في البداية لابد من الإشارة إلى أن الحوار كقرار سياسي تنظيمي مع النظام أو مع مغيره لايتجاوز كونه موقف سياسي خاضع للصواب والخطأ والنقد ، لكن المهم في الأمر ألا يتم تجاوز ذلك إلى التخوين أو المزايدات ، فلا يوجد أصلا في الأدب السياسي مبدأ اسمه (عدم الحوار ) والتخوين يصيب أي عملية نقدية في مقتل ويفقدها روحها ومعناها لأنه يؤسس مبدأ ً لعدم احترام الطرف الآخر والتشكيك في نواياه ودواخله . الهجوم الكبير على الحوار كموقف ، هجوم غير مبرر ولا معنى له فقط لأنه حوار ولكن ربما نتج ذلك من التعبئة المسبقة ضد كل المحاورين ، التعبئة التي كان نداء السودان وأحزابه أطرافا فيها . فقد اختارت قوى نداء السودان أخيرا وبعد اجتماعها المنعقد في باريس أواخر يوليو التوقيع على خارطة الطريق بعد الحاق بعض البنود بها تمهيدا لدخولها عمليا في الحوار مع نظام المؤتمر الوطني ، نفس القوى التي أعلنت قبل فترة ليست بعيدة وبتكرار مستمر عملها الدؤوب من أجل إسقاط نظام المؤتمر الوطني بالأدوات المدنية ، وهي التي تضم بينها قوى تسعى إلى ذلك بالعمل العسكري المسلح. إذا ماالذي تغير ولماذا الحوار الآن ؟ (1) لا يوجد على الإطلاق أي سعي من صاحب المقال لتبرير الموقف السياسي الجديد لقوى نداء السودان ولكن التحول المربك والذي هز المشهد السياسي وأحدث شرخ في جسد المعارضة السودانية يستدعي المزيد من التحليل ، ولذلك يصبح السؤال الأكثر الحاحا هو لماذا الحوار الآن ؟ وماالذي تغير ؟ نظام المؤتمر الوطني القابض على البلاد بالسلطة الأمنية والعسكرية لأكثر من ربع قرن هو نفسه الذي اعتقل الديمقراطية وصادر الحرية في 1989 ، فما يزال النظام يعتقل العشرات من الطلاب والناشطين والسياسيين ويتحفظ عليهم لفترات تتطاول كما يشاء بدون توجيه أي تهم وبدون محاكمات عادلة ، ومايزال المؤتمر الوطني وباستخدام أذرعه الأمنية ومليشياته ودعمه السريع يحارب ويقتل السودانيين في كل أطراف البلاد بدعاوى الدين والإسلام بل وأضاف إلى ذلك حديثا دعاوى التميز الإثني والعرقي . مايزال الطلاب السودانيون في الجامعات المختلفة يقتلون برصاص النظام ووحداته الجهادية والتي تقدم النظام خطوة وأقر وجودها من داخل البرلمان بل وأكد أهمية الادوار التي تقوم بها ودم محمد الصادق ويو وأبوبكر الصديق لم يجفا بعد ، فنظام المؤتمر الوطني لم يتغير ولم يستبدل أدواته ، فهو مازال الحاكم بأمر الله في الأرض ومازال يسعى إلى أن يسود التيار الإسلامي العالم أو كما قال نافع علي نافع في أواخر يونيو المنصرم . والأهم من هذا وذاك هو عدم اعتراف النظام ومؤسساته بحجم الأزمة التي يتعرض لها السودان ومدى تعقيداتها ، بل اصراره المستمر على المعجزات التي حققها وتأكيده على أن البلاد واقتصادها ووضعها العام قد تقدم وتطور في ربع من الزمان سيطر فيها على مقاليد الأمور . إذا إن لم يكن النظام قد اعترف بفشله في ادراة شؤون البلاد ، ولم يتغير أو يستبدل أدواته وآلياته فماالذي تغير ..!؟ (2) يبدو جليا وبوضوح تام وتبعا للفوضى التي ضربت الشرق الأوسط وبلدانه المختلفة أن المحيط السوداني هو الذي تغير وبصورة غير مسبوقة وغير متوقعة ، السقوط المتتالي للدول ومؤسساتها وأنظمتها هو الذي أفرز واقعا جديدا في المنطقة ، فاليوم توجد داعش ( البعبع ) الضخم الذي يرعب ويهدد مصالح النظام العالمي في كل مكان ، وتبعا لذلك وخلال السنوات القليلة الماضية وخاصة عقب انفصال الجنوب تراجع اهتمام العالم وقواه الفاعلة بالسودان وقضاياه ليس لشيء سوى أنه مستبعد من دائرة التأثير العالمية ، وكما أنه بالمقارنة مع المستجدات الإقليمية أضحى يبدو أكثر استقرارا وتماسكا . المهم اليوم بالنسبة للعالم ليس الديمقراطية ، الحريات أو الحقوق العامة المهم وبصورة أساسية هو استقرار الشكل المؤسس للدول ، أن تحافظ على نظام أمني مستقر يستطيع بصورة أو بأخرى دحض ومحاصرة المنظمات والجماعات المتطرفة أولا ومن ثم المساعدة في قضية اللجوء التي ترعب الغرب وتهدد قيمه التنويرية . السودان ليس بأي حال من الأحوال استثناء في ذلك الخصوص ، فالسودان بمساحاته الشاسعة وحدوده المترامية الأطراف ، بالإضافة لانتشار السلاح بصورة كثيفة وبيئة وثقافة الحرب المزمنة قد يكون بيئة خصبة لداعش وغيرها من المجموعات الإرهابية . لكل ذلك يمكن القول أن العالم اليوم لا يدعم ولا يستطيع أن يدعم أي محاولات تغيير حقيقي في الواقع السوداني لأنها قد تكون مجازفة لا تحمد عقباها ، فالأفضل بالنسبة للمجتمع الدولي اليوم المحافظة على الوضع كما هو حتى ولو كان ذلك لبعض حين يضحي فيه العالم أكثر استقرارا . (3) المعارضة السودانية وقوى نداء السودان تحديدا هي المعنية هنا أيضا تغيرت ، فهي قد انتقلت تلقائيا وبهذا الموقف الجديد من زاوية السعي الحثيث لإسقاط النظام إلى الحوار مع النظام وإن كانت قد أشارت إلى تحركها في سبيل تحقيق الهدفين وهو أمر لا يستقيم بأي حال من الأحوال فلا يمكن الحديث عن إسقاط النظام والحوار معه في نفس الوقت ، هذا التحول المفاجئ في الموقف السياسي من النظام يشير ابتداءً إلى فشل نداء السودان في مشروعها الساعي إلى إسقاط النظام وهو ما عبر عنه عدد من قادتها وإن كان ذلك بصورة ضمنية ، الأزمة تكمن في أنه لا يمكن أن نقول أن نداء السودان قد عملت بصورة حقيقية وجادة من أجل تحقيق هدفها السابق . الشارع السوداني المغبون والمعبأ اتجاه نظام المؤتمر الوطني تحرك بصورة متكررة ومتتابعة تلقائيا وبدون تخطيط مسبق من القوى المعارضة فكانت انتفاضة سبتمبر التي سقط على إثرها العديد من أبناء السودان بالإضافة إلى الحراك الطلابي العظيم والمتصاعد خاصة في الأشهر الأخيرة ، التحركات التي لم تجد المساندة والمؤازرة المتوقعة من القوى المعارضة وهو مايشير إلى استخدام مشروع إسقاط النظام بصورة هتافية إعلامية اكثر من كونه مشروعا سياسيا يعكف عليه الناس بالتحرك والتخطيط . هتافية العمل المعارض وعدم جديته لا يستفيد منها أحد غير النظام نفسه فهي أولا تشكك في قدرات العمل المعارض وبالتالي في قدرة الشعب السوداني على إزاحة الظلم واقتلاع حرياته كما أنها تبعث بإشارات ليست حقيقية عن نظام قوي ومتماسك ومتحكم في الجماهير . لماذا لم تتحرك القوى المعارضة بصورة جادة من أجل إسقاط النظام ؟ يبدو أن المعارضة نفسها تتخوف من سيناريو ما بعد المؤتمر الوطني وذلك في حالة إزاحته بواسطة العمل المدني أو العسكري وهنا تختلف القوى المعارضة في تقديراتها لذلك ، نعم هناك حقيقة ماثلة ولا يمكن إنكارها وهي أن تكلفة إزالة المؤتمر الوطني لا يمكن إلا أن تكون باهظة وذات أثر كبير ، فالنظام اليوم قد أحاط نفسه بأعداد ضخمة من المليشيات المسلحة التي لا تخضع لشيء سوى مصالحها ومصالحها المادية في المقام الأول ، المادة التي يوفرها النظام بالإضافة إلى الحصانة النسبية التي يوفرها لأفراد هذه المليشيات تجعل منها سدا منيعا أمام أي محاولة للتغيير لأن ذلك يعني ببساطة دخولها في أقفاص الاتهام والمطاردة القانونية. ولكن يبقى السؤال الأهم هل تكلفة إسقاطه أكبر من تكلفة بقائه اليوم ؟! (4) ثم ماذا بعد ، نجاح الحوار كيف يكون ؟! نجاح الحوار المرتقب بين الفرقاء يعني أولا وقبل كل شيء ، الوقف الفوري والمباشر للحرب مع وضع الحلول المناسبة لقضايا مناطق النزاع والحروب ، إطلاق الحريات الغير مشروط ، تفكيك دولة الحزب الواحد وحل مؤسساته الأمنية والعسكرية ، يعني دحر الفساد والانتخابات الحرة والنزيهة . ولكن وإن صدقنا النوايا الطيبة لقيادات الدولة وهو أمر يصعب فعله فلا يمكن أن نغفل التأثير المتعاظم والكبير لمن يسندون المؤتمر الوطني ويقفون خلفه ، البنية الحقيقية للنظام ، فالحوار الناجح والذي يحقق كل ذلك يعني ببساطة هزيمة هؤلاء ، تجار الحرب ، الانتهازيين والمتسلقين ، أرباب الفساد ، أصحاب الرتب العسكرية الوهمية ، المجرمون والقتلة والهاربون من العدالة وهؤلاء هم عمليا من يديرون دولة السودان اليوم . فهل يمكن أن يمرر هؤلاء هذه الأجندة ويباركوا نتائجها ؟!
(5) نتائج الحوار قبل أن يبدأ !؟ وقع المؤتمر الوطني ومنذ أن أتى على ظهر الدبابة في أواخر الثمانينات العديد من الاتفاقات والوثائق الساعية إلى حلحلة القضية السودانية ومع عدد كبير ومتنوع من القوى السياسية، الاتفاقيات التي لم يلبث النظام قليلا قبل أن ينكص على عقبيه ويتراجع عنها والأمثلة أكثر من أن تذكر في هذه السانحة ، لكن الواضح في هذا الصدد هو استخدامه لهذه الاتفاقيات وما يسبقها من عملية حوارية طويلة وممتدة لهزيمة فرقائه ومعارضيه عبر تكتيكات الأمن التي تضرب المعارضة بعضها ببعض عبر أساليب التخوين والمزايدة في النوايا والأهداف . المستفيد المطلق من الحوار هو بالتأكيد النظام نفسه ، فهو أولا يؤكد على رضوخ المعارضة لمشروعه الحواري الذي ابتدره ، ومن ثم يؤكد على فشل مشروع المعارضة الساعي إلى إسقاطه ، و بالتالي يستفيد في كلا حالتي الحوار نجاحه أم فشله ، والأهم من كل ذلك أنه ومنذ الآن قد نجح في إحداث شرخ جديد سيتواصل اتساعه في جسد المعارضة الموحد وهو ما سيصعب ويبطئ أي محاولات جديدة لمعارضة موحدة وجادة تسعى لإسقاطه . التحالفات السياسية الجديدة التي ستؤسس لا محالة ، يجب أن تكون ذات أهداف واضحة ووسائل تنفيذ عملية وممكنة ، التحالفات التي تؤسس بدون سقوف زمنية وبدون خطط مدروسة وجداول عمل لاتخدم بأي حال من الأحوال قضية المعارضة وأهدافها . هو واقع سياسي جديد قادم يتحدى أكثر من أي وقت مضى أحزابنا السياسية وقدرتها على العمل وابتكار الحلول ، واقع يحتاج إلى الدراسة والتفكير ومن ثم التخطيط والتنفيذ السليم .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة