الخالة "زينب"*/محمد رفعت الدومي

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-14-2024, 06:43 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-15-2014, 03:16 PM

محمد رفعت الدومي
<aمحمد رفعت الدومي
تاريخ التسجيل: 12-09-2013
مجموع المشاركات: 112

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الخالة "زينب"*/محمد رفعت الدومي

    استأنف أبي أوتادَه الأخيرة كاملة قبل انحسار النور عن رماد اليوم الرابع ، بل استأنف كمال روحه المتهكمة وظلال أدواته في إبداع لسع الآخرين بالسخرية تحت درع ثقيل من النوايا الطيبة ،،

    كان خلقاً ، خلقاً حقيقياً ، كنت شاهداً عليه ..

    من يري الخالة "زينب" للمرة الأولي ، سوف يجدها تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن الغجر ،
    ومن يسمع صوتها في أيِّ وقت سوف يجده تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن موسيقي الغجر ، لكن من يسترخي فوق الطبقات المتراكمة في أعماقها المحتجزة ، سوف يجد تعريفاً للنبع الشهير من المشاعر الصحية بشكل متحيز أيضاً ..

    قامتها ، تحمل بالتأكيد الزائد عن الحد ، سفر أحزان جدَّاتها الممتد من رقم الطبيعة الصعب ، ذلك الصفر المختلف عليه ، مع ذلك فهو رقمٌ لا يمكن تجاوزه وفقاً لأيِّ قناعة ، وكلِّ قناعة ،،

    سلالةٌ لا تواجه إلغائها ..

    ملامح وجهها الذكورية مرآة متطرفة لهواجس الخصيان البعيدة ، كأنها حدثت سهواً ..

    هي أيضاً ..

    كانت احتكاكاتها الأولي بنا تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكارها السابقة عن البدو ، وأساليب البدو في المعيشة ، وهي كانت بحماية سحن وأزياء الكثيرين من الزائرين معذورة ، فلقد كانت سحن الكثيرين الارتجالية صالحة فقط لتكون حكراً علي أسماء بعينها مثل ، حجر ، جحرز ، مضرط الحجارة ، تأبط شراً ، السموءل ، لمعي ..

    لم تكن تدرك لبساطتها ، ربما ، وربما لتناقضاتها الداخلية الحادة ، أو لألفة الإطار ، وهذا هو الأكثر إقناعاً ، ذلك الفارق الرحب ، بين مريض ثانويٍّ يجد التعبير عن تماثله للشفاء في القليل من الإبر والأقراص والأقماع والأشربة ، ثم يعود ، بعد يوم أو يومين ، إلي موقده العائليِّ ليواصل بقائه ، وبين مريض خاص لمرض خاص ، يلتحق وجه القبر المكعب بأفكاره السوداء صباح مساء ، وإن تظاهر بالاستهانة !!

    لذلك ، كانت تعاليمها الزائدة عن الحدِّ ، عن ضرورة المحافظة علي نظافة الغرفة والحمام والملاءات ، بل حراسة نظافتها ، وضرورة دعوتها قبل امتلاء المثانة البلاستيكية لتفريغها ، أكثر من كافيةٍ لجعل انخراطنا في الضجر يعمل ..

    هذا قبل أن يستأنف أبي أوتاده ، واستأنف أوتاده ، فتوقفت تماماً عن العطاء ، وبدأت بالأخذ ..

    تداخل أبي مع أولي سوناتات وصاياها الجارحة لمساء اليوم الرابع ، وتساءل في هدوء ، وغيمة علي جسده :

    - إنتي من الصلعا ؟!

    لملمت أنا ، ولملم "حازم" ، أكياس ضحكاتنا العصبية ، ولذنا بالفرار من المربع الآمن ، نتعثر في خجلنا ، يلاحقنا صوت الفريسة السهلة ، تفسر له باكتراث زائد عن الحد موضع الضاحية التي سقط رأسها في حفرةٍ من حفرها ،،

    كانت الخالة لا تدرك المسار الصحيح لسؤاله ..

    لقد زهد في جوارنا ، وغابة من الذكريات تشكل لنا تاريخاً مشتركاً ، واستوطنوا الصلعا ، علي مشارف سوهاج الجنوبية ، إخوانٌ لنا من "الحلب" ، بعد أن أنفقوا علي هامش الأجنحة العائلية المتصارعة ، وقلبي ، غابة من الأعوام المجيدة ، كانوا خلالها جزءاً أساسياً من معادلة "الدومة" الأهلية ، لا يواجه مناهضته العداء ما دام الحياد باقياً ، يخفت الحياد أحياناً ، فيناصرون موقداً في صراعه مع موقد ، فيصبحون ، بالنسبة لهامشيتهم علي الأقل ، بؤرة الانتقام ، وكان مجرد التلويح بنذر المعركة يكفي أحياناً لجعل انخراطهم في جوارنا يتوقف ..

    قومية انفصالية ككلِّ قومية انفصالية ، لا يعيشون أبداً علي الحافة كحافة الغجر الشهيرة ، ولكنهم أيضاً ، يرتبون علي الدوام لقوميتهم العيش في الجيتو ، لا لحماية قناعةٍ ما من المدِّ والجزر شأن اليهود ، بل خرزة من العقد استراحوا لها لا أكثر ، هذا جعلهم تدريجياً ، وبشكل منظم ، وفي ما يشبه العرف الدارج ، يكتسبون تعابير الجيتو الخاصة ، لذلك سلَّط الآخرون عليهم تعقيباً علي تعابير الجيتو التي لا تقيم وزناً للكثير من التابوهات الجنوبية الشهيرة ، نظرةً عنصرية ، لا تسلم من الشوفينية ، حيث توقف الوقت وتجاوز الأساليب ، وفي ما بدا أنه اندفاعٌ خلف الاحتجاج ، أو النكاية ، واظبوا من جانبهم علي مواصلة حراسة جذور الإخلاص لعاداتهم الموروثة جيلاً فجيلاً ..

    ربما ، لأن الإسراف في الالتفاف حول عادة واحدة يكفي لجعل انخراطنا في الدهشة حيالها ينهار ، لهذا ليس من محرضات الدهشة علي الإطلاق التفاف "الحلب" حول عدم الانتماء لأرض أياً كان ثباتها ، وهذا خنجر معلق في ذاكرة مجتمعهم العامة ، حتي يمكن التأكيد الزائد عن الحد علي أنهم جذور تعيش بغير أرض !!

    لكن من يراقب نموَّ هجراتهم ليس من الصعب أن يلمس في الظل كونهم يحتفظون علي الدوام في جيوب هجراتهم بغابة من خطوط الرجعة ، وهذا يدفعني إلي الإشتباه في موجة بعيدة تسلم جذورهم إلي "لبنان" ، فما أشبه "الحلب" باللبنانيين ، حيث يتوفر الاستعداد الوافر للترحال تحت أيِّ قافية ، وكلِّ قافية ، بل الترحال لمجرد الترحال أحياناً!!

    لكن القلائل .. يتهمون موجة بعيدة ، حملت فوق ماءها الآثم جذورهم القلقة من مدينة "حلب" السورية مباشرة إلي هامش الجنوب ، وذكري بعيدة ، ونشاطهم المركز في تجارة الأقمشة ، والفنان "صباح فخري" ، تدفعني إلي الإنحياز بشكل مؤقت إلي هذا التقدير الارتجاليِّ ، لكن الممتلئ ، وانتشار الحنين إلي سوريا في لهجاتهم أيضاً !!

    وحتي كتابة هذه السطور ، لا يزال العم "عبد الحميد" ، أشهر بائعي القماش الجائلين في الدومة ، يُزيِّن بضاعته ، ويعلن في الوقت نفسه وفادته ، بالنداء الحيِّ المنغم :

    - حريـ يــ يـر سوريا ، بضايـ يـ يـع سوريا !!

    ليس الموضوع في إطاره بالتأكيد ، وليست صناعة الأقمشة الحريرية محتجزة في سوريا ، لابدَّ أن هذا النداء المسنَّ تعبيرٌ عن ذكري غامضة ، ومتوارثة ..

    ومن تعابير الجيتو الحلبيِّ ، في رأيي الخاص طبعاً ، زواج العم "عبد الحميد" من امرأتين ، تتقاسمان منذ طفولتي رجولته ، وحتي كتابة هذا السطر ، وتتقاسمان اسماً واحداً أيضاً ، "فاطمة" ، فهل يقدم علي هكذا جنون سوي العم "عبد الحميد" ؟!!

    ومن تعابير الدومة الخاصة، أنَّ نساءها تواطئن علي تعريف زائد عن الحد للرجل ، "عبد الحميد جوز فاطنات" ، لقد جعلن من المرأتين غابة من النساء !!

    وتضخيم الأشياء يكاد يكون تقليداً دومياً شهيراً ، وهذا يقودني إلي ذكري بعيدة ..

    كان العم "علي" بائعاً متجولاً للكيروسين ، أو "الغاز" في لهجاتنا ، أسترخي ذات ليلة فوق أكبر أخطائه علي الإطلاق ، فوجد حماره تعريفاً لطريق الدومة ، دون أن تكون لديه أدني فكرة عن لقبه الذي سوف يتجاوز الدومة إلي القري المجاورة وحتي مسقط رأسه ، ويلتحق باسمه بقية أيامه ، لقد نشط ، تحت ضغط مؤخرته الضخمة ، ذلك التقليد الدوميُّ في العثور علي السخرية حتي في الظلال الصلبة ، ودون مراعاة للياقة ، أو الذوق ، وراقبوا فجأة ، وبشكل جماعيٍّ ، نموَّ انتباههم إلي العلاقة اللغوية بين مؤخرته ونشاطه ، الغاز ، فضربت حواسهم عاصفة من المرح الداخليِّ ، وصاحوا جميعاً ، رجالاً ، وأطفالاً ، وشباباً ، خلف الوافد المسكين :
    - علي أبو .... ، بياع الغاز !!

    وأحصي العم "علي" فرديته وجمعهم ، فأسكت غضبه مرغماً ، ومضي بعربته صامتاً ، وازدادوا بصمته وعياً بإحساس المنتصر ، واتسعت المطاردة تدريجياً ، وتكاثر الدوميون حول حوافه ، علي مشارف الدومة توقفوا صاخبين ، وتابع الرجل هروبه المهين حتي تجاوز " كوبري حمَّاد " ، وهناك توقف ، ونظر إلي بيوت الدومة ، وانفجر صائحاً :

    - إتفووووووووووه عليك يا دومة ، يا بلد الغجر يا ولاد ال###### ، يا غوازي ، يا جعانين ، إتفوووووه !!

    كان بصاقه الذي لا يصل ، وكان صدي صوته الهستيريِّ المحتقن ، الذي يندمج مع ضحكات مطارديه العصبية ، آخر العهد بمؤخرته ..

    كانت العمتان " فاطمة " ، تركبان الحمار فوق القماش معاً ، واحدة خلف الأخري في ترتيب لا يختلّْ ، بينما يسير العم عبد الحميد أمامه برقة عذراء ، ممسكاً برقبته كأيِّ جنتلمان حقيقي ، وأن تركب المرأة حماراً ، بالنسبة للدوميين ، انحلالٌ يفتت عفتها إلي شكوك ، وهو ، بالنسبة للحلب ، قلب العفة في إطاره ، بل من أكثر تعبيرات الجيتو الحلبيِّ شيوعاً !!

    ليسوا الأسوأ ، لكن لهم أساليبهم ،،

    لهم لهجاتهم أيضاً ..

    فربما لعشوائية تنقلاتهم ، وكثرتها ، وحالة الإيمان بالجيتو كضرورة ، وخطوط الرجعة النشطة ، لا يستطيعون علي الإطلاق إخضاع ألسنتهم للهجة واحدة ، ويظلُّ علي الدوام أثر اللهجات المنسحبة حياً في سطوحها ، تختلف اللهجات أحياناً من كوخ إلي كوخ ملاصق ، بل من زاوية في الكوخ إلي زاوية أخري ، وأقسم بالعطر علي هذا ،،

    وإن كان الانطباع هو الإيمان بالإطار كنوع من الوباء العام ، فإن من السهل أن تجفَّ المسافة بين الدومة ، والبطحة ، ونجع عمران ، والحوش ، سيراً علي الأقدام ، خلال أقلّ من ساعة ، لكن هذه الدقائقَ ممرٌّ صادقٌ نحو اكتشاف العديد من اللهجات المتضاربة ، مع ذلك فإنَّ جسور الحوار بيننا ليس من الصعب تصميمها ، وفي لغة الإشارة أحياناً عوض ،،

    مجرد التلميح بالأيدي ، واهتزازات الرؤوس ، وتحريك الحواجب يكفون أحياناً لجعل ارتطامنا بصعوبة الفهم يتوقف !!

    كان العمّ الشاب " سيد أبو ريا " ملجأً أميناً لكل الأمراض الممكنة ، هذا جعل شحوب وجهه الزائد عن الحدِّ يضفي عليه مظهر الموشكين علي موت أكيد ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء الخوف علي أطفالهنَّ من إحراز عدوي أمراضه الغامضة ، تجاوزت تحذيرات الأمهات من شراء ترمسه ، بل من مجرد ملامسته ، التهديد بالضرب إلي تحققه قبلياً ، غير أن مذاقه الممتاز كان علي الدوام ذريعة لائقة لتحريضنا علي العصيان ،،

    قادت الصدفة المحضة العم "سيد أبو ريا" إلي أذان العصر ، أو رقية العصر ، وقلبي ، للمرة الأولي ، ذات عصر شديد العصافير ، فسكت عمراً ، ونطق كفراً ، ليس فقط لأنَّ صدي صوت نهجانه المكبر كان أعلي من صوته ، بل لأنه صاح :

    - اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !!

    وانفجرت في قلب المسجد ضحكاتنا ، وتفتت استغراق العم "سيد" في المناغاة أو الرقية إلي شكوك ، واهتزت كلُّ كلمة برعشة خاصة ، وطارت أكياس ضحكاتنا في هواء المسجد ، ثم لذنا بالفرار ،،

    وبرغم أنني كنت فرداً من قومية كبيرة من الصغار ، وقع الإختيار علي إخضاعي للمسئولية الكاملة منفرداً ، ونقل إلي أبي أولاد العاهرات من الدوميين الصورة كاملة ، وشوهوا الكثير من ملامحها ، سألني أبي في مساء ذلك اليوم بهدوء كأنه الصخب :

    - صليت العصر وين يا محمد ؟!

    دون تفكير ، مررت منحنياً تحت قوس براءتي ، ونبتت غيمة علي جسدي ، وانتشرتُ فجأة في الضحك :

    - عارف سيد أبريِّا ، بتاع الترمس ، عيَّدِّن كيه ؟!

    - كيه ؟

    انتصبت ، ووضعت يدي اليمني خلف أذني ، وصحت من بين ضحكاتي :
    - اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !!

    لمحت علي وجهه طيف ابتسامة ، ثم .. وفي لحظة خاطفة ، ركلني من الأمام فجأة ، فانزلقت في قلب الذعر ، والإنكار لا يفيد ، تدخلت عمتي ، ودفعته عن جسدي بخشونة ، وبدأت انطباعات الوجع تعمل ، كان عراء أعصابه ذلك المساء أكثر مما ينبغي ..

    لكلِّ هذا ، لقد فهمنا أن مسار سؤاله الصحيح ، والمعتني به تماماً ، للخالة "زينب" :

    - إنتي حلبية ؟!

    عدنا ضاحكين ، عقب انطفاء الفريسة من المربع الآمن ، نتأمل أسلحة وعتاداً ، وبادرته من بين ضحكاتي قائلاً :

    - إنتا فـ إيه ولا إيه ؟

    وضحك ، كان يختبر قامته القادمة ..

    محمد رفعت الدومي

    *من "اسهار بعد اسهار"..




    On Thursday, January 9, 2014 10:38 PM, Mohammad Refat wrote:
    دام نبضك ، فصل من كتابي الأخير "اسهار بعد اسهار" ، أطمع في نشره ، مودتي علي كل حال ، والعطر



    أخيك / محمد رفعت الدومي



    ________________________________


    مساحاتُ الغياب*

    كانت أكثر من مجرد صدي للألم ، ضحكاتُ "عصام" في ليلنا ، عقب عودته من رحلته العلاجية الأولي إلي القاهرة ، حكي لنا الكثير ، بروح ما زالت تحتفظ بلياقتها السطحية ، عن الذين يشبهونه في العجز من المرضي ، لقد كان الكثيرون منهم ، بحماية ادعاءاته هو ، يواجهون المرض باللامبالاة ، ويتزاحم الكثيرون أيضاً حول تبرعات الأنقياء غير المشروطة لـ "معهد الأورام" إلي درجة الشجار معاً ، ومعاً ومع الموظفين ، ومعاً ومع الموظفين والأطباء ، وقد يصل الشجار أحياناً إلي حدِّ التماسك بالأيدي والأسنان !!

    وتترهل الحكايا ، لا تخشي ضغط الزمن ، وكأنها بلا قيمة ..

    وكان لابدَّ ، لأنه "عصام" الذي لا أرتاب في أنه يفعلها ، أن تنزلق الحكايات في شرخ المبالغة ،،

    حكي لنا عن شريك ٍ له في الورم من "الشرقية" ، أجري له الأطباء ثلاثين عملية جراحية ، ليس هذا موطن الطرافة في ترجمته لذلك المريض المسكين ، إنما ادعاؤه بأنه يعيش بغير كليتين ، وكان لابد أن يواجه التعبير عنه سؤال من هنا أو هناك : كيف يا "عصام" يعيش إنسانٌ بغير كليتين ؟ ، وأجاب "عصام" جاداً :

    - بالبركة !!

    إنه اليقين يقوم مقام الرغبة لا أكثر ..

    طالت الحكايا الممرضات أيضاً ، حكي لنا عنهن الكثير ، هنّ ، بحماية ادعائاته أيضاً ، يعاملن مريض السرطان معاملة أيِّ ممرضة لأيِّ مريض بالأنفلونزا ، ولا أعتقد أن هذا الأمر ينطوي علي شئ من الغرابة ، فإنه من غير المعقول أن تتفاعل الممرضة مع مرض كلِّ مريض ، أو تشعر نحوه حتي بالقليل من التعاطف ، وإلا تحولت إلي أطلال ، إنها تؤدي عملاً ، ثم إنها بالإسراف في اختبارات الموت اليوميِّ ، لمست العمق الأليف للموت في إطاره ، وأصبح بالنسبة لها ، علي الأقل ، مجرد طقس مسرف في التكرار ،،

    أجد هذا تعبيراً حقيقياً عن حكاية قرأتها ، عن رجل ٍ استوطن بيتاً بالقرب من مدبغةٍ للجلود ، وظلت الرائحة الكريهة ، كعالمنا ، لسلةٍ من الأيام الأولي ، تثير غثيانه ، وخاصم صاحب المدبغة إلي السلطات ، وتلكأ دهاء صاحب المدبغة عن الذهاب أسبوعاً ، ومضي الأسبوع ، وماتت الشكوي !!

    لقد اكتسب الساكن الجديد بمعايشة الرائحة وعياً جديداً بإحساس الألفة ..

    قال لنا أنه اشتبك ذات صباح مع ممرضة في فاصل من السخرية ، فقالت له من بين ضحكاتها :

    - يبتليك بـ" محسن " !!

    وهذا الـ "محسن" بحماية ادعاءه هو "حلاق" المعهد ، وذهاب مريض السرطان إلي الحلاق ، يعني أحد البروتوكولات الطليعية لإعداده لجراحة نتيجتها المؤجلة ، والفريدة ، حتي أنها الوحيدة هي الموت ، هي تعني ببساطة :

    - يا رب تموت !!

    نضحك حتي تدمع أعيننا ، يظلُّ الألم باقياً ، لكنه يصبح خافتاً ، أو هو في الحقيقة لم يكن ضحكاً بقدر ما كان محاولة للفرار من مجرد استشراف الغيب بطريقة ركيكة ..

    الطبيب أيضاً ، ليس من المعقول أن يكون صديقاً ، أو رقيقاً إلي هذا الحد ،،

    عقب سلة من الرحلات بين الدومة والقاهرة ، صدمه الطبيب صدمة فاحشة ، طالت بتصرفات منخفضة صهره "أبوالوفا" أيضاً ، - لقد انخفض سريعاً حماسُ المتحمسين لمرافقة ورمه إلي القاهرة ، وواظب فقط أصهاره علي حراسة حماسهم حتي النهاية - ، لقد أعلنه الطبيبُ بتبني الأطباء المعالجين قراراً باللجوء إلي الكيماوي كممرٍّ وحيد نحو شفائه ، أدركت من الشوك في كلامه لحظتها ، أن الورم كان قد ترهل إلي حد أصبحت معه السيطرة عليه مستحيلة ، وأن الجراحة تتحد تماماً بالقتل المُيسَّر ، وربما استوعب "عصام" أيضاً أطراف الكلمات الحادة ، فلقد أخبرني صهرُه وهو يزيف ابتسامته ، أنه قال للطبيب ، وعيناه توقِّعان دمعهما :

    - استحْمده اللِّي جات فـ الطوَّاطة !!

    عبارة ليس من السهل تفسيرها ، أو حتي إلقائها علي أطراف جملة تستدعي عمل الذهن في مقاربة مرضية لتفسيرها ، هي لابدَّ بعض التكلسات المكدسة في جيوب ذاكرته المشتتة حالاً ، طفت ، فجأة ، بعشوائية ، والتحمت بعشوائية ، فجأة أيضاً ، فشكلت تلك الأخلاط اللغوية ..

    من الآن ، وحتي ابتلعه المنحني الحاسم ، ظلَّ "عصام" محتفظاً بروحه المتهكمة ، هذا أضفي عليه مظهر المستهين بالموت بشجاعةٍ صلبة ، غير أنَّ شجاعته الزائفة لم تنطلي عليَّ أبداً ، ولم يكن بالطبع من اللياقة اختبارها ، كنت أصغي لما لا يقوله ، لا ما يقوله ، هكذا تعوَّدت ، ثمَّ تحت السطح ، كأنني كنت أصغي إلي داخله المكتظ بالأصوات تماماً ..

    قبل انهياره ، بلا مبالاة ، بأسبوع وبعض الأسبوع ، كنا نجلس منفردين في بيتنا ، نشاهد فيلماً من الأفلام التي استعارت عالم الأستاذ نجيب محفوظ بإسراف ، حتي انزلقت في الجرح الذي لابدَّ لها منه ، التكرار ، وعدم معرفة المشاهد بالحقيقيِّ ، وبالمطليِّ بظلٍّ شاحبٍ من اللاشئ ، وانساب مشهدٌ لست أدري ماذا لمس بالضبط في جيوب ذاكرته ، كان المشهد يجمع بين الأستاذين "صلاح قابيل" و"محمود ياسين" وآخرين ، أتذكر الحوار علي نحو واضح ، لقد تساءل الفنان "محمود ياسين" من ردهة شلله الواضح ، بصوت يلائم العاجزين :

    - من إمتا كلابها عوت علي ديابها يا نوح يا غراب ؟!

    خفض "عصام" رأسه ، وقوَّس كتفيه أماماً ، وأطلق صوتاً هائماً وفريداً ، كأنه يفتش عن إدانة غامضة لشئ ما ، ثم انخرط في بكاء حاد ، مذعور ، حتي أنه نبَّه علي بعد غابة من الخطوات "أُمِّي" ، تنبه ذهني مبكراً إلي سخافة أيِّ محاولة مني لتهدئة قلبه ، بل لأحرضه علي استئناف البكاء ، شاركتُه بنصيب وافر من الدموع الحقيقية ، لقد دَرَجْتُ عليه يضحكنا فيريحنا ، فلماذا ، ليرتاح ، لا أتركه يدين الوجود بإيماءته الوحيدة المتاحة ، عينيه ؟!!

    إنَّ ساخراً أصبح ، فجأة ، مركز دائرة السخرية ، خليقٌ بأن يقوم مقام الدليل الذي لا مراء فيه علي عبثية الحياة ، وبساطتها أيضاً ، هل فوق حياة ؟!..

    استعاد هدوئه بعد دقائق من البكاء المتدرج صعوداً وانحداراً ، ثم اشتعل عزمُهُ ، فجأة ، علي الفرار ، لقد لمست بوضوح أكثر مما ينبغي ، خجله الشديد من عراء انزعاجاته الداخلية أمامي ،،

    لماذا ؟ ، إنني أخوك في العجز ، وخوابي الألم المشتركة ..

    طالبتني "أمِّي" ، بعد أن ابتلعه الشارع الخالي من العصافير ، بتفسير لجنازتنا القليلة الماضية ، يا "أمِّي" الطيبة ، إنَّ هكذا سؤالاً ، سؤالٌ يجري في يقين السخافة ، إنَّ شاباً تترنح الحياة في قامته ، وتتماسك عيناه هو السؤال المتطلب ، وتمسكتُ بالصمت الجارح ، لقد ردَّني الخجلُ أن أُحدِّثَ "أمي" عن .. "نوح الغراب" ..

    كانت هذه هي آخر مرة أري فيها "عصام" ، ولقد انخفضت بفضلها زرقة قلبي كثيراً ، حتي أنني وضعت مأساته عن عمدٍ في جيب مهملٍ من جيوب اهتماماتي ، كنتُ فقط لا أتسع لها ، وكان قلبي ليس به موطأٌ لخسارة إضافية ، وباهظة..

    علمتُ فيما بعد ، أنه ، وهو في طريقه الأخير إلي "القاهرة" ، هاجمه ، علي مشارف "الدومة" وقلبي ، نزيفٌ حاد ، أعاق رحلته الأخيرة من رحلات الدوران في الفشل ، وعاد ، عاد مستنداً علي ظلال الآخرين ، بملامح وجهه القادم ..

    استيقظتُ مذعوراً ، ذات صباح لا مراء في غربانه ، علي ضجةٍ أكيدة ، نظرت من النافذة القريبة ، فرأيت الخالة "جليلة" تندفع مهرولة من باب بيتها إلي الشارع السائل ، والخالي إلا من الغربان ، يتبعها عصبة من النساء المتشحات بسواد الحداد ، تتزاحمن علي تهدئة قلبها ، غرسَت عينيها في لحم السماء ، وصاحت في تحفز حقيقيٍّ ، ومروع :

    - يا ظُلْمكْ ، يا ظُلْمكْ !!

    كانت بحماية أكبر خسائرها علي الإطلاق معذورة ، لقد دخل "عصامُ" ، وحيدُها ، موتَهُ الذي اكتمل عند غروب ذلك اليوم تحديداً ، وتحوَّل "عصامُ" إلي حزمةٍ من مكعبات الثلج ، ثم .. ذاب في مساحات السفر الواسعة ،،

    الغروب ..

    جزيرة ٌ حقيقية ٌ من الجمال الخاطف ،،

    لكن ذاك الوجه المتغضن .. علي الرماد !! ..


    محمد رفعت الدومي


    * من " اسهار بعد اسهار"























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de