون بهذه التجارة – في جلب الرقيق والعاج معاً – هم أناس من السوريين والأقباط والأتراك والشراكسة والأوربيين والعرب السُّودانيين.


    الخرطوم أيام المهديَّة (1885-1898م)

    ولكن بعد هزيمة السلطة التركيَّة-المصريَّة في السُّودان وسقوط الخرطوم في 26 كانون الثاني (يناير) 1885م بواسطة جيوش المهديَّة ومقتل الجنرال تشارلز غوردون باشا، أمر المهدي بإخلاء المدينة، إلا أنَّ ثلة من أقربائه اختاروا البقاء في المدينة، وأسكنوا أنفسهم وأهليهم في بعض المنازل الفاخرة التي كانت مملوكة للأجانب. وفي هذه الأثناء كانت أم درمان لا تساوي أكثر من قرية كبيرة يستظل بها صيادو الأسماك ويختلف إليها العصابة من حين إلى آخر. وعندما هجر المهدي الخرطوم ليجعل من أم درمان عاصمة له كان يهدف فيما أقدم عليه أن تصبح البقعة الجديدة معسكراً مؤقتاً ريثما يستأنف جهاده في القاهرة ودمشق، أو في أي مصير عظيم آخر. ومن ثمَّ نشأت أم درمان دون أيَّة رؤية مستقبليَّة للأجيال؛ إذ لم يعن هذا أنَّه كان هناك من هم أصحاب حرف في العمران وذووا الموارد الماليَّة لجعل المدينة جذَّابة معماريَّاً، حتى لئن كانت هناك عزيمة. أما الخليفة عبد الله التعايشي فكان أقلَّ أوهاماً من المهدي، الذي كان يحلم في أن يمسي حاكماً لإمبراطوريَّة عموم العرب، فاستقرَّ رأيه في أن تصبح أم درمان عاصمته الأبديَّة. ومع ذلك لم يبذل الخليفة عبد الله جهداً جهيداً لتطوير أو تحديث المدينة، التي ورثها. بيد أنَّ هناك استثناءاً واحداً كان قد أنجزه الخليفة عبد الله في إطار معمار المدينة، وكان ذلك لدواعي عسكريَّة وأمنيَّة بحتة، حيث تمَّ تشييد شوارع عريضة تقف البيوت على جوانبها، حتى يستطيع حرسه الوصول بسرعة فائقة إلى أي طرف من أطراف المدينة لإخماد ما يمكن أن يتطوَّر ويمسي عصياناً مسلَّحاً.
    وبعد وفاة المهدي بعد ستة أشهر من سقوط الخرطوم، وانتقال السلطة إلى الخليفة عبد الله، ونقل العاصمة إلى مدينة أم درمان، التي أسموها البقعة، انتعشت المدينة. غير أنَّ كلمة أم درمان لها تأريخ طويل. إذ كانت أم درمان ابنة ملك "العنج" منذ قرون خلت، وكان درمان ابنها، وكانت آثار حائط مملكتهم باقية حتى وقت قريب في المنطقة المعروفة باسم بيت المال في أم درمان. ومن هنا أمست المنطقة تُعرف باسم أم درمان، ولكن المهدي سمَّاها "البقعة". إذ ظلَّ محدثي يحدِّثني بأنَّه سمع شيخاً عجوزاً يترنَّم بقصيدة في حفل الشاي، حيث جرت عباراتها على النحو التالي: "بقعة أم درمان أمان الخائف/ ما يأباها غير الهايف." بيد أنَّ البروفيسور دايفيد ليفيرنق لويس كتب أنَّ اسم أم درمان ناتج من أم در بمعنى – والحديث هنا للبروفيسور لويس – مكان الدرر.(11) إذ لم يذكر البروفيسور لويس مصدر معلوماته، مما نستطيع أن نخلص هنا إلى القول بأنَّ هذا جانب من جوانب التصحيف السياسي المتعمَّد، الذي اعترى كثراً من أسماء المدن والمناطق في السُّودان. مهما يكن من شأن، فقد كان الخليفة عبد الله مستاءاً الاستياء كله من حاشية المهدي وخاصته لأنَّهم اعترضوا على تعيينه خلفاً للمهدي في المهديَّة، وكانوا يريدونها وراثة، ثم كان الخليفة عبد الله يمقت أيما مقت حياة البذخ والرفاهيَّة االتي اعتادوا عليها وانغمسوا فيها. ففي آب (أغسطس) 1886م أمر الخليفة عبد الله بإخلاء الخرطوم تماماً في خلال ثلاثة أيام، وهدم كل المباني ذات الشأن العظيم، ونقل المواد الحديديَّة والخشبيَّة وأيَّة مواد البناء الأخرى إلى أم درمان لتشييد المنازل هناك.(12)
    بيد أنَّ مما يجعل المرء يحتار ويتساءل لِمَ تمَّت الإشارة إلى الخليفة عبد الله بقبيله التعايشة ولم يجر الوصف ذلك على محمد أحمد المهدي ويُوصف بالمهدي الدنقلاوي، بل أصبح الأخير يزعم بأنَّه من الأشراف الذين سكنوا جزيرة لبب بالشماليَّة. فلا مريَّة في أنَّ النسب والحسب إلى القبيل من عادات وتقاليد العرب العريقة التليدة عبر التأريخ. فهناك أبو عبيدة بن مسعود بن معتَّب الثقفي (من قبيل ثقيف)، الذي كان على رأس الجيش الذي غزا فارس، ثمَّ هناك عبد الرحمن بن عوف الزهري (من قبيل بني زهرة). وكم قرأنا عن أمرؤ القيس بن حُجر الكِندي (من قبيل كندة)، وزهير بن أبي سُلمى المُزني (من قبيل مُزينة)، وعمرو بن كلثوم التغلبي (من قبيل تغلب)، وعنترة بن شداد العبسي (من قبيل بني عبس)، وكلهم من فحول شعراء العرب، وأكثرهم إجادة في تقريظ الشعر وأصحاب المعلَّقات، الذين ما فتأوا يفتخرون بقبائلهم العربيَّة، ويعتزون بها أيَّما اعتزاز. ومع ذلك يسمون هذه الأشعار بما فيها من سبك الحبك، ورصانة المعنى، وحلاوة الجرس الموسيقي، بالشعر الجاهلي، وذلك برغم من اشتمالها على الأبعاد الشعريَّة الأربعة وهي: اللغة بفروعها، والموسيقى بإيقاعها، والموضوع بروحه، ثمَّ التأثير في نفوس الناس. وإنَّا لنعجب في أشد ما يكون العجب لِمَ يسمون هذا الإنتاج الأدبي بالشعر الجاهلي مع أنَّ هذا الشعر المسمى بالجاهلي وحده يعد من أقوى وأضخم تراث شهدته العرب حتى عاد مرجعاً لتفسير القرآن الكريم كما قال ابن عباس المفسِّر الأول للقرآن، والذي لُقِّب بترجمان القرآن: "إنَّه إذا غمض شيء من معاني القرآن الكريم فعودوا إلى الشعر الجاهلي للاستعانة به على تفسير اللغة العربيَّة التي نزل بها القرآن الكريم."
    أيَّاً كان من أمرهم، فهناك مؤرِّخ المهديَّة الشهير عبد القادر الكردفاني، الذي أُردِف اسمه بمنطقته الإقليميَّة، ثم هناك حي ود نوباوي في أم درمان. ولكن في السُّودان تجري الأمور عكس المألوف تماماً. فيبدو أنَّ نسب الخليفة عبد الله إلى قبيل التعايشة في غرب السُّودان (دارفور) من قبل الذين ابتدعوا هذا الانتساب قصدوا به إذلاله وإهانته، وقد تبيَّن الإذلال جليَّاً في تمرُّد آل المهدي عليه وتآمره ضده. ولم تنجح هذه المغامرة، ولكن كانت هناك مغامرة أخرى أصابت من النجاح أسوأه وأبغضه، وهي إضفاء العنصريَّة على السلوك السياسي في السُّودان، وابتداع عبارات أولاد البحر وأولاد الغرب. فبدلاً من تركيز أولاد المهدي على المطالب السياسيَّة، التي طالب بها معشر التجَّار المتمدينين وسكان المدينة – كإلغاء الجبايا على القوارب التجاريَّة والإبل، ورفع العشور على البضائع التي كانت تمر عبر بربر وأم درمان، وتوزيع السلع المخزونة في بيت المال وسط الفقراء المعوزين الذين لا يملكون شيئاً، وإلغاء الاعتقال التحفظي في البيوت لأبناء المهدي – غير أنَّهم ركَّزوا على العنصريَّة والجهويَّة في تسييس القضايا العامة، وفي ذلك فإذا الخليفة عبد الله عليهم بالمرصاد. ومن ثمَّ أوفى الخليفة عبد الله بالمطالب السياسيَّة إيَّاها. كان الخليفة عبد الله يعيش في حال ارتياب وارتعاب ليس من أعدائه الذين كان يدعوهم "الكفار"، وهو الذي كان يأنس في نفسه الكفاءة بأنَّه قادر على تدميرهم، ولكن أسباب الريب والرُّعب مصدرها رفاقه الذين غلبهم بسحره، وجعلهم تحت سيطرته عن طريق السطوة التسلطيَّة.
    أفأريتم "ما كان من موقفه (الخليفة عبد الله) إزاء حادثة الأشراف وافتئاتهم على خليفة المهدي، وتدبيرهم المؤامرة، وتصويبهم عليه الطلقات الناريَّة التي لم تصبه وهو في الجامع!" وربما كان من الخير أن نسوق هنا ما قاله الحردلو شعراً في هذه المناسبة في شيء من السخريَّة والهزء بليغ، وفي ذلك استطراداً في الحديث. إذ شبه الحردلو أعداء الخليفة عبد الله من آل المهدي بنبت الرُّبى، وإنَّهم لمأجورون في زمانهم، وهم أناس ذو بصر قليل، ثمَّ تعجَّب كيف يقبض واهن الشراك الذي يستخدم في القبض على أم قيردون، وهو ضرب من بغاث الطير، الفيل في ضخامته وهيبته. وهل هو إلا قول الشاعر الحردلو فيما أقبل عليه الأشراف:
    أنصارك تامين عبرت الكـــــــــــــيل يشبهوا نبت الرُّبى عن ركوب الخيل
    كان مأجور زمان وناساً بصرها قليل شرك "أم قيردون" كيفِن يقبض الفيل

    ومع ذلك، كان الحردلو يتمنى نجاح المؤامرة، وفي نفسه شيء من الرغبة "في أنَّ لو كانت المؤامرة أدقَّ حبكة وأشدَّ إحكاماً وأوسع نطاقاً وأكثر اتفاقاً مع مكانة الخليفة (عبد الله)،" ولئن لم يفصح بها أو يشير إليها شعراً أم نثراً. على أيَّة حال، فلما "تعارضت أهواء المهديَّة، وبدأت الأطماع أشدَّ ما تكون وضوحاً وحدَّة سنة 1309هـ، وانشقَّ الأشراف على خليفة المهدي، واستطاع بدهائه وحكمته أن يخنق الفتنة قبل أن تستفرخ وتتَّخذ مظهرها الخطر بإلقائه القبض على زعمائها والضرب على أيديهم وزجهم في السجن، وإقصاء بعضهم إلى الرجَّاف وإلى غيره." فلا ريب في أنَّ هذه الحادثة كانت قد كشفت جانباً من ضعف الحكومة أو ما شبه لهم كذلك، فوقف بعض الناس مبالغين "في تصوُّر أو تصوير هذا الوهن، حتى قال أحد شعراء الجعليين الحاج علي ود سعد النفيعابي معرضاً بسياسة الحكومة، ومستهجناً خطة الخلفاء في التصريح بأطماعهم والعمل في سبيلها على مرأى ومسمع من الرعيَّة التي أشركتهم بدورها في هذه الفوضى."(13)
    دنقرنا في العريان خــبط وقلبنا من الخوف ثـــــبت
    أهل الرياسة لكوها وأبت بعد ما شابت عقبان حبت

    هكذا كانت حال الخرطوم في بداية المهديَّة، وكيف نقل المهدي العاصمة إلى "البقعة"، أي أم درمان. بيد أنَّ فترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي لم تكن مستقرة تماماً. إذ حُيكت ضده مؤامرات عنصريَّة من أبناء المهدي، الذين ارتأوا بأنَّهم أولى بورثة أبيهم لا الخليفة عبد الله التعايشي القادم من غرب السُّودان! أما السطور التالية فتحدِّثنا عن علاقة المهديَّة بالعالمين الخارجيين: الإقليمي (العلاقة مع إثيوبيا)، والدولي (العلاقة مع بريطانيا والصراع البريطاني-الفرنسي حول السيطرة على منابع النيل)، وما تبع ذلك من تأثيرات على الخرطوم في عصر الاستعمار البريطاني-المصري.


    علاقة المهديَّة بالجارة إثيوبيا

    بعد سقوط الخرطوم في في 26 كانون الثاني (يناير) 1885م ومقتل الجنرال غوردون "أمست المسألة بالنسبة لبريطانيا – كما كتب هيربرت هوارشو كيتشنر – محصورة بين الفوضى والعودة إلى الوحشيَّة والأهوال العظيمة المحدقة بمصر، أو تحديث تجارة عظيمة في إفريقيا الوسطى تحت حكومة جيِّدة." بيد أنَّ المخاطر الجسام التي باتت تهدِّد مصر، واحتمالات انعاش التجارة في إفريقيا كانت ذات أهميَّة هامشيَّة في عيون كيتشنر. فالشيء المهم في نظره، مهما يكن من شأن، كان الثأر لدم غوردون. هكذا ظلَّت فكرة الانتقام عن غوردون معشعشة في مخيلة الرائد كيتشنر، ذاك الضابط الطموح في سلاح المهندسين الملكي، والذي كان ملحقاً بسلاح الخيَّالة المصريَّة، وكان قائداً لقوات الاستطلاع. إذ تجلَّت مهمَّته في مزاولة الاتصال مع غوردون ورفع تقارير دوريَّة عن شؤون ما يجري داخل أسوار مدينة الخرطوم التي كان يحاصرها أنصار المهدي حينذٍ.
    لكن، أصحيح أنَّ السُّودانيين والإثيوبيين كانوا يخطِّطون في عمل عدائي مشترك ضد الغزاة وتعريض أمن مصر للخطر؟ أم كان ما تعاهدوا عليه هو فقط اتفاق دفاع مشترك لحماية أراضيهم ضد أي عدوان خارجي محتمل؟ أصحيح أنَّ الفرنسيين، الذين وضعوا أصابعهم على الكعكة، قد شرعوا يأتمرون في مد نفوذهم عبر أعالي النيل؟ أصحيح أنَّه لم يكن للبريطانيين حافز اقتصادي لغزو السُّودان برغم من الجهود العسكريَّة والسياسيَّة التي بُذلت، والأموال الضخمة التي صُرِفت، والخبرات الحربيَّة والموارد البشريَّة، التي سُخِّرت لاجتياح السُّودان؟ ثمَّ هل بات دم الجنرال غوردون ونداء الانتقام عنه قميص عثمان؟ أم أنَّ الحبكة كلها كانت من بنات أفكار رجال الأمن والاستخبارات والجيش لإقناع المؤسسة السياسيَّة لاتخاذ قرار سياسي لاحتلال السُّودان؟
    فيما يختص بالأمر الأول، فكل الخطابات المتبادلة بين الخليفة عبد الله والإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني كان الأول يطلب من الأخير اعتناق الإسلام كشرط لأي اتفاق أو تعاون بين البلدين المجاورين. وقد ذكَّر الخليفة نده النجاشي منليك ملك الملوك بأنَّه "شحذ الهالك النجاشي يوحنا العظيم (يوحنا الرَّابع) في أن يعتنق الإسلام، لكنه طغى وتجبَّر، وازدرى علينا، وقلب ظهره عن طريق الحق،" هكذا خاطب الحليفة عبد الله منليك كتاباً مقروءاً. ثمَّ استطرد قائلاً: "والآن نكتب إليك ثانياً، وندعوك أن تعتنق العقيدة الإسلاميَّة، وتمسي في صف أتباع المهدي. ومتى ما أصبحت أحد أنصار المهدي، الذين يتَّبعون الصراط المستقيم، ثق بأنَّنا سوف نتقبَّلك ونعيِّنك أميراً لتمثِّلنا على بلادك كله، ولكن عليك أن تبقى في حدود بلادك، ولا تعبر حدود الإسلام." ثمَّ جاءت الرِّسالة التالية من منليك إلى الخليفة عبد الله بعد انتصار الأول على الطليان في معركة "عدوة"، طالباً من الأخير أن يهزمهم (أي الطليان) هو الآخر في كسلا. ومن بعد ذلك جاء خطاب الخليفة لمنليك فقرأه فإذا هو يقول: "فليكن معلوماً لديكم أنَّه ليس هناك أي حافز لأي أوربي أن يأتي إلى أرضنا الإسلاميَّة لامتهان البيع والشراء، أو ادِّعاء السفر. هناك فقط حرب بيننا وبينهم. إذا منعتم كل الأوربيين من دخول وطنكم، إلا في حال الحرب، حتى لا يكون هناك اتصال بينكم وبينهم – كما هي الحال عندنا – فعلى هذا الشرط يمكن عقد سلام بيننا وبينكم."
    وفي رسالتين شفاهيتين من منليك إلى الخليفة عبد الله اقترح الإمبراطور الإثيوبي إبرام عقد بين القوتين. إذ لم تكن بنودهما واضحة المعالم، فضلاً عن عدم الالتزام بهما. فقد دعت الاتفاقيَّة – فيما دعت – إلى إطلاق سراح الأسارى الإثيوبيين الذين أُسِروا قبل عشرة أعوم، وإرجاع التاج الأمبراطوري الذي أُخِذ من جثة يوحنا بعد قتله في المعركة التي خاضها حمدان أبو عنجة ضد الإثيوبيين، واستئناف التجارة بين البلدين، وانسحاب السُّودان من الأراضي المتنازعة عليها في غرب إثيوبيا والمعروفة ب"بني شنقول"، وعلى الإثيوبيين أن يعلنوا عزمهم على منع الأوربيين من غزو السُّودان عبر أراضيهم. وفي هذه الأثناء أمر الإمبراطور أمراءه أن يستظهروا المودَّة والإخوة الكاذبة لحكام أم أمدرمان، وبخاصة أنَّ الخليفة عبد الله كان في حاجة إلى تطمينات لأنَّه كانت هناك ثلاثة فيالق من الجيش الإثيوبي مرابطة على الحدود السُّودانيَّة-الإثيوبيَّة. وكانت قوات الأمير "مكونين" الإثيوبيَّة قد شنَّت إغارة خاطفة حول النيل الأزرق في منطقة بني شنقول، وكانت التعليمات السريَّة الصادرة له بأن يحتل الإقليم كله إذا سيطرت القوات البريطانيَّة على مدينة بربر على نهر النيل.(14) وحين لم يقم كيتشنر بذلك – حتى ذلك الحين من الزمان – انسحب الإثيوبيُّون، ومن ثمَّ زعم منليك للخليفة بأنَّ قواته جاءت للتأديب، وليس للبقاء، وعليك ألا تصدِّق أي خبر غير هذا، وإنَّ آفة الأخبار رواتها.
    ولعلَّ من هذا السرد يتَّضح أنَّ ما قيل عن أو كتب في أمر التآمر بين الإثيوبيين والسُّودان ضد مصر كان تزيُّداً واستكثاراً وإمعاناً في التضليل. فالإثيوبيُّون لم ينسوا ما حاق بهم من جيوش الأنصار من تدمير لعاصمتهم غندار، وحرق أكثر من ستين كنيسة وغيرها، لذلك ظلَّوا عدواً شرساً ضد دولة المهديَّة، وظلوا يمارسوا الديبلوماسيَّة والحرب معاً في تعاملهم مع الأوربيين، فحقَّقوا لبلادهم نصراً مؤزَّراً ضد الطليان، واستمالوا قلوب الروس والبريطانيين، وغازلوا الفرنسيين بخدعة ماكرة، فطمعوا في أراضي السُّودان شرق النيل الأبيض، بينما طمع الفرنسيُّون في الأجزاء الواقعة غرب النيل الأبيض، وأخذ البلجيكيُّون يطرقون أبواب مقاطعة لادو في جنوب غرب السُّودان.
    أما فيما يختص بأمر غوردون فقد وضح جليَّاً من السياسة البريطانيَّة آنذاك أنَّه لم يكن من أولوياتها. كان الإمبرياليُّون البريطانيُّون، في ذلك الرَّدح من الزَّمان، يرون أنَّ هذه الدولة الدِّينيَّة الصحراويَّة سوف تضعف وتنهار وتصبح قاعاً صفصفاً في نهاية الأمر، وذلك بسبب تناقضاتها ومشكلاتها الداخليَّة. بيد أنَّهم كان يساورهم قلق عميق وأدلَّة غير منتظمة بسبب النمو الاقتصادي المستمر، وعلائق دولة المهديَّة التجاريَّة مع إثيوبيا، وفي المدى البعيد مع شبه الجزيرة العربيَّة، حيث اعتمدت الدولة على تجارة الرقيق والذرة والصمغ وملابس القبائل النيليَّة، التي كانت ذات أهميَّة قصوى لدولة المهديَّة. ومع خبو جذوة التطرُّف الدِّيني كمصدر للسلطة برزت الديكتاتوريَّة العسكريَّة، وانتعشت التجارة، وبدأ الاهتمام بالتجَّار بعد أن كان قد تمَّ إهمالهم في بادئ الأمر، وازداد التهميش أو التصفية أو لعب القدر بالمحاربين ذوي الطموح والقدرات القتاليَّة الفائقة – على سبيل المثال: مقتل عبد الرحمن النجومي في معركة توشكي في مصر العليا، ووفاة حمدان أبو عنجة بعد أن تناول عشباً مسموماً عن طريق الخطأ كمحاولة منه لعلاج سوء الهضم، ومقتل الزاكي طمل في السجن بالعطش – حيث أيقنت المخابرات البريطانيَّة أنَّه لم يحن الوقت بعد لكي يستمع الحاكم في أم درمان لأي اقتراح إذا كانت هذه الفكرة تعشعش في مخيلة الحكومة المصريَّة.


    المهديَّة والعلاقات الدوليَّة: بريطانيا وفرنسا والمنافسة في السيطرة على منابع النيل

    إذن، في حقيقة الأمر، لم يكن الائتمار الذي زُعِم بأنَّه أخذ يتأطَّر في شكل تحالف استفزازي بين إثيوبيا والسُّودان ضد مصر، أو الثأر عن دم غوردون، لم يكن هذا كله هو الدَّاعي الأساس لغزو السُّودان بواسطة بريطانيا. إذ لم تحفل الحكومة البريطانيَّة كثيراً أو قليلاً بمساعدة الطليان، ولا باستحواز قطع صحراويَّة وراء وادي حلفا. إذن، ماذا كان الدافع وراء هذه المغامرة كلها؟ الغرض الأساس في الغزو كان يكمن في فرنسا. فالمشاريع الفرنسيَّة في أعالي النيل باتت تقلق مضاجع الحكومة البريطانيَّة في لندن بشيء من القلق شديد. فإذا استطاعت حكومة الملكة فيكتوريا أن تحتل أوغندا وتفلح في إنجاز مشروع العام 1895م – برغم من تكاليفه الباهظة – لربط ممباسا ببحيرة فيكتوريا بالخط الحديدي، فإنَّه لسوف يحل مشكلات بريطانيا الإمداديَّة في شرق إفريقيا في نهاية الأمر، ويأمِّن منابع النيل من ابتلاع القوى الأوربيَّة الأخرى. وفي فترة ما قبل احتلال السُّودان كانت البوابة الفرنسيَّة في الطرف الأخر من النيل رافعة العلم الفرنسي ذي الألوان الثلاثة باختيال وزهو شديدين، وبات الفرنسيُّون يرسلون ضباط البحريَّة للتفاوض وإبرام اتفاقات مع القبائل النيليَّة، وبشيء من حتى – إذا كان بإمكانهم – عقد اتفاقيَّة مع أمراء الخليفة عبد الله. لذلك كان الهدف الرئيس من الاحتلال هو الوصول إلى فشودة في جنوب السُّودان قبل الفرنسيين.
    على أيَّة حال، فعندما وصلت طلائع وقوات كيتشنر إلى بربر، توقَّفت القوات الغازية هناك حيناً من الزمان ريثما تتلقَّى التعليمات وتأتي التعزيرات من بريطانيا قبل التقدُّم نحو أم درمان لخوض المعركة الفاصلة. وفي هذه الأثناء استشار الخليفة عبد الله قادته الشجعان، والذين أشاروا إليه بالخروج وملاقاة القوات الغازية – أو الأتراك كما كان الأنصار يطلقون على كل أوربي أبيض – في بربر والقضاء عليهم قبل اكتمال تعزيزاتهم العسكريَّة في التعداد والإمداد. غير أنَّ الخليفة عبد الله قال لهم: "إنَّه رأى في المنام نفسه على صهوة جواد في خضم المعركة في سهول كرري قبالة أم درمان، وهو في تلك الأثناء يسمع صرخات النَّصر وبكيات المهزومين، وإنَّه كذلك رأى السهول مبيضَّة بجماجم الكفار المذبوحين." ففكَّر أنصاره المخلصون وقدَّروا، ثمَّ قالوا في أنفسهم لأنفسهم إنَّهم إن لم يفعلوا ما ارتأي الخليفة فقد خالفوا إرادته، وباءوا بسخطه وغضبه. ثمَّ أمر الخليفة عبد الله أمراءه وخاصته أن يصطفوا لأداء الصلاة، ويبسطوا أيديهم إلى السماء ضارعين إلى الله تعالى أن يكلأهم بعين رعايته، ويبسط لهم جناح رحمته، وأن يهيء لهم من أمرهم رشداً.
    بناءاً على الحلم إيَّاه، وبعد أن توجَّه إلى الله تعالى بالضراعة والابتهال عسى أن يفرج كربتهم، ويجعل لهم من أمرهم مخرجاً، لم يغامر الخليفة في الخروج لملاقاة العدو في بربر، ولكن في الحين نفسه لم يكد يسمح "للأتراك" – أي البريطانيين والمصريين – أن يتقدَّموا صوب عاصمته "البقعة" (أم درمان) لتدميرها، ولذلك اختار منزلة وسطى بين المنزلتين. إذ أرسل الأمير محمود ود أحمد على رأس قوة قوامها 16.000 رجلاً لإعادة بربر إلى حضن دولة المهديَّة. وكان الخليفة عبد الله يقول في نفسه لنفسه إذا كان هؤلاء الرِّجال الغزاة من نمط القصب فإنَّ الرِّجال على شاكلة محمود ود أحمد لقادرون على صدهم، ولسوف لا يستطيعون معهم صبراً؛ أما إذا كانوا حقاً قوة مقاتلة يرتعب منهم، فلسوف يخسر فقط 16.000 رجلاً، ومن منطلق حظٍ عاثر يفقد أميراً واحداً من أمرائه.
    وفي الحال تمَّ تعزيز قوات ود أحمد بقوات عثمان دقنة. وبعد أن وصلت قوات ود أحمد إلى بربر، بعد أن فقد ما يقارب الألف جندي عن طريق التخاذل والموت، التقى الجمعان في يوم الجمعة الحزينة (السابقة لعيد الفصح) (Good Friday) 8 نيسان (أبريل) 1898م وانتهت المعركة بعد بضع دقائق بهزيمة جيوش الخليفة عبد الله وأسر محمود ود أحمد وهروب عثمان دقنة، ومقتل 3.000 جندي من جنود الخليفة وأسر المئات منهم، بينما فقد البريطانيُّون والمصريُّون أقل من 600 جندي.(15) وكان مع القوات الغازية ما أسموهم "القوات الصديقة"، التي تكوَّنت من ميليشيات بلغ تعدادها 2.500 جندي من الجعليين والبشاريين والهدندوة والعرب، والتي وضعت تحت قيادة الرائد إدوارد مونتاقو-ستيوارت-وورتلي، وقادها كما تقاد السائمة البلهاء. أولئك هم الناس الماكرين الذين تستعين بهم الحكومات الاستعماريَّة على غزو القلوب الضعيفة وحيازتها بلا سفك الدِّماء، ولا إنفاق مال! وهم الذين يكونون دائماً في حاشية حكام المستعمرات ليعينوهم على ما هم آخذون بسبيله من الاحتلال والغزو. وبرغم من أنَّ المعركة كانت قد انتهت بهزيمة ود أحمد، إلا أنَّ روحه المعنويَّة كانت عالية حينما مُثِّل أمام كيتشنر. فكان له حضور جذَّاب، وطلعة بهيَّة. إذ أُعجِب كل من القسيس أوين سبينسر واتكينز والمراسل الصحافي لصحيفة "الديلي ميل" جي دبليو ستيفنز بالحديث الذي دار بين الرَّجلين. فماذا قيل في تلك الأثناء؟ طفق كيتشنر يسأل محموداً: "أأنت الرَّجل محمود؟" فردَّ ود أحمد بفخر واعتزاز واعتداد بالنفس: "نعم، أنا محمود، وإنِّي لمثلك." ثمَّ استطرد كيتشنر سائلاً: "لماذا أتيت لتحارب هنا؟" هكذا سأل كيتشنر متناسياً أنَّه يقف على بعد 500 ميلاً داخل وطن محمود! إذ أجاب الأمير محمود: "جئت لأنَّني أُمِرت كما أُمِرت أنت."
    على أيِّ، فلا غضاضة في أن يأمل القائد في أنَّ قضيَّته ستؤول في نهاية الأمر إلى النَّصر الأكيد. غير أنَّ الإيمان الأعمى بالانتصار في المعركة قد يكون من أسمى الأشياء حين يكون القائد منطلقاً من قوة نيران أكبر، ووسائل استطلاع أحدث وغيرهما. ولكن عندما ينغمس القائد في هذه المغامرة من منطلق الضعف الشديد فعليه أن يبدئ ترتيباته وأولوياته، وإلا أصبحت الخسائر فادحة. وإيَّاكم والتهاون بالخصم. فمن حسن السياسة في الحرب، وإحكام التدبير لها ألا يغتر القائد بالعدو، وألا يستهين به، فالحرب لا يصلح لها إلا الرَّجل المكيث. فقد علمنا أنَّ المهلَّب بن أبي صفرة قد نصح عبد الرحمن بن الأشعث، وكان قد خرج لملاقاة الأزارفة من الخوارج في عشرة آلاف، فقال له: "يا ابن أخي خندق على نفسك وعلى أصحابك، فإنِّي عالم بأمر الخوارج، ولا تغتر. فأجابه: "أنا أعلم بهم منك، وهم أهون عليَّ من ضرطة الجمل." فبيَّته قطري بن الفجاءة صاحب الأزارفة وهزمه، وقتل من أصحابه خمسمائة، وفرَّ ابن الأشعث لا يلوي على أحد، فقال فيه الشاعر:
    تركتَ ولداننا تدمي نحورهُمُو وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل
    مهما يكن من شيء، فقد استمرَّت دولة المهديَّة حتى العام 1898م حين أغار عليها الجيش البريطاني-المصري بقيادة هيربرت هوراشو كيتشنر، وهزم جيوش الخليفة عبد الله التعايشي في معركة كرري في أم درمان في يوم الجمعة 2 أيلول (سبتمبر) 1898م. وهي أشرف وأبجل معركة خاضها السُّودانيون ضد غزو أجنبي حتى الآن، حتى أمست هذه الملحمة القتاليَّة مثلاً شروداً حين يأتي الحديث عن الرجولة والبطولة والتضحية في سبيل الأوطان. فحين يفتقد الناس الرِّجال لتجدنَّ قائل منهم يقول: "ويحكم تتحدَّثون عن الرِّجال! فإنَّ الرِّجال ماتوا في كرري"، أما ما بقوا على قيد الحياة فليسوا برجال." فالجندي المهدوي كان قادراً على احتمال جسماني لم يكن له مثيل. وكان الجنود المهدويُّون يوصفون بأنَّهم يقفزون أحياءاً ليقتلون، حتى بعد انقضاء المعركة. وقد آمن البريطانيُّون والمصريُّون معاً بشجاعة السُّودانيين وبسالتهم؛ سواء كانوا من أولئك الذين حاربوا في صفوفهم (موقعة عطبرة)، أم الذين شمَّروا سواعدهم، ووقفوا ضدهم في حومة الوغي في كرري. فكان الأنصار يتدافعون نحو فوهات المدافع، و"نفوسهم فاضت حماساً كالبحار الزاخرة"، ويصرخون بأعلى أصواتهم "الدِّين منصور"، محاولين سد مواسير هذه المدافع، ريثما تكف عن إطلاق قذائفها المميتة. ثمَّ كان الأنصاري المخترم بالرصاص، أو المسربل بالدم، أو الذي بُقِرت بطنه، يحمل أحشائه بيده اليسرى ورمحه باليمنى، ومحاولاً الظفر بقتل غريمه، حتى بات شعار الغزاة "لا تأمنن السُّوداني المجروح"، وربما كان هذا هو السبب الذي أدى إلى ارتكاب المجزرة في كرري.
    وما أن بدأت المعركة في كرري وانتهت حتى استعظم القادة والجنود البريطانيُّون ضراوة السُّودانيين. إذ تجلّى هذا الاستعظام في خطاباتهم إلى ذويهم، ومذكراتهم المنشورة، وسيرهم الذاتيَّة المطبوعة، وكتبهم المؤلَّفة. ومن هذه الكتب: "السُّودان المصري: فقدانه وإعادته" (1898م) لأتش أس الفورد ودبليو دينستون سورد، و"سقوط الدراويش" (1898م) لأيرنيست بينيت، و"مع كتشنر إلى الخرطوم" (1898م) لجي دبليو ستيفنز، و"مع جيوش كيتشنر" (1899م) لأوين سبينسر واتكينز، و"حملة السُّودان" (1899م) لضابط فضَّل حجب اسمه، و"حملة الخرطوم" (1899م) لبينيت بيرليه. أما الكتاب الأكثر شهرة واقتباساً وتداولاً فهو "حرب النهر" (1899م) لوينستون تشرشل، ثمَّ هناك "الحملات المصريَّة" (1900م) لتشالز رويل، وتأليف آخر في شكل سيرة ذاتية هو "مع كيتشنر في السُّودان: قصة عطبرة وأم درمان" (1903م) لجي أيه هينتي، و"المهندسون الملكيُّون في مصر والسُّودان" (1937م) للمقدم سانديز، و"كيتشنر: صورة الإمبريالي" (1958م) لفيليب مقنوس، و"سلاطين باشا: بين رايتين" (1973م) لغوردون بروك-شيفرد، و"الدراويش: صعود وانهيار إمبراطوريَّة إفريقيَّة" (1973م) لفيليب وارنر، و"أم درمان" (1973م) لفيليب زيغلر، و"كرري: الرواية السُّودانيَّة لمعركة أم درمان" (1980م) لعصمت حسن زلفو، وترجمه إلى الإنكليزيَّة بيتر كلارك، و"السباق إلى فشودة: الاستعمار الأوربي والمقاومة الإفريقيَّة في التدافع نحو إفريقيا" (1988م) لدايفيد ليفيرنق لويس، و"حروب الدراويش: غوردون وكيتشنر في السُّودان (1880-1898م)" (1996م) لروبين نيلاندز، و"كيتشنر: الطريق إلى أم درمان" (1998م) لجون بولوك، وكتب أخرى لا نكاد نستطيع حصرها. وفي ذلكم اليوم يوم كرري تحمَّست امرأة سودانيَّة، وطفقت ترتجز:
    أصحاب الإمام للقتال مرقـــــــــوا
    عاقدين العزم سوا ما اتفرَّقــــــــوا
    شدَّوا من عشي لجموا وساقـــــــوا
    ومن بعد الصبح معاهم اتلاقــــــوا
    الأسلم نجا والخافهم ساقـــــــــــــو
    الفارس قُتِل والجرى ما سبق جابو

    وكذلك ألهمت المعركة الشعراء والفنانين السُّودانيين، حتى أنشد الشاعر محمد أحمد محجوب:
    ودِّع لهو الشباب بين هند ورباب
    وأذكروا ماضي البلاد إنَّ للماضي حساب
    هل شجاكم مرَّة في كرري ذكرى آباء كرام الأثر
    عقدوا العزم على صد الخطر فتوارى جمعهم في الحفر
    ومضى الكل وفازوا بالبقاء

    وكتب الشاعر خلف الله بابكر:
    فيك سرغام كم سالت دموعي
    بل دم الأبطال سالا
    تلك يا سرغام حرب
    آه لو كانت سجالا
    أنا يا سرغام مهما صُغت من شعري مقالا
    عاجز عن القول، ولكن إنَّ من عجزي كمالا

    أما الشاعر الدكتور عبد الواحد عبد الله يوسف فقد أنشد نشيد "اليوم نرفع راية استقلالنا"، وتغنَّى به موسيقار السُّودان الراحل محمد وردي. وقد جاء في أبياته:
    كرري تُحدِّث عن رجال كالأسود الضارية
    خاضوا اللَّهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغــية
    والنهر يطفح بالضحايا بالدِّماء القانـــــــــية
    ما لان فرسان لنا، بل فرَّ جمع الطاغــــــية
    يا إخوتي غنوا لنا اليوم
    وليذكر التأريخ أبطالاً لنا

    بيد أنَّ الفنان وردي نفسه قد تغني بكرري في الأبيات التاليات:
    أشهدوا شهداء كــرري
    يا أساس الوطنـــــــــيَّة
    يا من كافحتم وناضلتم
    أحفادكم نالوا الحـــريَّة

    أيَّاً كان من أمر كرري، فحين خاض كتشنر حرباً ضد البوير في جنوب إفريقيا اتخذ هؤلاء المزراعون البيض تكتيك الاختباء والمباغطة في شن حرب العصابات على الجنود البريطانيين، مما دفع كتشنر أن يقول فيهم: ما لهؤلاء الأقوام يلوذون بالوديان والمحاجر، ولا يخرجون إلى العراء ويحاربون كالرِّجال مثل السُّودانيين في كرري! وإذا كان هذا ما كان من شأنهم فمن الأجدر بنا أن نحفل بهم، ونعني بسماع شيء من أخبارهم وتواريخهم؛ وعلينا ألا نمل التأريخ لكثرة ما يشتمل عليه من وصف المجازر البشريَّة، والمصارع الإنسانيَّة. فربما طفق أحد الأعراب الجاثم على الأرض على ضفاف النيل، وهو يتأمَّل الجمجمة التي يلعب بها الأطفال، وشرع يندب بكلمات تستبكي العيون، وتذيب الأكباد:
    يقولون إنَّه لمنظر يثير الصدمة
    بعد الانتصار في المعركـــــــــة
    ألم تر الآلاف من الجثـــــــــــــــث
    الملقاة في كرري ليتعفَّن هناك في الشمس
    ولكن من أجل ماذا كان هذا كله، كما أخذ عبد الله يتساءل؟ وما الخير الذي أتت به هذه الآزفة؟ هكذا تستعلم أخته فاطمة؟ لِمَ هذا؟ لا استطيع أن أبوح به، ولكن إنَّ قصتهم لقصة غريبة مؤثِّرة تستثير الأشجان وتستذرف الدموع. بيد أنَّ مثل هذه الأشياء – كما تعلم – ينبغي أن تحدث بعد نصر شهير. ولكن علام هذه المذبحة، وما الخير الذي أتت به هذه المجزرة، أو ما يمكن أن نسميه "الإمبرياليَّة كفلسفة ديناميَّة"!


    الخرطوم في العهد البريطاني-المصري (1898-1956م)

    مهما يكن من شيء، فإنَّ مدينة الخرطوم، التي تمَّ نهبها عقب سقوطها في يد المهديَّة العام 1885م، قد أُعيدت إلى سيرتها الأولى لتمسي عاصمة البلاد. كان كيتشنر مهندساً عسكريَّاً، وتدمير الخرطوم كان يعني عنده إعادة تخطيطها وبنائها على نحو جديد، وكما يهواه، أو كما تروق له أفكاره المعماريَّة والاستعماريَّة معاً. وتنفيذاً لأوامره تمَّ تخطيط الخرطوم مستخدماً شكل العلم البريطاني كأنموذج، وكرمز للسيطرة البريطانيَّة، وقوة الإمبراطوريَّة. ففي الخارطة الأصليَّة تبدو المدينة، التي بناها كيتشنر من جديد على أطورة الشوارع وطنون العمائر والأزقة بين البيوت، وذلك في شكل ذي أربعة أضلاع تتخللها شوارع قطريَّة تناسب بصورة محكمة المراقبة واليقظة والسيطرة العسكريَّة إذا دعت الضرورة الملجئة. وهناك ثمة تفسير آخر بأنَّ هذا التخطيط يسمح للمدافع الآليَّة أن تسيطر على الأوضاع في كل الاتجاهات، برغم من أنَّ البعض قد أظهر شكوكاً حول عنصري الأمن والعلم البريطاني في الخطة إيَّاها. وقد أتحف الدكتور أحمد العوض سكينجة الدور الأكاديميَّة بشيء من الدراسة عظيم عن تأريخ الأحياء السكنيَّة، والتجمعات السكانيَّة، والحرف التي كانت تُمارس في الخرطوم، وذلك في بحثه القيِّم "عبيد إلى عمال: العتق والعمالة في السُّودان المستعمر" (1996م).
    ومع ذلك، أشار مهندس بلدية الخرطوم دبليو أتش مكلين إلى العنصرين إيَّاهما في خطابه "تخطيط الخرطوم وأم درمان"، الذي ألقاه في مؤتمر تخطيط المدن الذي عُقِد في لندن العام 1910م. ومكلين إذ هو الذي كان قد أضاف امتدادات جديدة للمدينة في شكل تصميمات مستقيمة رتيبة، متجاهلاً الأقطار المائلة في العلم البريطاني. وبُعيد استقلال السُّودان العام 1956م كانت حدود الخرطوم الجنوبيَّة قد بلغت السجانة والديوم والحلة الجديدة، بينما بلغت حدودها الشرقيَّة أماكن متفرِّقة حدها المايقوما بالحاج يوسف وحلة كوكو، وغرباً كانت بانت بأم درمان، وشمالاً كانت الحلفايا (حلفاية الملوك) وشمبات. ففي مظهرها البهيج، وشوارعها العريضة التي تحفها الأشجار من كل الجوانب، كانت مدينة الخرطوم مرغوبة محبوبة وسط السُّودانيين. وكان الناس يطلقون اسمها على الأزياء (خرطوم بليل) وكلَّما جدَّ من الموضة، ويتسمون بها. ومن قبل كانت النِّساء يلبسن الفركي (الفركة) وقرن أبسحالي، وهما نوعان من الثياب كان في أحد الأيَّام من أرفع الثياب وأغلاها ثمناً، والشفوف الذي دفعت به المصانع الأجنبيَّة، والشفوف صيغة مبالغة على وزن فعول، وفعل المصدر شفَّ أي استطاع أن يرى خلاله. ومن بعد شرع الشعراء والموسيقيُّون يقصِّدون الأشعار عن الخرطوم، ويلحِّنون ما طاب لهم من الشعر الغنائي عن هذه المدينة. فها هو خليل فرح في قصيدة عزَّة في هواك يقول:
    عزَّ في حِزَا الخرطوم قُبال وعزَّ من جنان شمبات حـــــــــبال
    وعز لي ربوع أم در جبال وعزَّه في الفؤاد دوي يشفي الوبال

    وقد قصَّد الشاعر الجهير حسين عثمان منصور قصيدة "خرطوم .. يا مهد الجمال"، وذلك مجاراة للشاعر الفذ أحمد محمد صالح في قصيدته "فينوس"، حيث جاء في مطلعها:
    خرطومُ.. يا مهد الجمال ودرة الأوطان عنـــــــدي
    أنا كم أخاف عليك من شوقي وتحناني ووجـــــدي
    لما أذاعوا عفوهم وتخيَّروا "المنفين" بعـــــــــــدي
    هرعوا إليك ضعافهم.. وبقيت مثل السيف وحـدي
    وبقيت أرنو للسماء مجدِّداً قسمي وإيماني ووعدي

    كان منصور شاعراً مرهف الحس، جيِّد السبك، رقيق العبارة، مشرق الديباجة، يتدفَّق شعره بالوطنيَّة وعشق الحريَّة. فقد قال في الحنين شعراً يفيض رقة وعذوبة، يداوي به جرحاً ويلائم به قرحاً. إذا يبدو أنَّ شاعرنا منصور كان يجتر شعره من قلبه حنيناً، وينتزعه من أحشائه انتزاعاً، ليثير الشجون، ويبدي المكنون، ويرسل الشؤون، ثم كان لشعره حلاوة، وفي إلقائه جذوة. وفي القصيدة أعلاه يصف الذين هرولوا إلى الخرطوم، بعد صدور العفو العام عن المعارضين السياسيين في الخارج في السبعينيَّات أيام حكم الرئيس جعفر محمد نميري (1969-1985م)، كمن باعوا أرواحهم وباتوا يعيشون بضمائر مرتاحة على ريعها. أما هو فقد ظلَّ في منفاه مهما حرَّقه الشوق، وأمضَّه التشوُّق.
    مهما يكن من أمر منصور، فللشاعر محمد المهدي مجذوب قصيدة فيها يصف مدينة الخرطوم في حضرة الشاعر المصري الأديب عباس محمود العقاد حين لجأ الأخير إلى الخرطوم خوفاً من الجيوش النَّازيَّة المرابطة في صحراء العلمين في غرب مصر إبَّان الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م)، وظنَّ أنَّهم لا محالة زاحفون نحو مصر، وكان العقاد يعنف بهم، ويجاهر بمعارضته لهم. وما أن وطأت قدماه أرض السُّودان، حتى أخذ الشعراء والأدباء السُّودانيُّون يملأون وقتهم بالحديث عنه أو السعي إليه. وفي هذه القصيدة يشير فيها المجذوب إلى أنَّ الخرطوم أمست أرضها غريبة، حيث غلبة الأجانب فيها حين قال: "غريبة هي في ولائد يعرب."
    والذين صدحوا بالنيل وبمائه النمير مثل عبد القادر أفندي إبراهيم في قصيدته الكافيَّة "أنت يا نيل"، أو التجاني يوسف بشير في كافيته أيضاً "في محراب النيل"، التي كان يتغنى بها الفنان الراحل عثمان حسين، هم كثر في تعدادهم بما فيهم عثمان حسين الذي كان شادياً من الشداة الذي رقصت له القلوب، واهتاجت له المشاعر عند الشباب والشيب معاً، ومن البنين والبنات على حدٍ سواء. فكل هؤلاء الشعراء وققوا على شواطئ النيل في الخرطوم لتجود قرائحهم الشعريَّة بهذه الأشعار لاستشراف النيل والاستبشار به. بيد أنَّهم لم يألوا جهداً في النظر إلى الجانب الآخر من المرآة، وكان أصدق مما قرأناه هو ما أنشده عبد القادر أفندي إبراهيم حين قال:
    سوف نبدو بغير مائك أحراراً ونجلي ديارنا أطـــــرافك
    فالعذاب الذي أحاط علـــــــينا فهو في أصل سرِّه تدفاقك

    ففي حقيقة الأمر لم يكن هناك ماء أو جبل بات حائلاً بين السُّودان والدول المجاورة. غير أنَّ النيل – الشريان القديم لأغلب نصف سكان إفريقيا – كان قناة للدَّمار والموت. فلا مُراء في أنَّ كل الخطوب الجسام وعوادي الاستعمار التي حلَّت بالسُّودان قد جاءت عن طريق النيل من مصر. فهناك حملة عبد الله بن سرح على مملكة النُّوبة وما أعقبها من اتفاقيَّة البقط العام 652م، والغزو التركي-المصري العام 1821م، والاستعمار البريطاني-المصري العام 1898م، ورعاية الحزب الاتحادي الديمقراطي كحليف إستراتيجي للحزب الوطني في مصر وانسياب حركة الإخوان المسلمين من مصر إلى السُّودان لتتحوَّر إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم الآن في السُّودان. وما قول الشاعر إبراهيم ذاك إلا لما وقر في نفسه مما شاهده من الحملات التي أُجهِزت على السُّودان من الشمال عن طريق نهر النيل.
    لكن أصحيح أنَّ كل موارد المياه غير مناهل النيل أسنة، أم "والشعراء يتبعهم الغاوون؛ ألم تر أنَّهم في كل واد يهيمون" (الشعراء: 26/224-225)؟ وهل صحيح أنَّه مهما ظنَّ المرء أنَّه فارق شواطئه لم يكن في الحق قد نأى عنها، بل كان ثاوياً فيها إذ يبدو أنَّ البعد عن شواطئ النيل فقط يعني بعد الأماني، وذلك كما أنشد الشاعر المصري أحمد شوقي:
    كل المناهل بعد النيل أســـــــنةٌ ما أبعد النيل إلا عن أمانينا
    لم تنأ عنه وإن فارقت شواطئه وقد نأينا وإن كنا مقيمــــينا


    الخرطوم في ظلال الحكومات الوطنيَّة

    وكما قلنا آنفاً ظلَّت الخرطوم مسمَّى للناس، فنحن نعرف حسين خرطوم دارفور المحامي، ومحمد خرطوم الذي وافته المنيَّة قبل عدة أعوام في حادث مروري مروع، وهناك العم خرطوم من قبيل مجاور لنا، وقد عرفنا الرَّجل وكنا صغاراً، وكان الرَّجل إيَّاه مشاءاً لم نر له مثيلاً في ذلك الرَّدح من الزَّمان. بالطبع والطبيعة لم يكن خرطوم، ذلك الرَّجل الذي عرفانه ونحن أيفاع، عدَّاءاً كالجندي الإغريقي (اليوناني) فيديبيديس. وقد يتساءل سائل من هو فيديبيديس هذا؟ وها نحن إذ نقول كما تقول الأسطورة الإغريقيَّة إنَّه بينما كانت الجيوش الأثينيَّة (الإغريقيَّة) والفارسيَّة تقاتلان خارج مدينة ماراثون قبل حوالي 2.500 عام ابتعث الأغاريق رسولاً ليقطع مسافة 150 ميلاً في رحلة دائريَّة إلى سبارتا طالباً المساعدة. وما أن عاد بعد رحلته هذه حتى أُرسِل إلى العاصمة الإغريقيَّة لإعلان نبأ النصر الأثيني (الأثينوي) على الفرس، حيث انطلق جارياً وقطع مسافة 25 ميلاً إلى أثينا، التي وصلها وصرخ قائلاً: "انتصرنا"، وذلك قبل أن يسقط على الأرض ويموت بفعل الإرهاق. هكذا جاء ميلاد سباق الماراثون.(16) أيَّاً كان من أمر فيديبيديس، فدعنا نعود إلى الخرطوم. إذ لم تكن مدينة الخرطوم جميلة كما كانت في عصر الإنكليز، وقد وصفها أبو بكر يوسف إبراهيم ب"مدينة المليون حفرة"، وذلك بما تتميَّز به شوارعها اليوم من حفر لعدم الصيانة. فواأسفاً عليها – ويا للأسى – كيف خيَّم فوقها البؤس، وانجرفت المدينة بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الإهمال والاستهبال إلى اضمحلال حاد، مصحوبة بتخطيط هزيل، وغشاها الفقر والفقراء في ضواحيها دون أن يحفل بهم أو يكترث لهم أحد، وسكنها البؤساء في أطرافها، وحين تلم بهم المسغبة يمسي أطفالهم يتضاغون (أي يتصايحون ويبكون) دون أن يجدوا ما يرضخ لهم ما كان من طعامه، وانتشر فيها الفساد والإفساد، وباتت الفيضانات تدمِّر المنازل والمحلات التجاريَّة والممتلكات في كل موسم مطير. بيد أنَّ آثار التخطيط الأصلي المتمثِّلة في التخطيط القطري ما تزال باقية في شارعي سنكات والنجومي.
    وفي مستهل العام 1956م نال السُّودان استقلاله السياسي، وظلَّت الخرطوم (التي تعني العبارة المدن الثلاث) عاصمة البلاد: إذ أمست الخرطوم مركز السلطة الإداريَّة، وأم درمان العاصمة الوطنيَّة، والخرطوم بحري مركز الخدمات والصناعة.(17) ولا ندري لِمَ سُمِّيت الخرطوم بحري بهذا الاسم، برغم من أنَّها جاءت في المصادر والخرائط الإنكليزيَّة باسم "الخرطوم شمال" (Khartoum North). وهذه المدن الثلاث التي تمثل الأثافي في جغرافية السُّودان قديماً وحديثاً، هي التي صنعت الأحداث السياسيَّة لهذا البلد. فالاستعمار لا يكاد يستقر مقاماً دون الاستيلاء على هذه المدن ورفع راية السيطرة والإحكام على المجتمع. والمنتفضون على الحكومة لا يكتب لهم النَّصر المؤزَّر من غير القضاء على السلطة فيها، ثم إنَّ الانقلابيين لا يأمنون على انقلابهم على السلطة القائمة، ولا تطمئن قلوبهم كل الاطمئنان حتى يضمنوا سيطرتهم وبسط نفوذهم على القواعد العسكريَّة، وتحييد القوى السياسيَّة والنقابات المهنيَّة في تلكم المدن الثلاث. ولذلك يشير بعض المؤرِّخين السياسيين إلى السُّودان باسم "جمهوريَّة المدن الثلاث"! فعلى سبيل المثال دخلها جيش المهدي الثائر في كانون الثاني (يناير) 1885م لتأكيد سيطرته على السُّودان مذَّاك الحين من الزَّمان. وانتفض السُّودانيُّون العام 1964م في ثورة شعبيَّة عارمة ضد دكتاتوريَّة العسكر، وأقبل جمعهم على القصر يتصايحون "إلى القصر حتى النَّصر"، وذلك في شهر تشرين الأول (أكتوبر)، كما أنشد ناشدهم:
    أكتوبرالمطوي في سجادة مصبوغة بالدَّم
    والخرطوم كانت تنسج الباقــــــــــــــــات
    والرَّايات للشهداء والثـــــــــــــــــــــــوَّار

    هكذا أنشد الشاعر الراحل محمد الفيتوري في قصيدة "العودة من المنفى" إلى روح المناضل السُّوداني الشهيد بابكر كرَّار العام 1976م، ونُشرت في ديوانه "نار في رماد الأشياء" (2001م). والفيتوري – والكلام هنا للدكتور غالب غانم – شاعر "على غرار الشعراء الثوَّار، أو الرومنطيقيين، أو الحالمين، أو حملة لواء التغيير في الأزمنة الحديثة، يبصر الواقعي من ظواهر الحياة، ويبصر المثالي منها، ويمزج بين النوعين مزجاً مشدوداً بين الأمل واليأس، دون أن يتخلَّى عن الرِّسالة التي انتدب لها."
    على أيَّة حال، فقد ترك الإنكليز – من بين ما تركوا – قطار الترام، الذي كان يربط بين مدينتي الخرطوم وأم درمان في توأمة حيويَّة، حتى جاء قادة الاستقلال وكان شعارهم المرفوع حينئذٍ مع العلم ذي ثلاثة ألوان "التحرير قبل التعمير"، ومن ثمَّ أوقفوا الترام، واقتلعوا سسككه الحديديَّة. فلو أنَّ أهل الاستقلال وعوا وتركوا الترام في حاله، بل طوَّروه، لكان قد حلَّ لهم ضائقة النقل والمواصلات في العاصمة المثلَّثة، التي امتدَّت وشملت الأحياء التي انتشرت حول المدن الثلاث. وفي هذا المنحى ننعي على السُّودانيين ضعف خيالهم ورخاوة تصوُّراتهم. والترام – كما وصفه الكاتب المصري الكبير محمد حسين هيكل – كان "بخاريَّاً تجرَّه آلة ذات عجيج وضجيج من ورائها عربات تكاد تبلغ الثماني أو العشر، وأكثرها قذر تقوم فيه مدرجات يجلس عليها ركاب الدرجة الثالثة، وبه عربتان هما عربتا الدرجة الأولى مفروشة مقاعدها بجلد أو مشمع تودُّ لو أنَّ مكانه خشباً نظيفاً!" هذا ما كتبه محمد حسين هيكل الذي زار السُّودان يومئذٍ وقضى فيه أيَّاماً وأخرج للمصريين والسُّودانيين معاً كتابه "عشرة أيَّام في السُّودان". وقد أودع في كتابه السالف الذكر "مشاهداته وانطباعاته عن السُّودان في هذه الأيَّام العشرة التي قضاها بين العاصمة."
    مهما يكن من شيء، فالخرطوم بإرثها الإفريقي تأريخاً وجغرافيَّة قد أخذ المتنكِّرون لها يتشبثون بعروبة نحن في شك من أمرها مريب. ومع ذلك شرعوا يقيمون المهرجانات باسم "الخرطوم عاصمة الثقافة العربيَّة". فأين موضع من هم غير عرب في هذه المدينة التي تحولَّت بين عشيَّة وضحاها إلى عاصمة لثقافة عربيَّة! فبرغم مما لُدِغ السُّودانيُّون في بلدان المهجر في المشرق والمغرب معاً، إلا أنَّهم لم يعوا الدَّرس ويفيقوا من سكرتهم. ولعلَّ أرباب الفطنة في الخرطوم قد سحرتهم نخوة ثقافة العرب، حتى رسفوا في أغلال التعصُّب العرقي، ومن ثمَّ أخذوا يترنَّمون في كل مكان – بما فيه الخرطوم – بالثناء على الذخائر العربيَّة. وبعدئذٍ أعلنوا الحرب العوان على غيرها من الثقافات الوطنيَّة، يحتقرونها ويزدرون بها، ويشفقون منها، وإنَّا لنأسف لذلك مُرَّ الأسف. أفلم يعلمون أنَّ هذه هي القضيَّة المحوريَّة التي يقتتل عليها الناس اقتتالاً، وينحر يعضهم بعضاً في سبيلها! وعندما حاول الدكتور حيدر إبراهيم علي – رئيس مركز الدِّراسات السُّودانيَّة – تصويب هذه النزعة السُرياليَّة بإقامة مهرجان باسم "الخرطوم عاصمة الثقافة الوطنيَّة" طفق مستعربو السُّودان يعترضون ويكيدون . فيا تُرى ما الذي يضير أن تكون هذه العاصمة وعاءاً جامعاً لكل ثقافات أقوام السُّودان المتعدِّدة دون استبعاد أو استغراب لأحد في وطنه؟
    ففي حديث تجاذبنا أطرافه مع أحد أبناء الصومال في بريطانيا طفقنا نسأل الصومالي فيم يكمن المشكل الصومالي؟ إذ أخبرني محدثي دون مواربة بأنَّ المشكل الصومالي منبعه أو مصدره يعود إلى انضمام الصومال إلى جامعة الدول العربيَّة، ومن ثمَّ ابتداء تدفُّق الريالات البتروليَّة إلى القبائل في الصومال لشراء ولاءاتها، واغترار وافتتان بعضها بعضاً، حتى اشتدَّت الخلافات القبليَّة-الاجتماعيَّة، وأمست نزاعات سياسيَّة، ثمَّ ما لبثت هذه الصِّراعات أن أصبحت إسلامويَّة صارخة، واستفحلت القضيَّة لتأخذ طابعاً إقليميَّاً ودوليَّاً.
    أيَّاً كان أصل المشكل الصومالي، فحينما هاجر الإنكليز والطليان والألمان والأيرلنديُّون وغيرهم من الشعوب الأوربيَّة إلى أميريكا الشماليَّة واللاتينيَّة واستوطنوا فيها، واختلطوا فيما بينهم أولاً، ثمَّ امتزجت دماؤهم مع السكان الأصلاء ثانياً، تبنوا لأنفسهم وأهليهم هُويَّة جديدة، وشرعوا يرمزون لأنفسهم بالكنديين والأميريكيين والأرجنتينيين والبرازيليين وهلمجرَّاً. وفي لحظة ما حتى في الحقب ما بعد حرب الاستقلال الأميريكيَّة العام 1776م – في حقيقة الأمر التمرُّد ضد الأمبراطوريَّة البريطانيَّة – طفق الأميريكيُّون، الذين يتحدَّر جلهم من البريطانيين، ينعتون أسلافهم البريطانيين بأنَّهم شعب ذي دم بارد، يتحسَّب أيَّة خطوة يخطوها باحتراس، ولكن بإخفاق مستمر في الإقرار بهذا الفشل وتغطيته بأكاليل من الزهور. وقد اعترف البريطانيُّون بأنَّ الأميريكان يتَّوقون إلى أدلَّة ملموسة عن خلفيَّتهم الأوربيَّة. وقد جاء كل ذلك بعد أن أخفق البريطانيُّون في ارتشاء الأميريكان لمساعدتهم في منتصف الحرب العالميَّة الثانية العام 1941م حينما اشتدت عليهم الضربات النازيَّة، وانهالت على مدنهم قنابل الألمان بشيء من الكثافة شديد. حينها فكَّر البريطانيَّون وقدَّروا مليَّاً، واهتدوا إلى أن يهدوا النسخة الأصليَّة للعهد العظيم (Magna Carter)، الذي كُتِب العام 1215م، والذي كان يعتبره الأميريكان الممهِّد لدستورهم الذي لا يقبل التبديل، إلى الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة. فهذه النسخة كانت قد أعارتها كاتدرائيَّة لينكولن للعرض في معرض نيويورك العالمي العام 1939م، وتقطَّعت بها السبل في الولايات المتَّحدة بعد نشوب الحرب العالميَّة الثانية في ذلك العام. وفي أذار (مارس) 1941م وقع الكونغرس الأميريكي على قانون (Lend-Lease Act)، الذي بموجبه أرسلت الولايات المتَّحدة كميات ضخمة من مواد الإغاثة عبر الأطلسي إلى دول أوربا. ومن ثمَّ فكَّرت الحكومة البريطانيَّة في استمالة عواطف الأميريكان إلى جانب حليفهم، الذي بات يترنَّح، عن طريق ارتشائهم بهذه الهديَّة التأريخيَّة. بيد أنَّ كاتدرائيَّة لينكولن رفضت أن تسمح لهذه الخطوة أن تمر، وعادت الوثيقة إلى مقرها في بريطانيا في نهاية الأمر.
    هذا ما كان – وما يكون – من أمر الشعوب الأوربيَّة التي وطأت أقدامهم هاتين القارتين وأسمتهما العالم الجديد، وما هو بجديد في شيء. فالأراضي الأميريكيَّة لم تكن بجديدة على الأفارقة في شمال إفريقيا أو غربها على الإطلاق. لقد أثبتت بحوث المحدثين الثقاة بأنَّ الأفارقة في غرب القارة كانوا ينشطون في التبادل التجاري مع سكان القارتين الأميريكيَّتين. وإنَّ التشابه الهندسي-المعماري بين الإهرامات في مصر الفرعونيَّة وحضارة الأزتيك في أميريكا اللاتينيَّة ليدل على أنَّ ثمة علاقة تواصل ما كانت سائدة بين هذه الأقوام. إذ كان يتم نقل الكوكايين عبر المحيط الأطلسي لمدة الآلاف من السنوات. ففي العام 1992م أثبتت التجارب المعمليَّة التي أُجرِيت على عدة مومياء مصريَّة عمرها 3.000 سنة وجود آثار الكوكايين والنيكوتين، وكلاهما يتواجدان في جبال الإنديز. إذ دلَّت نتائج هذا البحث على أنَّ تجارة المخدرات عبر الأطلنطي هي مهنة عمرها آلاف السنوات، وإنَّ المصريين أو الأفارقة الآخرين قد عبروا المحيط الأطلسي قبل 2.500 سنة من عبور الرحالة كريستوفر كولمبوس العام 1492م.


    خلاصة

    ومن بعد هذا، فإنَّا نعتقد بأنَّنا بلغنا ما نريد من لفت الأنظار عن قصة صناعة مدينة الخرطوم كعاصمة لبلاد السُّودان. وحسبنا هنا أن نذكر بأنَّنا قدَّمنا سيرة مختصرة عن مدينة نشأت من ضيعة صغيرة كانت عبارة عن بضعة أكواخ لصيَّادي الأسماك وجني الأثمار قبل أن يلتفت إليها المستعمرون الأتراك-المصريُّون، فإذا هم يهتمُّوا بها في بادئ الأمر، ثمَّ يجعلوها عاصمة لدولة السُّودان في نهاية الأمر. وبعدئذٍ تهدَّمت الخرطوم بأوامر من الخليفة عبد الله بعدما أسكن فيها أبناء المهدي المعارضون أنفسهم، وأخذوا يثيرون المتاعب للخليفة. فأصبحت المدينة مهجورة وقصر الحاكم العام مشلوعاً بعد مقتل غوردون، إلا البستاني الذي ظلَّ حفيَّاً بمخدِّمه المقتول، يعتني بالأشجار والأزهار، ويجني الأثمار من حديقة فناء القصر، ويعيش الحياة كما فهمها بخيرها وشرِّها، وسعودها ونحوسها، وذلك لمدة 13 عاماً حسوماً، حتى عاد الاستعمار، وتمَّت إعادته إلى الخدمة التي طالما بقي مخلصاً لها. وفي الفترة الانتقاليَّة التي أعقبت استيلاء البريطانيين والمصريين على السُّودان وجد بعض الأرقاء فرصة ذهبيَّة لعتق رقابهم وتصفية الحسابات مع أسيادهم السابقين؛ فمنهم من قتل سيِّده شر قتلة؛ ومنهم من اكتفى بإسكاب السباب عليه وينصرف حراً طليقاً؛ ثمَّ منهم من أخذ سقط متاعه وشقيقته المسترقة وأطلق رصاصة قاتلة على سيِّده الذي هرول نحوه لاستجلاء أمر ما كان وما يكون. إذ كان هؤلاء العبدان يعيشون حياة مرعبة مزعجة، مملوءة بالمتاعب والمهازل، لا يعطف عليهم عاطف، ولا يبكي عليهم باك. وها هو ذا اليوم الذي فيه شرعوا ينتقمون.
    فإذا بسنوات تمر، وتتعاقب عوادي الدهر، وطوارق الحدثان، وتتعاظم خطوب البشر، وتتوالى عواقب القدر لتؤول إلى ما آلت إليه الأمور في الخرطوم، حيث أمست العاصمة المسماة قوميَّة طاردة لأهلها الأصلاء أيام الاستعمار الثنائي (البريطاني-المصري) تحت ستار إخلاء العاصمة من المشرَّدين تارة، وفي ظل الحكومات الوطنيَّة باسم "الكشة" تارة أخرى. ومن ثمَّ أخذت الخرطوم تتنكر لأصولها الإفريقيَّة بعد أن نفخ فيها الساسة المستعربون من روحهم، وأمست هُويَّتها قضيَّة نزاع مريب بعد أن كانت موطناً للعنج سكان المنطقة القدماء. ثمَّ استولى على الحكم في الخرطوم ساسة كان معظم الناس يجهلون في مبدأ أمرهم وأخلاقهم وطبائع نفوسهم، واعتقدوا أنَّ ظواهرهم مرآة قراءتهم للقرآن، وأنَّ الله قد منحهم من الفضائل النفسيَّة بمقدار ما منحهم من تجويد تلاوة المصحف الشريف وفن الكلام، حتى تكشَّف لهم أمرهم، فرأوا – فيما رأوا – أنَّهم يعيشون بين قوم ممثلين، لا علاقة بين قلوبهم وألسنتهم، ولا صلة بين خواطر نفوسهم ومخرجات أحاديثهم! فهم يكذبون ليلهم ونهارهم في جميع أقوالهم وأفعالهم، لا يرون في ذلك بأساً، كأنَّ الكذب هو الأساس الأول لحياتهم الاجتماعيَّة والسياسيَّة معاً، وكأنَّ الصدق عرض من أعراضها الطارئة عليها، وكأنَّ نظاماً خاصاً بهم يختلف عن نظام البشر جميعاً في كل مكان وزمان.
    على أيَّة حال، كانت نظرتنا إلى الخرطوم من الناحية التأريخيَّة، ولم نسع أن نخوض في اجتماعيَّة المدينة وطبوغرافيتها. فإذا ما أفاتنا شيء فهذا ما نلنا من احتراثنا، ولئن لم نبلغ ما أردنا وابتغينا وسعينا إليه من توفية هذا البحث حقه في هذه النواحي، فلكل شيء إذا ما تمَّ نقصان.



    المصادر والإحالات

    (1) الدكتور عبد الله علي إبراهيم، صفوة البجا: إبداع من فضاء الاستضعاف، صحيفة "الصحافة"، السبت، 22/5/2004م، العدد 3944.
    (2) أنظر الدكتور عمر مصطفى شركيان، بطولات وملامح من الأدب الإفريقي، مطابع (أم بي جي العالميَّة)، الطبعة الأولى، لندن، 2014م.
    (3) عبد الرشيد الصَّادق محمودي، من الشاطي الآخر: طه حسين في جديده الذي لم يُنشر سابقاً (كتابات طه حسين الفرنسيَّة: جمعها وترجمها وعلَّق عليها عبد الرشيد الصَّادق محمودي)، أدفرا باريس – شركة المطبوعات للتوزيع والنَّشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م، صفحتي 132-133.
    (4) Stobart, J C. The Grandeur that was Rome. London: Book Club Associate, 1971. Pp. 190-191.
    (5) القبايل هي تسمية عربيَّة، جمع قبيلة، وتُنطق وتُكتب بالهمزة كذلك (القبائل)، وهذا عربي مبين ويسمَّى هذا النمط التسهيل؛ مثل نطق عزرائيل عزراييل وجبرائيل جبراييل، وميخائيل ميخاييل.
    (6) البروفيسور الدكتور محمد حسن العيدروس، المغرب العربي في العصر الإسلامي، دار العيداروس للكتاب الحديث، دار الكتاب الحديث، القاهرة، 2008م.
    (7) الدكتور شوقي الجمل، تأريخ سودان وادي النِّيل.. حضارته وعلاقاته بمصر من أقدم العصور للوقت الحاضر، الجزء الأول، مكتبة الأنجلو-المصريَّة، القاهرة، 1969م، الصفحات: 182-184.
    (8) الدكتور شوقي الجمل، تأريخ سودان وادي النِّيل.. حضارته وعلاقاته بمصر من أقدم العصور للوقت الحاضر، الجزء الأول، مكتبة الأنجلو-المصريَّة، القاهرة، 1969م، الصفحات: 182-184.
    (9) صحيفة "البلاد"، الخميس، 9/7/1998م، العدد 15344.
    (10) الخطط المقريزيَّة، ج2، ص 204 في تأليف جيهان ممدوح مأمون، الدولة الفاطميَّة في مصر (969-1171م)، تقديم الدكتور قاسم عبده قاسم، نهضة مصر للطباعة والنَّشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة، 1 شباط (فبراير) 2009م.
    (11) Lewis, D L. The Race to Fashoda: European Colonialism and African Resistance in the Scramble for Africa. London: Bloomsbury Publishing Limited, 1988. P. 139.
    (12) Duncan, J S R. The Sudan’s Path to Independence. London: William Blackwood and Sons Ltd, 1957.
    (13) محمد عبد الرحيم، نفثات اليراع في الأدب والتأريخ والاجتماع، الجزء الأول، شركة الطبع والنشر بالخرطوم، الخرطوم، 1931م، الصفحات: 23-25. لا ريب في أنَّ أبناء المهدي كانوا قد فشلوا حتى في استمالة أهالي قبيلهم الدناقلة إلى قضيَّتهم التي كانت تنحو نحو المصالح الشخصيَّة، حيث قاد الخليفة شريف كتيبة مؤلَّفة من 2.000 من الدناقلة تحت الراية الحمراء في معركة كرري.
    (14) Lewis, D L. The Race to Fashoda: European Colonialism and African Resistance in the Scramble for Africa. London: Bloomsbury Publishing Limited, 1988.
    (15) Ziegler, P. Omdurman. Barnsley: Pen and Sword Military Classics, 2003.
    (16) Metro, Wednesday, October 27, 2010.
    (17) Daily Mail, Thursday, August 22, 2013.






    أحدث المقالات
  • الموتى يتكلمون ... بقلم ياسرقطيه ... الأبيض 07-18-15, 05:58 AM, ياسر قطيه
  • النظام الخالف: مراجعات الأخوان المسلمين ،بالسودان بقلم بدوي تاجو 07-18-15, 05:52 AM, بدوي تاجو
  • دعوة للحذر مفخخات علي الارض واخري في فضاء شبكة الانترنت الدولية بقلم محمد فضل علي..كندا 07-18-15, 05:50 AM, محمد فضل علي
  • المفاوض الايراني يحاصر نظيره الفلسطيني بقلم نقولا ناصر 07-18-15, 05:48 AM, نقولا ناصر
  • في نعي د. الفاتح عمر مهدي: دمعة نقد اللؤلؤة بقلم عبد الله علي إبراهيم 07-18-15, 04:28 AM, عبدالله علي إبراهيم
  • يا دكتور حسن الترابى ـ نطرح الكتلة التاريخية لتكون النظام الخالف للإنقاذ والبديل لوحدة المؤتمرين 07-18-15, 04:15 AM, صلاح جلال
  • ولاية غرب دارفور ومتلازمة الفشل الاداري! بقلم عبد العزيز التوم ابراهيم 07-18-15, 04:09 AM, عبد العزيز التوم ابراهيم
  • رحـــلة وعي..! بقلم محمد ادم جاكات 07-18-15, 04:06 AM, مقالات سودانيزاونلاين
  • أكوت دوت بقلم ياسر عرمان 07-18-15, 04:00 AM, ياسر عرمان
  • الإنقاذ عليها الرحمه بقلم عاطف ابوعوف.....الخرطوم 07-18-15, 03:56 AM, مقالات سودانيزاونلاين
  • ليلة القدر ربما الليلة وفقا فلا تنام لتجد ثواب أكثر من الف شهر في اقل من بقلم حيدر محمد احمد النور 07-18-15, 03:53 AM, حيدر محمد احمد النور
  • ما يعانيه المواطن و بعيدا عن هم اي مسئول بقلم عمر عثمان-Omer Gibreal 07-18-15, 03:48 AM, عمر عثمان-Omer Gibreal
  • مسمار جديد يُدق في نعش الأسرة التقليدية ،، إنجاب أطفال لزوجين من الجنس عينه "خلاص باظت" ..!!؟؟ - 07-18-15, 03:46 AM, عثمان الوجيه
  • مصعب المشرف و بلة الغائب و الترابي و العميد البشير بقلم جبريل حسن احمد 07-18-15, 02:38 AM, جبريل حسن احمد
  • قسمة ضيزى!! بقلم نور الدين محمد عثمان نور الدين 07-18-15, 02:35 AM, نور الدين محمد عثمان نور الدين
  • القدس تناديكم بقلم المحامي عمر زين 07-18-15, 02:32 AM, مقالات سودانيزاونلاين
  • من الرابح في اتفاق ايران والسداسيه ؟؟ بقلم صافي الياسري 07-18-15, 02:29 AM, صافي الياسري
  • «المطبخ» بقلم معتصم حمادة 07-18-15, 02:28 AM, معتصم حمادة
  • القِرْدُ لمَدِّ اليَدِ يُجِيدُ بقلم مصطفى منيغ 07-18-15, 02:25 AM, مصطفى منيغ
  • رأس المال العالمى: وضع اليونان تحت الوصاية ! بقلم محمود محمد ياسين 07-18-15, 02:23 AM, محمود محمد ياسين
  • التغلّب على الحاجز النفسي- الإجتماعي بين الإسرائيليين والفلسطينيين بقلم مصطفى منيغ 07-18-15, 02:21 AM, ألون بن مئير
  • الحمار يفهم أنه حمار بقلم مصطفى منيغ 07-18-15, 02:18 AM, مصطفى منيغ
  • الدين/الماركسية من أجل منظور جديد للعلاقة نحو أفق بلا إرهاب الجزء الأول بقلم محمد الحنفي 07-18-15, 02:15 AM, محمد الحنفي
  • أمريكا وإيران يتفقان بقلم فادي أبوبكر 07-18-15, 02:12 AM, فادي أبوبكر
  • إسرائيل يرق قلبها على غزة وأهلها بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي 07-18-15, 02:09 AM, مصطفى يوسف اللداوي























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de