1 نبدأ في هذه السلسلة من المقالات مناقشة الاتفاقيات التي عقدها كلُّ حزبٍ من الأحزاب الشمالية – معارضة وحكومة – مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، يعترف ويوافق فيها كل حزبٍ من هذه الأحزاب على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. ولا بُدّ في البداية من توضيح أن كاتب المقالات يؤمن إيماناً عميقاً وتاماً أن حق تقرير المصير هو حقٌ إنساني وقانوني وديمقراطي للشعوب. عليه فإن الغرض من هذه المقالات ليس نقد الأحزاب لموافقتها على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. لكن الغرض التذكير أن الأحزاب الشمالية جميعها كانت قد رفضتْ بغطرسةٍ وعناد، وباستمرار، طلب الأحزاب الجنوبية للنظام الفيدرالي. حدث هذا في خمسينيات القرن الماضي عندما أعلنت هذه الأحزاب أنها أعطت مقترح النظام الفيدرالي لجنوب السودان الاعتبار الكافي وقرّرتْ أنه لن يكون مفيداً للسودان. ثم تكرّر نفس المشهد مرّةً ثانية عندما رفضت نفس الأحزاب، وبقياداتها الحالية خلال مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، مطلب السياسيين الجنوبيين للنظام الفيدرالي. ثم بذلت الأحزاب الإسلامية الثلاثة (الأمة، والاتحادي الديمقراطي، والجبهة القومية الإسلامية) بعد مصالحتها للرئيس نميري عام 1977 كلَّ ما في وسعها لإجهاض اتفاقية الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان، وتحقّق لها ذلك عام 1983. عليه فلا بُدّ من السؤال: لماذا وافقت الأحزاب الشمالية على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بعد أن رفضت بعنادٍ وغطرسة حتى مطلب النظام الفيدرالي لجنوب السودان على مدى أربعين عاماً؟ سوف نردُّ على هذا التساؤل بعد الفراغ من عرض ونقاش اتفاقيات كلٍ من هذه الأحزاب مع الحركة الشعبية، تعترف وتوافق في هذه الاتفاقيات على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. 2 نبدأ هذه المقالات بالحزب الاتحادي الديمقراطي، ثم سننتقل لحزب الأمة، ثم الحزب الشيوعي، ثم الحركة الإسلامية (بمسمياتها المختلفة منذ عام 1964). وقد قرّرنا البدء بالحزب الاتحادي الديمقراطي لأن بعض قياداته ادّعت خلال تدشين كتابنا "انفصال جنوب السودان" في الخرطوم أن الحزب الاتحادي الديمقراطي ليس طرفاً في أيّة اتفاقية تعترف بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وعندما عرضنا عليهم مقررات أسمرا وعليها توقيع الحزب، ادعى أحد قيادات الحزب أن التوقيع مزوّر! سوف نكشف في هذا المقال مجموعةَ حقائقٍ منها: أولاً: إن موافقة الحزب الاتحادي الديمقراطي على مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان قد شملتها عدّة وثائق، وإن وثيقة أسمرا هي واحدةٌ فقط من عدّة محطاتٍ وافق فيها الحزب ووقّع على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. ثانياً: إن الحزبَ الاتحادي الديمقراطي هو في حقيقة الأمر أولُ حزبٍ شماليٍ معارض يعترف للحركة الشعبية الأم بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. ثالثاُ: ترأّس زعيم الحزب عدّة اجتماعات للتجمع الوطني الديمقراطي وافق وأثنى خلالها المجتمعون على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وطالبوا حكومة الإنقاذ بعدم التنصّل من اتفاقياتها بهذا الحق لشعب جنوب السودان. وقد فصّلنا هذه المسائل الثلاثة في كتابنا "انفصال جنوب السودان"، وسنتناولهما بإيجازٍ في هذا المقال. 3 تبنّت الحركةُ الشعبية لتحرير السودان حقَّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان خلال مؤتمر توريت في شهر سبتمبر عام 1991، بعد أقل من أربعة أشهر من سقوط نظام منقيستو هايلي ماريام ودخول الثوار أديس أبابا في شهر مايو عام 1991. فتح سقوطُ نظام منقيستو البابَ للحركة الشعبية للتراجع عن مبدأ السودان الجديد الذي كان ركيزة مانيفستو الحركة منذ صدوره عام 1983. فلم يكن مُمْكِناً لإثيوبيا التي كانت تحارب إريتريا المُطالِبة بالانفصال تقديمَ كل ذلك العون العسكري والمادي، وفتح أراضيها للحركة الشعبية إن طالبت الحركةُ أيضاً بالانفصال أو حق تقرير المصير. وقد سبق الحركةَ الشعبية في تبنّي حق تقرير المصير الفصيلُ المتّحد الذي انشقَّ عن الحركة الشعبية الأم في شهر أغسطس عام 1991 بقيادة الدكتور لام أكول، وكان عاملاً آخر في دفع الحركة الشعبية الأم في اتجاه تبنّي المطالبة بحق تقرير المصير أيضاً. 4 سارعت حكومة الإنقاذ بقبول حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان حال تبنيه بواسطة الحركة الشعبية الأم والفصيل المتحد المنشق عنها. فقد وقّع الدكتور علي الحاج في 25 يناير عام 1992 مع الدكتور لام أكول على إعلان فرانكفورت الذي تضمّن لأوّل مرة في تاريخ السودان حق تقرير المصير من حكومة السودان لشعب جنوب السودان. تمّ التوقيع على إعلان فرانكفورت بعد خمسة أشهر فقط من تبنّي الحركة الشعبية الأم حق تقرير المصير. سوف نناقش إعلان فرانكفورت في مقالٍ منفصل، ونردَّ فيه على ادعاء البعض أن الإعلان لم يتضمّن حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. بعد أشهرٍ من طلب حكومة الإنقاذ وساطة منظمة الإيقاد، صدرت في شهر يوليو عام 1994 مبادئ الإيقاد للسلام في السودان. وقد تضمّنت تلك المبادئ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وعلمانية الدولة السودانية. وقد رفضت الحكومة السودانية في شهر سبتمبر عام 1994 مبادئ الإيقاد رغم توقيعها إعلان فرانكفورت وطلبها وساطة الإيقاد. لكنها عادت وقبلت مبادئ الإيقاد عام 1997. 5 اختطفت الحركة الشعبية الأم مبادئ الإيقاد لأنها لم تكن تريد إعطاء شرف انتزاع حق تقرير المصير في فرانكفورت للدكتور لام أكول وفصيله المنشق الوليد. واستغلّت الحركة تلك المبادئ لبدء برنامجٍ ذكيٍ ومتكاملٍ لانتزاع حق تقرير المصير من الأحزاب الشمالية المعارضة المنضوية تحت مظلّة التجمع الوطني الديمقراطي. 6 اختارت الحركةُ الشعبية الحزبَ الاتحادي الديمقراطي لضربة البداية في محاولة انتزاع حق تقرير المصير من أحزاب المعارضة الشمالية. فالعلاقة الوطيدة بين قيادة التنظيمين تعود إلى نوفمبر عام 1988 عندما وقّع السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق على اتفاقية السلام السودانية (اتفاق الميرغني قرنق). وقد نشأت علاقةٌ خاصة بينهما إثر تلك الاتفاقية وتواصلت خلال الأشهر المتبقّية من فترة الحكم المدني الثالثة حتى انقلاب 30 يونيو عام 1989. وتوطّدت تلك العلاقة عندما أكّدت الحركة عضويتها في التجمّع الوطني الديمقراطي عام 1991، وعندما اختار التجمّعُ السيدَ محمد عثمان الميرغني رئيساً للتجمع، والدكتور جون قرنق نائباً له عام 1995، كما سنناقش لاحقاً. 7 تمّ في يوليو عام 1994 عقد اجتماعٍ مشترك بين قيادات من التنظيمين في القاهرة، وصدر في 13 يوليو من ذاك العام ما سُمّي بـ "إعلان مشترك بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان" (وعُرِف بإعلان القاهرة). وقد أوضح الإعلان أن الاجتماع تمّ بناءً على دعوةٍ تلقّتها الحركة الشعبية من السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي بغرض مواصلة التشاور بينهما. ثمّن الإعلان جهود الجانبين للوصول إلى حلٍّ سلمي ودائم لمشاكل السودان، يحفظ للوطن استقلاله ووحدته التي تجسّدت في مبادرة السلام السودانية. وأشاد الجانبان بالجهود التي بُذِلتْ في أبوجا ونيروبي وبواسطة دول الإيقاد. أوضح الإعلان بعد ذلك مبادئ عامة اتفق عليها الطرفان، منها وحدة السودان على أسسٍ صحيحة في التركيبة السياسية والدستورية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية. تضمّنت المبادئ التي أشار إليها إعلان القاهرة أيضاً أن السودان قطرٌ متعدّد الديانات والأعراق والثقافات، ولا بُدَّ من تأكيد الاعتراف بهذا التعدّد والعمل على التوفيق بين مظاهر هذا التنوّع والتعدّد من خلال كفالة حق التعبير لتأكيد وحدة الأمة السودانية بتركيبتها المتميّزة. أشار الاعلان إلى ضرورة تطبيق نظام الحكم اللامركزي أو أي نوعٍ من أنواع الحكم الذاتي لأقاليم السودان المختلفة، والقسمة العادلة للثروة، مع إعطاء الأولوية للمناطق الأكثر تضرّراً وتخلّفاً. وشدّد الإعلان أنه في حالة الإخلال أو العدول عن أيٍّ من هذه المبادئ الأساسية فسيكون للطرف أو الأطراف المتضررة الحق في تقرير مصيرها، وذلك عن طريق استفتاء للطرف المعني، ويجب الالتزام بنتيجة الاستفتاء. غير أن هذه اللغة الملتوية في مسألة تقرير المصير صارت أكثر وضوحاً عندما أكّد الإعلان اتفاق الطرفين على أن مشروع إعلان المبادئ المقدّم من دول الإيقاد يُعتبر خطوةً إيجابية تُعبّر عن اهتمام دول الجوار، بمشاكل السودان، وأيداه بشرط أن تكون الأولويّة لوحدة السودان. ولا بدّ من التذكير هنا أن مبادئ الإيقاد ركّزت على مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وعلمانية الدولة السودانية. وقّع على "إعلان القاهرة" الدكتور أحمد السيد حمد عن الحزب الاتحادي الديمقراطي، والقائد يوسف كوه مكي رئيس المؤتمر القومي للحركة الشعبية لتحرير السودان يوم 13 يوليو عام 1994. وقد ناشد البيان في خاتمته جميع قوى التجمّع الوطني الديمقراطي، وكافة أهل السودان، الالتفاف حول المبادئ التي تضمّنها اعلان القاهرة. وهكذا انتزعت الحركة الشعبية أوّلَ اعترافٍ بحق تقرير المصير من حزبٍ شماليٍ معارض في 13 يوليو عام 1994. 8 بعد خمسة أشهر من إعلان القاهرة مع الحزب الاتحادي الديمقراطي نجحت الحركة الشعبية في انتزاع حق تقرير المصير من حزب الأمة. فقد زار وفدٌ من حزب الأمة مدينة شقدوم بجنوب السودان التي كانت تحت سيطرة الحركة الشعبية في ذاك الوقت. التقى وفدُ حزب الأمة والذي ضمّ السيد عمر نور الدائم الأمين العام لحزب الأمة، والسيد مبارك الفاضل المهدي، رئيس قسم العلاقات الخارجية بالحزب، وفدَ الحركة الشعبية هناك بقيادة السيد سلفا كير نائب رئيس الحركة الشعبية. بعد أيامٍ من النقاش (والإقامة على ضيافة الحركة الشعبية) وقّع الطرفان في 12 ديسمبر عام 1994 على ما سمياه "اتفاق سياسى بين حزب الأمة والحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان حول ترتيبات الفترة الانتقالية وتقرير المصير،" وهو ما عُرِف "باتفاق شقدوم." أكّد الطرفان التزامهما بالسلام العادل، والديمقراطية، والوحدة الوطنية القائمة على إرادة الشعب السوداني الحرة، وعزم الطرفين على إنهاء النزاع الحالي بوسائل سلمية تحقّق اتفاقا دائماً وعادلاً. وفى سبيل ذلك الاتفاق أعلن الطرفان قبولهما لإعلان المبادئ الصادر من دول الإيقاد كأساسٍ مقبولٍ للسلام العادل الدائم، كما أكّدا أيضاً قبولهما لحق تقرير المصير لسكان جنوب السودان، على أن يُمارس ذلك الحق عن طريق استفتاءٍ حر تراقبه الأسرة الدولية قبل نهاية فترة انتقالية. واتفقا على أن تكون مدة الفترة الانتقالية بين عامين إلى أربعة أعوام، يُحكم السودان خلالها بعلاقة كونفيدرالية مع الجنوب. وهكذا نجحت الحركة الشعبية في انتزاع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان من الحزبين الكبيرين، كل حزبٍ على حدة. 9 كانت الخطوة التالية للحركة الشعبية هي تضمين حق تقرير المصير في وثيقةٍ قانونيةٍ واحدة تجمع حزبي الاتحادي الديمقراطي والأمة. وقد حدث ذلك بعد أسبوعين فقط من اتفاقية شقدوم. فقد تمّ عقد اجتماع لما سُمّي بقوى المعارضة السودانية الرئيسية يوم 27 ديسمبر عام 1994 في أسمرا في دولة إريتريا. وقد شارك في ذلك الاجتماع السيد محمد عثمان الميرغني، والدكتور جون قرنق، والدكتور عمر نور الدائم، والعميد عبد العزيز خالد قائد قوات التحالف السودانية. أصدر المجتمعون الأربعة ووقّعوا في 27 ديسمبر عام 1994 على بيانٍ أسموه "إعلان اتفاق سياسي." أكّدت الأطراف الأربعة أن وحدة السودان تظلُّ هي الخيار الأول الذي يؤمن به الجميع، وذلك وفقاً لمجموعة من المبادئ، شملت حقيقة أن السودان قطرٌ متعدّد الأعراق والديانات والثقافات، ولا بُدّ من تأكيد الاعتراف بهذا التعدّد والعمل على التوفيق بين مظاهر هذا التنّوع والتعدّد بتأسيس الدولة القائمة على المواطنة واحترام المعتقدات والتقاليد، وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة، شملت الاتفاقية نصَّاً واضحاً وافقت بمقتضاه الأطراف الأربعة على حق تقرير المصير لجنوب السودان، على أن يُمارس بعد فترة انتقالية يُتفق عليها في مؤتمر المعارضة السودانية الموسّع، كما التزمت الأطراف بالعمل سويّاً لبناء جسور الثقة خلال المرحلة الانتقالية، وبناء السودان الجديد بتنفيذ الاتفاقيات أعلاه حتى يأتي خيار تقرير المصير تعزيزاً لوحدة السودان الجديد الموحّد، بناءً على تراضي سكانه. ويتم الاتفاق على حكم السودان في الفترة الانتقالية كدولة موحّدة لامركزية. أشادت الاتفاقية بجهود دول الإيقاد لوقف الحرب وإحلال السلام والاستقرار والديمقراطية في السودان، وأعلنت الأطراف الأربعة تأييدها ومساندتها الكاملة لإعلان مبادئ دول الإيقاد الصادر في نيروبي في 20 يوليو عام 1994. وقد وقّع على الاتفاق السيد محمد عثمان الميرغني، والدكتور جون قرنق، والدكتور عمر نور الدائم، والعميد عبد العزيز خالد. من المؤكد أن هذه نقلةٌ نوعيةٌ كبيرة من اتفاق القاهرة الذي وقّع عليه الدكتور أحمد السيد حمد، والسيد يوسف كوه مكي، رغم وجود السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق في اللقاء الذي تمّ فيه التوقيع على الاتفاق. وهو أيضاً نقلة نوعية من اتفاق شقدوم الذي وقّع عليه السيد سلفا كير، النائب لدكتور جون قرنق. كما أن الوثيقة التي تمّ التوقيع عليها كانت واضحةً في مسألة حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وشهد فيها كل حزبٍ من الحزبين الكبيرين على موافقة الحزب الآخر. 10 صارت الخطوةُ المُتبقّيةُ للحركة الشعبية، بعد هذا الاتفاق، هي تأكيد حق تقرير المصير بواسطة اجتماعٍ عام للتجمع الوطني الديمقراطي بكل أحزابه وتنظيماته. ولكن كان واضحاً أنه بعد موافقة الحزبين الكبيرين، واللذين عارضا بشدّة هذا الحق في الماضي، (بل عارضا حتى مطلب النظام الفيدرالي، والحكم الإقليمي الذاتي)، فإن مسألة موافقة جميع أحزاب وتنظيمات التجمّع الوطني الديمقراطي على حق تقرير المصير أصبحت إجرائيةً، ومسألةَ وقت، لا أكثر ولا أقل. بعد ستة أشهرٍ فقط من اتفاق القوى الرئيسية السودانية، عقدت أحزاب ومنظمات التجمّع الوطني الديمقراطي مؤتمراً أسمته "مؤتمر القضايا المصيرية" بمدينة أسمرا في الفترة من 15 وحتى 23 يونيو عام 1995. وقد شاركت في المؤتمر قيادات سياسية وعسكرية ونقابية تمثّل الحزب الاتحادي الديمقراطي، حزب الأمة، الحركة الشعبية لتحرير السودان، تجمّع الأحزاب الأفريقية السودانية، الحزب الشيوعي السوداني، النقابات، القيادة الشرعية للقوات المسلحة، مؤتمر البجا، قوات التحالف السودانية، وشخصيات وطنية مستقلة شمالية وجنوبية. ومن الواضح أن ذلك الاجتماع كان أكبرَ حشدٍ للأحزاب والتنظيمات السودانية المعارضة. تداول المؤتمرون في عدّة قضايا، شملت إيقاف الحرب وإحلال السلام في السودان، حق تقرير المصير، علاقة الدين بالسياسة، شكل الحكم خلال الفترة الانتقالية، برامج وآليات تصعيد النضال من أجل إسقاط نظام الجبهة القومية الإسلامية، ترتيبات ومهام الفترة الانتقالية، مقوّمات سودان المستقبل، هيكلة التجمّع الوطني الديمقراطي، والقضايا الإنسانية. اتخذت أحزاب وتنظيمات التجمّع الوطني الديمقراطي عدّة قرارات خلال مؤتمر القضايا المصيرية تمّ تضمينها في بيانٍ أطلق عليه "إعلان أسمرا" الذي صدر في اليوم الختامي للمؤتمر في 23 يونيو عام 1995. كان أول وأهم القرارات التي وردت في إعلان أسمرا هو ذلك المتعلّق بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد تضمّن الإعلان عدّة فقراتٍ عن تقرير المصير، منها أن حق تقرير المصير حقٌّ إنسانيٌ ديمقراطيٌ أساسيٌ للشعوب، يحقّ لأيِّ شعبٍ ممارسته في أيِّ وقت. وأقرّ الإعلان بأن ممارسة حق تقرير المصير توفّر حلاً لقضية إنهاء الحرب الأهلية وتُيسّر استعادة الديمقراطية وتعزيزها. وأكّد الإعلان أن شعب جنوب السودان سيمارس حقه في تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية، وأن الخيارات التي ستُطرح للاستفتاء في الجنوب هي الوحدة (بما في ذلك الكونفيدرالية والفيدرالية) والاستقلال. وأشار الإعلان بأن ممارسة حق تقرير المصير بجانب كونه حقاً ديمقراطياً وإنسانياً أصيلاً للشعوب، فإنه أيضاً أداة لوضع نهاية فورية للحرب الأهلية ولإتاحة فرصة فريدة وتاريخية لبناء سودانٍ جديد قائمٍ على العدالة والديمقراطية والاختيار الحر. وكأن هذه الفقرات لا تكفي، فقد أضاف الإعلان التزام التجمّع الوطني الديمقراطي بدعم إعلان المبادئ الصادر عن مجموعة الإيقاد كأساسٍ عمليٍ للتسوية العادلة والدائمة. ولا بُدَّ من التذكير أن مبادئ الإيقاد تشمل حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وعلمانية الدولة السودانية. 11 لم يُوقّع الحزب الاتحادي الديمقراطي على الوثيقة الأولى للمؤتمر لأن مندوبيه غادروا قبل نهاية الجلسة .لكنَّ الحزب عاد ووقّع على صفحةٍ منفصلة لا تشمل توقيعات الآخرين. غير أن الحركة الشعبية تنبّهتْ لهذا الخلل وأعادتْ التوقيع على وثيقة واحدة شملت توقيعات كل الأحزاب والمنظمات التي شاركت في اجتماع أسمرا، شاملةً الحزب الاتحادي الديمقراطي. عليه فإن الادعاء أن الحزب الاتحادي الديمقراطي لم يوقّع على مقررات أسمرا ليس صحيحاً. 12 وهكذا صارت مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية هي المحطة الثالثة التي يوافق ويوقّع فيها الحزب الاتحادي الديمقراطي على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد تمّ انتخاب السيد محمد عثمان الميرغني رئيساً للتجمع الوطني الديمقراطي، والدكتور جون قرنق نائباً له. وأقرّ اجتماع أسمرا برنامج العمل للمرحلة المقبلة والذي ارتكز على الترويج لحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، والعمل على تفعيله، تحت إشراف الرئيس ونائبه، وبذل كل الجهود ليكون خيار الوحدة جاذباً لأبناء وبنات الجنوب. 13 في 20 يوليو عام 2002 تمَّ التوقيع على بروتوكول مشاكوس بين الحركة الشعبية الأم وحكومة الإنقاذ. وقد انبنى بروتوكول مشاكوس على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بعد فترة انتقالية مدتها ستة أعوام. في 7 أغسطس عام 2002، أي بعد حوالي الأسبوعين من التوقيع على بروتوكول مشاكوس، اجتمعت هيئة قيادة التجمّع الوطني الديمقراطي في أسمرا برئاسة السيد محمد عثمان الميرغني، وشملت ممثلين لكل الأحزاب والتنظيمات المنضوية تحت لواء التجمع. وقد أعلنت هيئة القيادة تأييدها التام لبروتوكول مشاكوس، وأكّدت أن حق تقرير المصير هو حقٌ إنسانيٌ، وأشارت إلى رفضها التام لأية محاولة للتنصّل عنه مستقبلاً بواسطة حكومة الإنقاذ. ومن الضروري أن تشير رئاسةُ السيد محمد عثمان الميرغني للتجمع الوطني الديمقراطي، ولذلك الاجتماع، إلى إعادة تأكيد وقوف الحزب الاتحادي الديمقراطي ورئيسه مع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. 14 بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير عام 2005 بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية، سارعتْ قيادات التجمع الوطني الديمقراطي في مفاوضاتها مع حكومة الإنقاذ بغرض اللحاق بركب السلام، والعودة للخرطوم، والمشاركة في السلطة. وقد وقّع السيد محمد عثمان الميرغني، والسيد علي عثمان محمد طه، والدكتور جون قرنق على اتفاقية القاهرة في 20 يونيو عام 2005. وقد أشارت اتفاقية القاهرة إلى اتفاقية السلام الشامل كمرجعيةٍ أساسيةٍ للتفاوض، وكوثيقةٍ أساسيةٍ للفترة الانتقالية التي تنتهي باستفتاء جنوب السودان بشأن تقرير المصير. بل إن اتفاقية القاهرة كانت في الأساس إعادةً لتعبئة اتفاقية السلام الشامل. وهكذا أكّدت اتفاقية القاهرة الاتفاقيات السابقة التي وقّعها الحزب الاتحادي الديمقراطي بشأن قبوله غير المشروط لحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وقادت الاتفاقيةُ لعودةِ قياداتِ الحزب الاتحادي الديمقراطي للخرطوم عام 2005، ومشاركتها في الحكومة الانتقالية، وفي التحضير لاستفتاء جنوب السودان الذي قاد للانفصال. 15 يوضح السرد أعلاه أن الحزب الاتحادي الديمقراطي قد وقّع على أربع وثائق تؤكّد حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان (القاهرة يوليو 1994، أسمرا ديسمبر 1994، أسمرا يونيو 1995، ثم القاهرة يونيو 2005). وقد وقّع على هذه الوثائق الدكتور أحمد السيد حمد والسيد محمد عثمان الميرغني بنفسيهما. كما شارك السيد محمد عثمان الميرغني، بعد تعيينه رئيساً للتجمع، في إقرار برنامج العمل لمرحلة ما بعد أسمرا، والذي ارتكز على الترويج لحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، والعمل على تفعيله. وترأس السيد محمد عثمان الميرغني في 7 أغسطس عام 2002، أي بعد حوالي الأسبوعين من التوقيع على بروتوكول مشاكوس، اجتماع هيئة القيادة للتجمّع الوطني الديمقراطي في أسمرا والذي شمل كل الأحزاب والتنظيمات المنضوية تحت لواء التجمع. وقد أعلنت هيئة القيادة تأييدها التام لبروتوكول مشاكوس، وأكّدت أن حق تقرير المصير هو حقٌ إنساني، وأعلنت رفضها التام لأية محاولة للتنصّل عنه مستقبلاً. ثم وقّع السيد محمد عثمان الميرغني في يونيو عام 2005 على اتفاقية القاهرة والتي كانت تكراراً في معظم بنودها لاتفاقية السلام الشامل. 16 عليه فإن الادعاء أن الحزب الاتحادي الديمقراطي ليس طرفاً في أيّة اتفاقية بشأن حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، أو أن توقيع الدكتور أحمد السيد حمد على مقررات أسمرا توقيعٌ مزور، هو ادعاءٌ غير صحيح. ويعكس هذا الادعاء عدم الإلمام بالتزامات واتفاقيات الحزب خلال فترة العمل المعارض من الخارج. كما يعكس غياب التقصّي والبحث الجاد في قضايا وطنية جوهرية وأساسية مثل قضية انفصال جنوب السودان. 17 سوف ننتقل في المقال القادم إلى موقف حزب الأمة من مسألة حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، ونناقش الاتفاقيات التي وقّعها الحزب في هذا المجال. وسوف نناقش في المقال الثالث موافقة الحزب الشيوعي السوداني على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وسنختتم هذه السلسلة من المقالات بمناقشة اتفاقيات الحركة الإسلامية مع الحركات المنشقّة من الحركة الشعبية، ثم مع الحركة الشعبية الأم، توافق فيها على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة