حول الفِكر والحزب الجمهورى السودانى: تم إنشاء الحزب الجمهورى فى يومِ الجمعة 26 أكتوبر 1945م على يد الأستاذ/ محمود محمد طه وعدد من الشباب السوداني الثائر ضد الحكم الثنائى (الإنجليزي المصرى) على السودان. وكان من ضمن الذين شاركوا فى إنشاءِ الحزب الجمهورى السادة/ عبد القادر المرضى، محمد المهدى المجذوب، يوسف مصطفى التنىّ، ومنصور عبد الحميد، محمد فضل الصدّيق، محمود المغربي، وإسماعيل محمد بخيت حبّة، وأمين الصديق. وكان اقتراح تسمية الحزب بـ (الجمهورى) قد تقدَّم به العضو يُوسف مصطفى التِنىّ وكان فى ذلك إشارة لمُطالبتهم بقيامِ جمهورية سودانية خِلافاً للمطالباتِ الأخرى التى كانت تُنادِى بدولةٍ مَلكِيَّة تحت التاج البريطانى، أو دولة ملكِيَّة تحت التاج المصرى.
إعلان الفِكرة الجمهورية: فى العامِ 1946م سُجِنَ الأستاذ محمود محمد طه، وتمَّ سِجنه مَرَّة أخرى على إثر المظاهرات التى أخرجَها هو فى مدينةِ رُفاعَة، وسُمِّيت بـ "ثورة رُفاعَة". فى فتراتِ سجنِه واعتقالِه كان محمود محمد طه ينتهجُ منهج الصُوفِيَّة فى الاختلاءِ والصومِ المُتواصِل والتأمُّل حتى إذا ما أحَسَّ بأنَّ هذا المنهج قد أنضجَ تجرُبتهُ قامَ بالدخولِ فى خلوةٍ طوعية مارسَ فيها نفس المنهج الذى انتهجه بالسجن ومن ثم قام بإضافةِ أفكارٍ جديدة على الحزبِ الجمهورى وبدأت تظهرُ معالمَ الفِكرة الجمهورية. فى نوفمبر1951م عقد الجمهوريون برئاسة محمود محمد طه اجتماعاً عامَّاً، وقد قُدِّمَ فى ذلك الاجتماع بياناً يُبرِزُ سِمات الفكرة الجمهورية وانتقالها من حزبٍ سياسى تقليدى إلى دعوةٍ تجديدية دينية تهدفُ إلى تغييِّرِ الإنسان عن طريق الدين القويم المُتصالِح مع النفسِ والآخر.
المذهبية الإسلامية عند الجمهوريين: يعتقدُ الجمهوريون أنَّ الحركةَ الوطنية التي انبجَست من مؤتمرِ الخرِّيجين العام فى الأربعينات تتبعُ الطائفية ابتغاء السند الشعبي، فاحتضنت طائفة الختمية الأحزاب الاتحادية واحتضنت طائفة الأنصار حزب الأمَّة على عكسِ الجمهوريين الذين اتَّبعُوا المذهبِيَّة، ودعوةُ الشعبِ مباشرة ليلتَفَّ حولها، من غير استعانة بالزُعماءِ الطائفيين الذين كانوا يقتسِمُونَ وَلَاء الشعب بينهم. وكان يبدو للجميع أن طريقَ الجمهوريين هذا، طريق طويل، فالجميع يتعجّلُون كسب السند الشعبي بأقربِ الطرق، وهو طريق كسب تأييد زعيم إحدى الطائفتين الذى تكفي اشارته فقط ليُسارع أنصاره بتأييد الحزب المُعيَّن. يعتقِدُ الجمهوريون أنَّ احتواء الطائفية للحركةِ الوطنية جمع لها سلاح النُفوذ السياسي مع سلاح العقيدة الدينية، مما مكّنَها من الشعبِ فجَمَّدت وَعْيهُ، وأستغلّتهُ فى السياسة. وكان رجال الأحزاب خاضعين للطائفية، وكانت حصيلة البلاد ألواناً من التخبُّطِ فى حُكمِ البلاد، وتخلّفاً مُزرِياً فى حياةِ الشعب. وكانوا يُعيبُونَ على الأحزاب تفريطِها فى المذهيبة، وكانوا يحذِّرُونَ بأنَّ عاقبةَ غياب المذهَبِية هى التخبّط بعد الاستقلال، والسيرُ فى التِيهِ.
محمود محمد طه مفكر ومؤلف وسياسى سودانى (1909- 1985م) أسس مع آخرين الحزب الجمهوري السوداني عام 1945 كحزب سياسي يدعو لإستقلال السودان والنظام الجمهوري وبعد اعتكاف طويل خرج منه في أكتوبر 1951 أعلن مجموعة من الأفكار الدينية والسياسية سَمَّى مجمُوعِها بالفكرةِ الجمهورية أخذَ الكثير من العلماء مختلفى المذاهب الكثير على الفِكرةِ الجمهورية وعارَضُوهَا ورماهُ بعضَهُم بالرِدَّة عن الإسلام وحُوكِم بها مرَّتين أُعدِمَ فى أخراهما فى يناير 1985م فى أواخرِ عهدِ الرئيس جعفر نميرى. وعُرف بين أتباعه ومحبِّيه بلقَبِ (الأستاذ). مازال الحزبُ الجمهورى ينشر فِكرَهُ وما زال معارضوه ينشرون الكتب والفتاوى المُضَادَّة.
الجمهوريون والحركة الوطنية: انتقد الجمهوريون الحركة الوطنية لتراخِيها فى مقاومةِ الإستعمار والإنعزالِ عن الشعب، والإندماجِ مع الطائفية. ويعترفُ الجمهوريون بأنَّ رجالَ الحركة الوطنية الآخرين قد أدُّوا دوْرَاً مُقدّراً فى جلاءِ الاستعمار، وفى اتمامِ السَوْدَنة، وإقامةِ أول حكومة سودانية بعد الاستقلال. كالدور الذى قام به السادة على الميرغنى وعبد الرحمن المهدى، وأعوانهما من السياسيين. يعتقِدُ الجمهوريون انَّ صلاتَ الاتحاديين بمصر، وصلات الاستقلاليين ببريطانيا، قد أذكت رُوح المنافسة بين دولتي الحُكم الثنائي، وساعدت كثيراً على اتفاقِ القاهرة عام 1953م إذ اتفقت كلمة الاحزاب السودانية الاتحادية والاستقلالية على اقامةِ الحُكمِ الذاتى واجراءِ الاستفتاء على مصيرِ السودان: استقلالاً أو اتحاداً مع مصر. وقبِلت من ثم حكومتا مصر وبريطانيا ما اتفق عليه السودانيون. ولمَّا قامت الحكومة الانتقالية اتفقت الاطرافُ المختلفة، وأعلنت الاستقلال من داخل البرلمان، فى 19 ديسمبر 1955م.
الجمهوريون والطائفية: منذُ فجر الحركة الوطنية دعا الجمهوريون لعزلِ الطائفية عن الحركة الوطنية، مؤكدين التوجُّه إلى الشعبِ مباشرة، لاستنهاضه حتى يمسك قضيته فى يده، فيكافِح ويتحمَّل مسئولية تحرير نفسه، فاذا تمَّ له التحرُّر من الأستعمار كانت الحُرِّية عزيزة لديه، لايفّرِطُ فيها أبدَاً، ولا يدع المجال لعابثٍ ليعبثَ بها. لقد نشطَ الجمهوريون فكانوا يخطبون فى المساجدِ وفى المقاهى، وفى الأندية. ويقومون بتوزيع المنشورات على الشعبِ تُهاجِم المُستعمِر، وحتى على المسئولين من الحُكّامِ الأنجليز.
الجمهوريون والشريعة: رفضت الفكرة الجمهورية مبدأ الدستور الإسلامي عن طريقِ الشريعة الإسلامية بفَهْمِ الدُعاة السلفيين. ففى كتابِه (الدستور الإسلامي؟ نعم ولا) يقول محمود محمد طه شارِحَاً فهمَهُ للدستور الإسلامى وللشريعةِ الإسلامية: (أول ما تجبُ الإشارةَ إليه هو أنَّ الشريعةَ الإسلامية ليست هى الإسلام، وإنَّما هى المدخل على الإسلام. الشريعة الإسلامية فى بعضِ صُورِها تَحْمِلُ سِمَةُ "الموقُوتِية" وهى من ثم قابلةٌ للتطوُّرِ. تنتقل الشريعة الإسلامية فى تطُوُّرِها من نَصٍّ فرعِى فى القرآن، تنزَّل لأرضِ الناس من نَصٍ أصلى وقد اعتُبِرَ النص الأصلى منسُوخاً، بمعنى أنه مُرْجَأ إلى يومِهِ، واعتُبِرَ النص الفرعِى صاحِبُ الوقت، يومئذ. فتطوُّرِ الشريعة الإسلامية فى بعضِ صُورِها، إذن، إنما يعنى انتقالها من نصٍ، إلى نص، فى القرآنِ. وقد تنزَّل الفرعُ عن الأصلِ بفعلِ الضرورة، ليكون قريبَاً لأرضِ الناس حتى ينقُلَهُم على مُكْثٍ إلى الأصلِ. الأصلُ هى الآيات المنسُوخة والفرعُ هى الآيات الناسِخة. فإذا كنا نتحدثُ عن الشريعةِ الإسلامية فيجب ألا نزِجَّ بآية (لا إكراه فى الدين، قد تبين الرشد من الغى) إلَّا إذا كُنَّا ندعُو إلى أنْ تتطوَّرَ الشريعة، من آيات الإكرَاهِ، إلى آياتِ الإسْمَاح. وهو أمر لا يعْقِلُه دُعَاةُ الإسلام عندنا، إلى الآن. وهناك أمر خطير يجب تقريره وهو أنَّ الشريعةَ الإسلامية ليست ديمقراطية، ولا هى اشتراكية، وإنما هى تقومُ فى السياسةِ على آيةِ الشورى، وهى آية حُكمُ الفردِ الرشيد الذى جُعِلَ وَصِيِّاً على قومٍ قُصَّر، وقد طُلِبَ إليه أن يُحسِنَ تربيتِهم، ورعايتِهم، وترشيدِهم ليكونُوا أهْلَاً للديمقراطيةِ. ويومئذ تتطوَّرُ شريعتهم لتنتقِل من فُروعِ القرآن إلى أصُولِه، من آيَّةِ الشورى إلى آيتيى (فذكّْر إنَّمَا أنت مُذكِّر * لست عليهم بمُسيطِر).. فتكون بهذا التطوير أدخل فى الإسلام من سابقتها. أو قل منها قبل أن تتطوَّر. ومثل هذا يقالُ عن الاشتراكية، فإنَّ شريعةَ الإسلامِ الحاضِرَة ليست اشتراكية، وإنَّما هى رأسِمالية، أرِيدَ بها أن تكونَ مرحلة تسير الأمة السالفة إلى منازل الاشتراكية. ويومئذ تتطور الشريعة الحاضرة، بأنْ تنتقل من فروعِ القرآن إلى أصُولِه، من آية الزكاة الصغرى "الفرعِية") خُذْ من أموالِهم صدَقَةٌ تُطَهِّرَهُم وتُزَكِّيِهم بها، وصَلِّ عليهم إنَّ صلَاتَك سَكَنٌ لَهُمْ، واللهُ سمِيعٌ عَلِيم)، إلى آية الزكاة الكبرى "الأصلية") يسْأَلُونَك ماذَا يَنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ). فى الفكرةِ الجمهورية فإنَّ الشريعة الإسلامية التى قامت فى القرنِ السابعِ وما تلته من قرون غير صالحة لإنسانية القرن العشرين والوآحِد والعشرين، بل ما يصلح لهذه الإنسانية هى الإسلام فى أصولِه لا فى فُرُوعِه).
الجمهوريون والدستور الإسلامى: فى الشريعةِ الحاضرة ليست هناك ديمقراطية، ومن ثم ليس هناك دستور إسلامي. وكل حديث عن الدستور الإسلامي من الذين لا يرُونَ تطويرِ الشريعة الإسلامية إنَّما هو جَهْلٌ مُزدَوج، جَهلٌ بالإسلامِ، وجَهْلٌ بثقافةِ العصر. وهو ما يقومُ عليه أمرُ دُعَاة الإسلام عندنا.
الجمهوريون والمدنية الجديدة: ومن كتابهِ (قل هذه سبيلي) ننقلُ رأى الأستاذ محمود محمد طه: الحزب الجمهورى دعوةٌ إلى مدنيةٍ جديدة تخلِفُ المدنية الغربية المادِّية الحاضرة التى اعلنت افلاسُها بلسانِ الحديدِ والنار فى هذه الحُروبِ الطَوَاحِن. الفلسفة الاجتماعية التى تقوم عليها المدنية الجديدة ديمقراطية اشتراكية تؤلِّفُ بين القيم الروحية وطبائع الوجود المادِّى تألِيفاً مُتناسِقاً مُبرَّأ من تفريطِ المادِّية الغربية التى جعلت سَعِى الإنسانية موكلاً بمطالبِ المَعِدة والجسد، ومن افراطِ الروحانية الشرقية التى اقامت فلسفتها على التحقِيرِ من كُلِّ مجهُودٍ يرمِى إلى تحسينِ الوُجود المادِّى بين الأحياء. طلائعُ المدنِية الجديدة اهل القرآن الذين قال تعالى فيهم (وكذلك جعلنَاكُم امَّة وَسَطَاً) أى وسط بين تفرِيط الغرب المادِّى وافِرَاطُ الشرق الروحانى. ودستور هذه المدَنِيَّة الجديدة (القرآن) الذى تقدَّم بحَلِّ المسألة التاريخية التى اعيت حِكمة الفلاسفة: مسالة التوفيق بين حاجةُ الفردِ إلى الحُريِّة الفردِيَّة المُطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالةِ الاجتماعية الشامِلة. وسِمَة هذه المَدَنية الجديدة الإنسانية انها ترى انَّ الاُسرَةَ البشرية وَآحِدَة، وانَّ الطبيعة البشرية حيث وُجِدت فهى بشرية وان الحُرِّية والرفاهية حَقٌ مُقدَّس طبيعى للأسودِ والأبيضِ والأحمرِ والأصفر.
الجمهوريون والحُرِّيَّة: تنطلقُ الفكرة فى فهمِها للإسلام من حقيقةٍ مقررة وهي ضرورة فك التعارُض بين الفرد والجماعة وفى هذا يقول محمود محمد طه فى كتابهِ (الرسالة الثانية من الإسلام): فالحريَّةُ فى الإسلامِ مُطلَقة، وهى حقٌ لكُلِّ فردٍ بشرى، من حيثُ أنَّهُ بشرى، بصرفِ النظر عن مِلَّتِه أو عنصره، وهى حقٌّ يقابِلُه وآجِب، فلا يُؤخـذُ إلَّا بـه. وهـذا الوآجِب هـو حسن التصـرُّفُ فى الحُـِّرية. فلا تصبح الحُريّةُ محدودة إلّا حين يصبح الحُرُّ عاجزاً عن التزامِ وآجِبِها، وحينئِذ تُصادر فى الحدودِ التى عجِزَ عنها، وتُصادَر بقوانين دستورية.. والقوانين الدستورية فى الإسلام هى القوانين التي تملك القدرة على التوفيق بين حاجة الفردِ إلى الحُرِّيةِ الفردية المُطلَقة، وحاجة الجماعة إلى العدالةِ الاجتماعية الشامِلة، فهى لا تُضَحِّي بالفردِ فى سبيلِ الجماعة، ولا بالجماعَةِ فى سبيلِ الفرد، وإنما هى قِسْطٌ موزُون بين ذلك.. تُحقَّق حين تُطَبَّق، بكُلِّ جزئية من جزئياتِها، مصلحةُ الفرد ومصلحة الجماعة فى آنٍ مَعَاً، وفى سياقٍ وآحِد. الأصلُ فى الإسلامِ أنَّ كلَّ إنسان حُر، إلى أن يُظهِرَ عملِيَّاً، عجزه عن التزامِ وآجِب الحُرِّيَّة، ذلك بأنَّ الحُرِّية حقٌ طبيعى، يقابلهُ وآجِب، وَآجِبُ الأداء، وهو حُسنُ التصَرُّف فى الحُرِّية، فإذا ظهرَ عجزُ الحُرِّ عن التزامِ وآجبِ الحُرِّية صُودِرَت حُرِّيِّتهُ، عندئذ بقانونٍ دستورى.
الجمهوريون والإشتراكية: ومن أصولِ الإسلام فى الفكرةِ الجمهورية هو الانفتاح على ثقافةِ العصر وأخذ ما هو صالح منها، وفى رأىِ الفكرة أنَّ الإسلام (اشتراكى ديمقراطى) وما مرحلة (حُكمُ الفرد) و(الرأسمالية) إلَّا حُكم وقت لا يصلح نقله لهذا العصر. وعليه فإنَّ (الجهادَ) ليس أصلاً فى الإسلامِ.. بل فرع اقتضته ظروف مُحدَّدة. وعن هذا الأمر يقول الأستاذ/ محمود محمد طه فى كتابهِ سابق الذِكر: (الجهاد ليس أصلاً فى الإسلام)، والقانون الدستورى، كما سلفت إلى ذلك الإشارة، هو القانون الذى يوفق بين حاجة الفرد إلى الحُرِّيةِ الفردية المُطلَقَة، وحاجة الجماعة إلى العدالةِ الاجتماعية الشامِلة، وقد قررنا آنِفاً أنَّ ذلكَ هو قانون المُعَاوَضَة. هذا الأصل هو أصلُ الأصُول، وللوفاءِ به بدأت الدعوة إلى الإسلام بآياتِ "الإسمَاح"، وذلك في مكَّة، حيث نزلت (ادعُ إلى سبِيلِ رَبِّكَ بالحِكْمِةِ، والمَوْعِظَةُ الحَسَنَة، وجَادِلْهُم بالتِّي هى أحْسَن، إنَّ رَبَّكَ هو أعْلَمُ بمَنْ ضَلَّ عن سبِيلِهِ، وهو أعْلَمُ بالمُهْتَدِين) وأخواتها، وهُنَّ كثيرات، وقد ظَلَّ أمرُ الدعوة على ذلك ثلاث عشرة سنة، نزل أثناءها كثير من القرآن المُعجِز، وتخرَّجَ أثناءها من المدرسة الجديدة، كثير من النماذجِ الصالحة، من الرجالِ والنساءِ والصبيان. وكان المسلمون الأولون يكفُّونَ أذَاهُم عنِ المُشرِكِين، ويحتَمِلُون الأذَى، ويضحُّونَ، فى صدقٍ ومُروءَة، فى سبيلِ نشرِ الدين، بكُلِّ أطايبِ العَيش، لا يضعَفُون ولا يستكِينُون.. يبيِّنُونَ بالقولِ البليغ، وبالنموذجِ الصادِق، وآجبُ الناس فى هذه الحياة نحو ربِّهم بإخلاصٍ عبادتِهِ، ونحو بعضِهم، بصِلةِ الرِحِم وإصلاحِ ذاتِ البَيْن). ويستطرد قائلاً: (فإذا أصَرَّ الناسُ، بعد ذلك، على عبادةِ الحَجَرِ الذى ينحتُون، وعلى قطعِ الرِحم، وقتلِ النفس، و وَأدِ البنت، فقد أساءُوا التصرُّفَ فى حُرِّيتِهم، وعرَّضُوها للمُصَادرةِ، ولم يكن هناك قانون لمُصادَرِتها حينذاك، فلم يبقَ إلَّا السيف، وكذلك صودرت. وروح الجملة السابقة فى قوله (ولم يكن هناك قانون لمصادرَتِها) ويمكن أن نفهمَ أنَّ السببَ فى اقرارِ الجهاد هو ثقافة العصر التى كانت لا ترتدِع الَّا بقُوةِ السيف. وفى ظِلِّ غياب القانون نشأ الجهادُ للدفاعِ عن النفسِ أولاً، ثُمَّ للدفاعِ عن الدعوةِ ثانية. ومن هذا يُفهَم أنَّه إذا كان هناك قانون يَحْمِى النفسَ ويحْمِى الدعوة (كما هو الآن) فإنَّ الدعوةَ للجِهادِ لا تتَّسِقُ ورُوح الدين. وعلى هذا الأمر انْبنَى أمرٌ آخر وهو أمرُ الرِق فهو أيضاً وبنفس الصورة يصيرُ غير أصلاً فى الإسلام. وعدم المساواة بين الرجال والنساء ليست أصلاً فى الإسلامِ، وتعدُّدِ الزوجات، والطلاق، والحِجَاب، والمجتمع المُنعَزِلُ رجاله عن نسائِه. هذا ما كان من أمرِ الفكرة الجمهورية فى هذه القضايا، وللفكرةِ فهْمَاً دقِيقاَ لبناءِ المجتمع وصورِ الحُكم. يمكن مُطَالعتُه فى كُتبِها بـ موقعِ الفِكرة.
الجمهوريون والقومية العربية: لقد قَيَّمَ الجمهوريون دعوة القومية العربية كدعوة عُنصرية، تضلِلُ العرب، وتصرِفهُم عن أصالتِهم، وتُراثِهم، وتضعَهُم لُقمةً سَائِغَة فى ساحةِ الصراعِ الدولى. وقدّمُوا فهمهم للإسلام، والإقليمية بديلاً عن القوميةِ العربية، فانَّ الإسلام (على حد زعمهم) بفكرِهِ الوآعِي، يمثِلُ الرُوح، والإقليمية باطّرَادِها، تُمثِلُ الهيكل لنظامِ الحُكمِ العالمي المُرتَقب، الذى تكُونُ فى قاعدتِه حكومات الاقطار، والحكومات الإقليمية، وفى قِمَّتِه الحكومة العالمية التى تمثلُ هيئة الأمم المتحدة الحاضرة نواتها. إنَّ الجمهوريين لم يدْعُوا للإسلامِ تعَصُبَاً وتقلِيدَاً، وانَّما كانت دعوتهم اليه عن فهْمٍ واقتناع بأحقِّيتهِ، وجدارتِه وقُدرَتِه على اقنَاعِ العقل المُعاصِر، وذلك هو ما اصطلح الجمهوريون على تسميتِهِ بالمرحلة العِلميَّةِ من الإسلام، فى حين كانت المرحلة الماضية منه هى مرحلة العقِيدة.. وعليه فإنَّهم قد كانوا فى نقدٍ دائم للنظامِ الناصرى بمصر ولنظامِ البعثِ بسوريا والعراق وكانوا ضد التكتلات القومية بصورةٍ كبيرة.
الجمهوريون والصراع الإسرائيلى: ولقد أخرجت الفكرة الجمهورية كتاباً فى عامِ 1967م عقب النكْسَة مُباشرة، بعنوان (مشكلة الشرق الأوسط) قدَّمَت فيه نقداً كبيراً لعبدِ الناصر كرئيس لأكبرَ دولة بالمنطقة ودَعَت فيه للاصطلاحٍ مع إسرائيل ومما جاء فيه:(كان، ولا يزال، اعتراف العرب بإسرائيل، بالنسبةِ لإسرائيل أعزَّ امانيِّها، لانَّهُ يوفِرُ عليها حالة الخوف، والتوتر، والقلق ـ التي ارقت لياليها، وشغلت أيامها، كما يوفرُ عليها الجَهدُ والمال، وهى فى سبيلِ هذا الاعتراف يمكن ان تساوِمَ إلى حدودٍ بعيدة لا تقف عند حَدِّ إعادة اللاجئين إلى ديارِهم، وتعويضِهم عن ممتلكَاتِهم، ولا عند حَدِّ الجَلاء عن الاراضِى العربية التى احتلّتها فى 5 يونيو، وانَّما تذهَبُ إلى الرجوعِ إلى الحُدودِ التي بيَّنَهَا قرار التقسيم الاصلى الذى اتخذته الأممُ المتحِدَة فى التاسعِ والعشرين من نوفمبر عام 1947م. وهى حدود قد تخطّتها إسرائيل، وتوَسَّعت عليها عقِب كُلِّ معركة من المعارك التى نشبت بينها وبين العرب منذ 15 مايو 1948م. ولكنَّ العربُ يرفضون الاعترافَ بدولةِ إسرائيل، وهُم ان اردتَ الدِقَّة، لا يرفضونه الَّا شكْلَاً، ولا يرفضونه الَّا قوْلَاً.. ولكنَّهم مضمُوناً وعَمَلاً لا يرفضُونَهُ.. هذا من أشدِّ الامُور مَدْعَاةً للأسَفِ، وهو فى نفسِ الوقت من أدَّل الدَلائِل على جهلِ القياداتِ العربية، وقِلَّة حِنكَتِها، ذلك بانَّ إسرائيل فى فترةِ الاصرار على عدمِ الاعتراف بها قد تقوَّت ولا تزال تتَقوَّى، عسكرياً، وسياسياً، ودبلوماسياً، واقتصادياً، وبشرياً. ثم هى ستنَالُ الاعترافَ الكامِل بها بعد أن تفرضَهُ، وبعد أن يكونَ العربُ كما هو وآضِحٌ الآن قد قدَّمُوهُ على أقساط، وبعد أن يكون قد فقدَ قيمة المُساومة التى كان ولا يزال يحْظَى بها.. فكأن إسرائيل ستحرز اعتراف العرب بها بدون أنْ يقبضَ العرب من إسرائيل ثمن هذا الاعتراف. ورفضُ العرب الاعتراف بإسرائيل يقومُ على كبرياءٍ زائِف!! كيف يجلسون ليتفاوضوا، على مائدة وآحِدة، مع من أغتصبَ أرضهم؟؟).
هذا من حيثُ التنظير، ونواصل فى إيرادِ مواقف وطنية عملية وجريئة للحزب الجمهورى السودانى. (نواصلُ فى جزءٍ ثانى)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة