"لم يعد ضحايا التعذيب وحدهم الذين يعانون من الخوف ، بل أصبح يشاركهم فيه مرتكبو تلك الجرائم" أنطوان بيرنارد مسألة الحصانة والتي مازلنا ننظر في زواياها المختلفة منذ أسبوعين، لم تعد تنتهي حدودها عند ما يقرره القانون الوطني ولا تنتهي مشروعية أحكام ذلك القانون عند ما يقرره القضاء الوطني. وهذا بعد جديد فرضه التمدد غير المسبوق لثقافة حقوق الإنسان داخل القانون الدولي، والذي إنداح بأحكامه على الشأن الوطني للدول المختلفة ففرض عليها مستوىً لا تملك النزول عنه دون أن تخل بإلتزاماتها الدولية. فوجئ العالم عند نهاية الحرب العالمية الثانية، بفظاعة ما إرتكبته السلطات في دول المحور في حق شعوبها من جرائم، وهو الأمر الذي شكك في مدى شرعية نظرية سيادة الدولة بالمعني التقليدي، والتي تقوم علي سيادة الدولة علي إقليمها، و علي سائر شؤونها الداخلية، في مواجهة جميع القوى الخارجية. برز تراجع نظرية سيادة الدولة في صورتين الأولى حصانة مسؤوليها، والثانية إنفرادها بالإختصاص بشؤونها الداخلية. بالنسبة للأولى فقد بدأت المادة 7 من ميثاق المحكمة العسكرية في نورمبرج، والتي حاكمت المسئولين عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية من النازيين، عصراً جديداً فى القانون الدولي حين قررت أن المنصب الرسمي الذي كان يتقلده المتهم، سواء كرأس للدولة أو كمسؤول فيها لا يعتبر معفياً له من المسئولية ولا سبباً لتخفيف العقاب عليه. وقد وضعت هذه المادة سابقة مهمة في القانون الدولي أنهت حصانة رأس الدولة ووزير الخارجية ليس فقط من العقاب بل من إجراءات القبض والإجبار على الحضور بالنسبة لجرائم معينة وهي جرائم الحرب وإبادة الجنس والجرائم ضد الإنسانية والتي تشمل التعذيب. بالنسبة للثانية فقد برزت نظرية تقول أن السيادة لم تمنح فقط الدولة السلطة الحصرية على شؤونها الداخلية، ولكنها أيضا وضعت عليها إبتداءً مسؤولية حماية الشعب داخل حدودها. تم تطور الأمر أخيراً للوصول لنظرية واجب الحماية، ومفهومها هو أنه عندما تفشل دولة ما في حماية شعبها - سواء بسبب عدم القدرة أو عدم الرغبة - تتحول المسؤولية إلى المجتمع الدولي الأوسع. وقد أيدت اللجنة الرفيعة المستوى المعنية بالتهديدات والتحديات والتغيير، التي أنشأها الأمين العام كوفي عنان، مبدأ مسؤولية الحماية "R2P" وأكدت وجود مسؤولية دولية جماعية "تتم ممارستها من خلال السماح لمجلس الأمن بالتدخل العسكري كملاذ أخير، في حالة الإبادة الجماعية وغيرها من عمليات القتل واسعة النطاق، والتطهير العرقي والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني التي أثبتت الحكومات ذات السيادة أنها عاجزة أو غير راغبة في منعه ". الإختصاص العالمي للقضاء الوطني رغم أن ثقافة حقوق الإنسان قد قادت على الصعيد الداخلي إلى تقلص الحصانات في الدول الديمقراطية، ولكن ذلك ظل بدون أثر في الدول السلطوية حيث لم يتجاوز الأمر في أحسن حالاته بضع من نصوص قانونية غير مُفعّلة، وظل الإفلات من العقاب يمارس تحت مظلة الحصانات الإجرائية التي تغلف بها الممارسة الفعلية حصانات مطلقة. ظل القضاء الدولي حبيساً لنظرية سيادة الدولة بحيث ما زالت الدولة نفسها هي التي تحدد خضوع مسؤوليها لذلك القضاء. أي أن المسؤولين أنفسهم هم الذين يقررون ما إذا كانوا سيخضعون لذلك القضاء، وهذا هو ما قاد إلى تبنى القضاء الوطنى للدول الغربية لنظرية الإختصاص العالمي تحت تأثير فقه دولي جديد يعرف بالإختصاص العالمي Universal jurisdiction ويقوم على أساس أنه بغض النظر عما يقضى به قانون الدولة المعنية، فإن القانون الدولي لا يعترف بأية حصانة لأي شخص فيما يتعلق بالإتهام بإرتكاب إحدى تلك الجرائم، وأن الإختصاص ينعقد لقضاء أية دولة يوجد في إقليمها متهم بإرتكاب إحدى تلك الجرائم، فيجوز لها وفقاً لذلك، وربما يجب عليها أن تقبض عليه وتحاكمه، أو تسلمه لأية دولة أخرى تكون مختصة بمحاكمته. يشير تقرير منظمة العفو الدولية إلى أنه من مجموع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة و البالغ عددهم 193 عضوا تأخذ القوانين السائدة في 163 دولة منهم بنظرية الإختصاص العالمي، فتعقد لقضائها الإختصاص بمحاكمة واحدة أو أكثر من الجرائم الدولية التي تقع خارج أراضيها. تمنح هذه القوانين المحاكم الوطنية الإختصاص بالتحقيق مع ومحاكمة الأشخاص المشتبه في ارتكابهم جرائم تصل إلى انتهاكات القانون الدولي بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة ، جنسية المتهم، أو جنسية المجني عليه. ومن ضمن تلك القوانين التي تأخذ بذلك، القوانين في الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وفرنسا ونيوزيلندا. تطبيقاً لهذه النطرية امرت المحكمة في المملكة المتحدة (مجلس اللوردات) بان يتم تسليم بينوشيه الدكتاتور الشيلي الى اسبانيا لمحاكمته هناك، كما قررت أنه يمكن أيضا تقديمه للمحاكمة في بريطانيا.جراء ما إرتكب من جرائم في شيلي أثناء توليه الحكم هناك بإنقلاب عسكري دموي. ولكنه في نهاية الأمر هرب من العدالة، بقرار مثير للجدل، أصدره جاك سترو، وزير الداخلية آنذاك، قبل بموجبه إدعاء بينوشيه بأنه غير لائق طبيا للمحاكمة أما فاريادي زاردادFaryadi Zardad ، أحد لوردات الحرب الافغان، فلم يكن محظوظا كبينوشيه، ففي عام 2005 بعد أن هرب إلى لندن بجواز سفر مزيف، حوكم وأدين بجرائم متعلقة بأخذ الرهائن، وتعذيب مواطنيه في أفغانستان. وهو الآن يقضي فترتين بالسجن لمدة 20 عاما على أن يتم قضاؤهما بالتزامن. التراجع في نظرية الإختصاص العالمي ما زالت مصالح الدول تفرض أحياناً تنازلاً عن بعض المبادئ فى مقابل بعض المصالح. لما كان التعامل بين الدول يتطلب ان ينتقل ممثلو الدولة للدول الأخرى لقضاء مهام مختلفة، فإن نظرية الإختصاص العالمى أصبحت تهدد قيادات تلك الدول بإحتمال إتخاذ إجراءات القضائية ضدهم. ومن قبيل ذلك أمر القبض الذي أصدره قاضي التحقيق في لندن ضد تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية السابقة لإسرائيل، للاشتباه في ارتكابها جرائم حرب، وما أدى إليه ذلك من احتجاج الحكومة الاسرائيلية بشدة لدى الحكومة البريطانية، رغم أن الأمر في الواقع، كان لا يشكل تهديدا على الإطلاق لليفني، لأنه صدر بسبب إعتقاد خاطئ بأنها كانت في بريطانيا، وعندما تم اكتشاف الخطأ سُحِبت المذكرة فورا. نتيجة لكل ذلك فقد شهد المسرح الدولي بعض التراجع فى تلك النظرية. وقد رفضت محكمة النقض الفرنسية توجيه الإتهام ضد الرئيس الليبى معمر القذافى عن دوره فى تفجير طائرة فرنسية، و السير ضد مونيشياكا عن جرائم فى رواندا، و إن كنا نرى أن هذين الحكمين لا أثر لهما على نظرية الإختصاص العالمى لأن المحكمة سببت رفضها بأن الجرائم موضوع الدعوتين ليست ضمن الجرائم التى تمنح الإختصاص العالمى. وقد أشارت المحكمة تحديداً إلى جريمة التعذيب بإعتبارها تمنح ذلك الإختصاص. الدعوى ضد رامسفيلد أقام عدد من المحامين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، دعوى ضد السادة/ رونالد رامسفليد وزير الدفاع السابق، والبرتو جونزاليس المدعى العام، وعدد من ذوي المناصب الرفيعة في إدراة بوش، وقد تم توجيه طلب بفتح الدعوى الجنائية ضد المذكورين إلى المدعى العام الألماني، نيابة عن 11مواطن عراقي من ضحايا التعذيب في سجن أبوغريب، ومواطن سعودي محتجز في جوانتانامو، يدعي محمد القحطاني، و تقوم دعواه على أنه حرم من النوم لمدة48 يوم، ومنع من الصلاة ما لم يتعاون مع المحققين، وخضع لإعتداء جنسي قامت به جندية أمريكية . وتقول محاميته الأستاذة/ جيتا جوتيريز أن رامسفيلد وافق شخصياً على أساليب التحقيق التي إستخمدت ضد موكلها . لماذا أقيمت الدعوى خارج أمريكا؟ من الناحية العملية هناك صعوبة فى رفع الدعوى في أمريكا، إذ أن المدعى العام نفسه هو أحد المتهمين وبالتالي فإن قبول الدعوى بواسطته هو أو بواسطة مرؤوسية مستبعدة. و من الناحية القانونية، فقد تم إرتكاب تلك الجرائم إستناداً على مذكرة جوانزاليس، التى تزعم أن القاعدة وطالبان لا ينطبق عليهما أحكام إتفاقية جنيف، و التى يُعرِّف القانون الأمريكي جرائم الحرب بأنها إنتهاك لأحكامها. وفقاً لذلك فقد تم إجراء التحقيقات مع المشتبه بهم من أعضاء القاعدة وطالبان دون التقيد بقواعد معاملة الأسرى وفقاً لإتفاقيات جنيف. ورغم أن المحكمة العليا قررت فى حكمها في دعوى هامدن ، أن أحكام إتفاقية جنيف، وبالاخص الجانب الإنسانى منها ، تنطبق على كل الاشخاص المحتجزين. وكان ذلك يعني أن كل من شارك فى تلك الإنتهاكات معرض للعقاب، إلا أن صدور قانون المفوضية العسكرية لعام 2006 ، والذى إبتدع تعريفاً لجرائم الحرب فى القانون الامريكى، يختلف عن تعريفها فى أتفاقية جنيف بأثر رجعي يسري إعتباراً من 11/9 ، منح مرتكبو تلك الجرائم حصانة لدى المحاكم الامريكية، وهي الحصانة التي تمنح سبباً لقبول الإختصاص لدى المحا كم الاجنبية، وفقاً لنظرية الإختصاص العالمى. لماذا تم إختيار المانيا أصدرت ألمانيا قانوناً تبنت فيه الإختصاص العالمي فيما يتعلق بجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، عقب تصديقها على إتفاقية روما، فأصبحت بذلك مختصة بنظر أي جريمة من تلك الجرائم لا يمكن محاكمة مرتكبيها في مكان وقوعها، أو أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولما كانت الولايات المتحدة قد رفضت الإنضمام لإتفاقية روما، فإنه لا مجال لأن تقدم الدعوى عبر إجراءات المحكمة الجنائية الدولية. وقد تم إختيار ألمانيا رغم أنه سبق وأن رُفِضت دعوى مماثلة فيها فى 2004 إستناداً إلى أنه ليس هناك سبباً للإعتقاد بعدم إمكانية رفع الدعوى في أمريكا، حيث رأى المراقبون فى قرار المدعى العام آنذاك، ترضية لأمريكا بعد رفض ألمانيا إرسال قوات لمؤازرة القوات الأمريكية في العراق، خاصةً وانه صدر عشية إنعقاد مؤتمر أمني في ألمانيا، كان رامسفيلد، و الذى صرح بأنه لن يزور ألمانيا طالما ظل الطلب بإقامة الدعوى ضده قيد النظر، المتحدث الرئيسى فيه. ولكن تم إختيار ألمانيا هذه المرة بإعتبارها الأكثر قدرة نسبياً على مقاومة الضغط الأمريكى، كما وأن إستقالة رامسفيلد سترفع الحرج عن ألمانيا إذا قررت النيابة السير ضده، بعد أن فقد منصبه. بالإضافة لزوال السبب القانوني بعد صدور قانون المفوضية العسكرية لعام 2006 في أمريكا، الذى يمنع محاكمة المسئولين الأمريكييين المتورطين فى جرائم الحرب. عندما سئل السيد/ كاليك، وهو محامي ألماني يقود الفريق الذي قام بتقديم الطلب، عما إذا كان يتوقع القبض على رامسفيلد، ذكر أنه يعتقد أن الدعوى تشكل أساساً للقبض على رامسفيلد في يوم من الأيام، وعن نتيجة الدعوى قال أن رامسفيلد يجب أن يسجن في رأيه، أما ما سيتم بالفعل فهي مسألة تخمين. في 27 أبريل 2007 قررت المدعية العامة أنها لن تسير في الإجراءات بسبب أن جميع المتهمين يقيمون بصفة دائمة خارج حدود ألمانيا، وأنه ليس متوقعا أن يحضر أياً منهم لألمانيا. وكذلك لأن الضحايا لا صلة لهم بألمانيا. وهذا هو الشطب الثاني للدعوى ضد رمسفيلد. سابقة الكونغو ضد بلجيكا
و لكن أهم تراجع فى هذا الصدد تمثله دعوى الكونغو ضد بلجيكا لدى محكمة العدل الدولية، والمعروفة بإسم سابقة ندومباسى، والتى تتلخص وقائعها فى أنه عقب تعرض بلاده (الكونغو) لغزو قام به جنود روانديون من قبيلة التوتسى، ألقى السيد ندومباسى خطاباً فى أغسطس 1998 وصفهم بأنهم حشرات وجراثيم يتوجب إيجاد نظام لإبادتهم. وكما كان متوقعاً فإن ذلك الخطاب قد أدى لإثارة نعرات من الكراهية العنصرية، تمخضت عن موجة عنف ضد التوتسى الكونغوليين، فقد فيها المئات منهم أرواحهم. لما كانت بلجيكا تتبنى نظرية الإختصاص الدولي، والتى تقبل الإختصاص عن الإتهام بإرتكاب جريمة ضد الإنسانية، بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة، أو جنسية مرتكبها، فقد قبل القضاء البلجيكي الإختصاص بنظر الدعوى ضد ندومباسى بإعتبار أن ما قام به يشكل أساسا لإتهامه بإرتكاب تلك الجريمة، وقد صدر وفقا لذلك أمراً بالقبض على ندومباسى المذكور، والذى كان يتولى آنذاك منصب وزير خارجية الكونغو. قامت الكونغو بإحتجاج لدى بلجيكا، بدعوى أن منصب ندومباسى يمنحه حصانة ضد الإجراءات القضائية، إلا أن بلجيكا لم تحفل بذلك فقامت الكونغو بمقاضاتها لدى محكمة العدل الدولية. إستندت الكونغو فى دعواها إلى أن إتخاذ إجراءات قضائية فى مواجهة وزير خارجية دولة، أثناء شغله للمنصب، يعرقل تصريفه لأعباء المنصب الذى يتطلب زيارات متعددة لدول أجنبية، و أن القانون الدولى منح الحصانة لشاغلى منصبى رأس الدولة ووزير الخارجية ضد تلك الإجراءات، تمكينا لهما من أداء واجباتهما. قبلت المحكمة دعوى الكونغو وقضت لصالحها، فقررت تمتع شاغلى منصبي رأس الدولة، ووزير الخارجية، بالحصانة أثناء توليهما للمنصبين، بما يستتبع عدم جواز إتخاذ إجراءات قضائية فى مواجهتهم فى تلك الفترة، وذلك بغض النظر عما إذا كان الفعل المنسوب لأيهما يتصل بتصريفه لأعماله الرسمية، أو لا يتصل بذلك. و سواء أكان ذلك الفعل قد تم إرتكابه قبل أو أثناء شغله للمنصب، و بغض النظر عن نوع الفعل المنسوب له، ودرجة خطورته.
حدود الحصانة المقررة
قررت المحكمة فى حكمها أن الحصانة المقررة ليست حصانة مطلقة، وإنما هى مقيدة بالغرض الذى قررت من أجله، وقيدتها وفقاً لذلك من أربعة أوجه: الأول أنه لا حصانة للمسئول فى بلده الذى يجوز له محاكمته أثناء ولايته. والثانى أن تلك الحصانة مقررة لصالح الدولة، وليس المسئول، ولها وحدها التمسك بها، او التنازل عنها. والثالث أن تلك الحصانة المقررة بموجب القانون الدولى العرفى، ولا تسرى فى الإجراءات لدى المحاكم الدولية، لأنها إجراءات مقررة بموجب معاهدات دولية، وإنما تقتصر على الإجراءات المقامة أمام المحاكم الوطنية الأجنبية. والرابع أن تلك الحصانة مؤقتة بفترة شغل رأس الدولة، ووزير الخارجية للمنصب، فإذا إنتهت ولاية أي منهما إنقضت حصانته. و قد شككت منظمات حقوق الإنسان فى أهمية هذه الحدود. ونوهت إلى أن الأنظمة الدكتاتورية لن تحاكم مسؤوليها، لأنها واقعة تحت قبضتهم. كما وأن قصر الحصانة على فترة شغل المنصب، لا أثر له على الأنظمة الدكتاتورية التى يكون شغل المنصب فيها عادة مدى الحياة، وفيه تشجيع للحكام المتسلطين الضالعين فى إنتهاك حقوق الإنسان على التمسك بالسلطة حتى لا يفقدوا الحصانة. آثار سابقة ندومباسى على التشريعات الوطنية
لم تحدث هذه السابقة أثر على القوانين الوطنية للدول المختلفة، بالنظر لأن محكمة العدل الدولية يقتصر إختصاصها على الفصل فقط في النزاعات بين الدول التي تقبل إختصاصها بنظر النزاع. المحاكم الوطنية التي تطبق الإختصاص الدولي، تطبق قوانين دولها، ولا تطبق سوابق محكمة العدل الدولية ما لم تحيلها إليها القوانين التي تطبقها. لم يتم تعديل أياً من القوانين الوطنية التي تتبنى نظرية الإختصاص العالمي للتتلاءم مع حكم السابقة، ولكن ربما كان هنالك تراجع سببه مصالح الدولة في الحفاظ على علاقاتها الخارجية. في المملكة المتحدة تم تعديل أخير في القانون حيث أصبح الحصول علي موافقة مدير الإدعاءات النيابية مطلوباً قبل أصدار أمر قبض بموجب دعاوي الإختصاص العالمي التي يقيمها الأفراد. ولكنه تعديل يتصل بمصالح الدولة ولا صلة له بسابقة ندومباسى. شرح وزير العدل، آنذاك، المقصود من التعديل بأنه إتخاذ موقف متوازن يمنع الإفلات من العقاب بالنسبة للمتهمين بإرتكاب جرائم خطيرة ، في الحالات التي تكون فيها البينة المتوفرة تدعو للإعتقاد بجدية إحتمال نجاح الدعوى، مع عدم الإقلال من إمكانية بريطانيا في التوسط في النزاعات الدولية، بإتباع سياسة خارجية متزنة. وهكذا نرى أن الدافع المباشر للتعديل كان يتصل بوزيرة خارجية إسرائيل وليس بوزير خارجية الكونغو، وذلك حين كاد أمر القبض الذي أصدره قاضي التحقيق في حق الوزيرة في أن يسبب أزمة دبلوماسية بين البلدين. تطبيقات الإختصاص العالمي تعتبر أسبانيا من الدول الرائدة في مجال الإختصاص العالمي ويشهد على ذلك الحكمان المهمان اللذان صدرا بحق الأرجنتينيين أدولفو سيلينجو وكافالو بواسطة القضاء الأسباني. وقد حوكم سيلنجو ب 640 سنة سجنا فى أسبانيا، بعد إدانته عن جرائم إرتكبها فى الارجنتين فى السبعينيات من القرن الماضى، عندما كان ضابطاً فى النظام العسكري الدكتاتورى، حيث ثبت ضلوعه فيما كان يعرف برحلات الموت الجوية، والتى كان زبانية النظام يقذفون بضحاياهم فيها من الطائرة الى المحيط،، وقد إعترف سيلنجو بمشاركته فى رحلتين من هذه الرحلات. و قد تمت محاكمة سيلنجو فى أسبانيا رغم أن ما إرتكب من أفعال كان خارج أسبانيا، ولكن الحكم المكون من 200 صفحة أكد حق أسبانيا فى محاكمة الجرائم ضد الانسانية التى تقع فى أى مكان فى العالم. أما كافالو فكان يعمل عدة أعوام فى المكسيك قبل القبض عليه مشتبهاً فى قيامه بعمليات إستيراد عربات مستعملة بطريق غير مشروع. وعقب إحتجازه تقدمت السلطات الاسبانية بطلب لتسليمه لها لمحاكمته عن الجرائم التى إرتكبها بإعتباره أحد زبانية النظام العسكري فى الارجنتين، وقد قررت المحكمة الاستجابة للطلب . قامت السلطات المكسيكية بإبعاده بالفعل لاسبانيا لمحاكمته. أيدت المحكمة العليا المكسيكية حكم محكمة الموضوع بتسليم كافالو، و إن كانت قد تفادت مسألة الاختصاص العالمى، وبنت قرارها على إتفاقية تسليم المجرمين بين المكسيك وأسبانيا ،لأنه – كما ذكرت - ليس من شأنها أن تناقش القانون الاسبانى، ويكفيها أن يكون ذلك القانون يقرر إختصاص المحاكم الاسبانية بمحاكمة المتهم المعني . الحصانة والإختصاص العالمي لما كان أعضاء الإدارة الأمريكية في زمن الرئيس بوش محصنين قانوناً من المحاسبة عن ما قاموا به من جرائم حرب فإن محاولات تقديمهم للمحاكمة في الخارج لم تتوقف. في 17 ديسمبر 2014، قدم ECCHRالمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان دعوى جنائية ضد رئيس المخابرات المركزية الأمريكية السابق جورج تينيت، ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وعدد من أعضاء إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، يتهمونهم فيها بإرتكاب جريمة التعذيب المعاقب عليها بموجب الفقرة 8 من المادة 1 (3) من قانون الجرائم ضد القانون الألماني الدولي. وهي شكوى يدعمها المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالتعذيب مانفريد نواك وآخرون. وهذه هي الدعوى الجنائية الثالثة ضد رمسفيلد، والتي قد تثمر كما أثمر إصرار الضحايا في دعوى هبري. كانت أسبانيا، والتى أضحت مصيدة لزبانية الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين منذ بداية القرن الحالى، قد تقدمت بالعديد من طلبات التسليم، لمن يقبض عليهم منهم في الخارج، مما دفع البرلمان الارجنتينى الى إلغاء المادة التى تسقط جرائم التعذيب بالتقادم، والغاء القانون الذى كان يمنح زبانية النظام الدكتاتوري الحصانة، حتى يتفادى أن يحاكم الارجنتينيون فى أسبانيا. حسين هبري في قصة مليئة بالتحولات الدرامية، هرب هبري الرئيس التشادى السابق عقب سقوط نظامه الدموي إلى الكاميرون ومنها إلى السنغال، حيث حصل على حق اللجوء السياسي. كان هبري دائماً موضع إتهام بإرتكاب جرائم دولية من ضمنها مجازر جماعية للزغاوة، ومجموعات إثنية أخرى مختلفة. رفضت السنغال تسليم حسين هبري لبلجيكا لمحاكمته والتي يقبل قانونها نظرية الإختصاص العالمي. لتفادي الضغط الدولي المطالب بالتسليم عُدِّل الدستور السنغالي في عام 2008 ليمنح محاكمها الإختصاص العالمي، وبالتالي رفعت دعوى ضد حسين هبري بواسطة ضحايا التعذيب في عهده. رفضت محكمة أول درجة الإعتراض المؤسس على الحصانة مستندة لنظرية الإختصاص العالمي، ولكن المحكمة العليا السنغالية ألغت ذلك القرار، وقررت أن المتهم يتمتع بحصانة ضد المقاضاة. في 2010 قبلت السنغال إقامة محكمة خاصة مشتركة مع الإتحاد الإفريقي، ولكنها غيرت موقفها مرة أخرى بدون تفسير حين إنسجبت من المفاوضات الجارية لتعيين المحكمة في 30 مايو 2011. في يوم 30 يونيو 2013، وقد غيرت السنغال موقفها للمرة الأخيرة حين اعتقلت الشرطة السنغالية حسين هبري، وأقامت السنغال بالإشتراك مع الاتحاد الأفريقي محكمة مختلطة حيث بدات محاكمة الدكتاتور التشادي السابق حسين هبري بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والتعذيب، أمام الدائرة الأفريقية الاستثنائية في 20 يوليو الماضي. وهي المحاكمة التي دعتها صحيفة نيويورك تايمز "معلم من معالم العدالة في أفريقيا". بدأت المحاكمة، بعد 25 عاما من الإطاحة بهبري وفراره إلى السنغال، وهو الأمر الذي يعود كليا إلى مثابرة وإصرار ضحايا هبري وحلفائهم وعلى رأسهم هيومن رايتس ووتش. نبيل أديب عبدالله المحامي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة