1 تتناولُ هذه السلسلةُ من المقالات موافقةَ الأحزابِ السودانية الشمالية على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. كان المقالُ الأول عن اتفاقيات الحزب الاتحادي الديمقراطي الأربعة، بينما تعرّض المقال الثاني لاتفاقيات حزب الأمة الخمسة، والتي أيّدَ فيها كلٌ من الحزبين حق تقرير المصير. وقد تناول المقالُ السابق، وهو المقال الثالث في هذه السلسلة، دورَ الحزبِ الشيوعي العملي في قضية الجنوب. وقد أوضح ذلك المقال أن موقف الحزب من قضية الجنوب خلال مؤتمر المائدة المستديرة، وبعد انتخابات عام 1965، لم يكن يختلف البتّة عن موقف الأحزاب الشمالية الأخرى من أنها قضية تمرّدٍ وخروجٍ على القانون والنظام، ويجب التعامل معها بالحسم العسكري. وقد كان المحاربون الجنوبيون بالنسبة لكل الأحزاب الشمالية، بما فيهم الحزب الشيوعي، مجموعةً من الخونة والخوارج والمتمردين والإرهابيين والعصابات المسلحة. بل إن الحزب الشيوعي انسحب من لجنة الاثني عشر، وقرّر "مقاطعة اجتماعات لجنة الاثني عشر وتجميد قرارات مؤتمر المائدة المستديرة ما لم يستتب الأمن بالجنوب." كما أن الحزب الشيوعي السوداني وقفَ خلال مؤتمر المائدة المستديرة إلى جانب الأحزاب الشمالية الأخرى في رفضه التام للنظام الفيدرالي. ورغم تقديم الحزب لمقترح الحكم الذاتي للجنوب، إلا أن المقترح لم يتضمّن أيّة تفاصيل، ولم ييذل الحزب الشيوعي نفسه أيَّ جهدٍ في توضيح ودفع مقترحه. وقد ظلّت قضية الجنوب في رأي الحزب الشيوعي هي قضية الاستعمار وصنائعه، وأن الطريق يتمثل في "تطبيق حلٍ ديمقراطي .... يحفظ للوطن وحدته ويسد الطريق أمام الدسائس والمؤمرات الاستعمارية." نواصل في هذا المقال مناقشة موقف الحزب الشيوعي من قضية الجنوب، وموافقته اللاحقة على حقِّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان مع بقية الأحزاب الشمالية، رغم هذه الخلفية والتحفّطات. 2 كما أوضحنا في المقال السابق، فإن جذور فكرة الحكم الذاتي للجنوب والتي اقترحها الحزب الشيوعي أثناء مؤتمر المائدة المستديرة تعود إلى مقترح الحكم الداخلي للجنوب. فقد ورد في كتاب ثورة شعب، كما ذكرنا في المقال السابق، أن برنامج الحزب الشيوعي للحلِّ الواقعي لقضية الجنوب هو: "إعطاء المديريات الجنوبية الثلاثة حكماً داخلياً مؤسساً على مجلسٍ تمثيليٍ لكل القبائل بنسبة عددها لتنظيم شئونها الداخلية مع وجود تمثيل ديمقراطي لها في المجلس النيابي المركزي والحكومة المركزية ومساعدتها مساعدة فعالة من الخزينة العامة ورفع مستوى معيشتها" (ثورة شعب، صفحة 302). 3 برزت فكرة الحكم الذاتي لجنوب السودان مرةً ثانية بعد أسبوعين من انقلاب 25 مايو عام 1969، والذي كان الحزب الشيوعي السوداني طرفاً فيه. لم يشمل مجلس قيادة انقلاب 25 مايو 1969، مثله مثل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي استولى على السلطة في 17 نوفمبر عام 1958، أيّاً من أبناء الجنوب. وقد تشكّل مجلس الوزراء، والذي كان غالبيته من المدنيين، برئاسة السيد بابكر عوض الله، وشمل اثنين من أبناء الجنوب – السيدين أبيل ألير لوزارة الإسكان، وجوزيف قرنق لوزارة التموين. عمل السيد أبيل ألير قاضياً، واستقال من الهيئة القضائية عام 1965 ليتمكّن من الانضمام لوفد جبهة الجنوب في مؤتمر المائدة المستديرة في مارس عام 1965. أما السيد جوزيف قرنق فقد كان أيضاً قانونياً، ولكنه عمل بالمحاماة. وقد كان عضواً بالحزب الشيوعي السوداني، وفاز في دوائر الخريجين في انتخابات عام 1965. وطُرِد من الجمعية التأسيسية عندما اتخذت الجمعيةُ قرارَ حلِّ الحزب الشيوعي وإسقاط عضوية نوابه الثمانية. 4 كان واضحاً أن قضية الجنوب قد احتلتْ قائمةَ اهتمامات الحكومة الجديدة. فقد أشار العقيد جعفر نميري في بيانه الأول إلى هذه المشكلة، وإلى الحرب المتواصلة والمتصاعدة في الجنوب، وضرورة إيقافها وإحلال السلام من خلال التفاوض. في يوم 9 يونيو عام 1969، أي بعد أسبوعين من الانقلاب، أصدرت الحكومة بياناً عن سياستها في الجنوب أُطلِق عليه "بيان 9 يونيو." أوضح البيان أن ثورة مايو هي امتدادٌ لثورة أكتوبر في تقدميّة مبادئها، وفي عزمها على حلِّ مشكلة الجنوب سلمياً. وضع البيانُ مسئوليةَ مشكلة الجنوب على الاستعمار البريطاني الذي عزل الجنوب عن الشمال، وعلى الأحزاب السياسية الرجعية التي لم تتعامل مع المشكلة بجدّية، وعلى السياسيين الجنوبيين الذين تحالفوا معها. اعترف البيان بالتباينات التاريخية والثقافية بين طرفي البلاد، وبحقّ الجنوبيين في تنمية عاداتهم وتقاليدهم داخل إطار السودان الموحّد. أشار البيان إلى ضرورة الاعتراف بحق الجنوب في الحكم الذاتي في إطار السودان الموحّد. تضمّن البيانُ برنامجَ عملٍ لتطبيق الحكم الذاتي اشتمل على عفوٍ كاملٍ عن كلِّ المشتركين في النزاع منذ عام 1955، ووضعِ خطةِ تنميةٍ اقتصادية واجتماعية وثقافية للجنوب، وتعيين وزيرٍ لشئون الجنوب، ومجلس تخطيط لتنمية الجنوب، وتحديد ميزانية خاصة لهذا الغرض، وتدريب أبناء الجنوب للمشاركة في الحكم الذاتي. نادى البيان في ختامه الجنوبيين بإلقاء السلاح والعودة إلى السودان للانضمام إلى عملية السلام. كان البيان مليئاً بالشعارات اليسارية الثورية، ولكنه كان شجاعاً في الاعتراف بالتباينات الثقافية والعرقية والدينية والتاريخية والاقتصادية، وضرورة حل المشكلة بالحوار. لم يشتمل البيان على عبارات متمردين أو إرهابيين أو خوارج أو خونة، وهي الصفات التي أطلقتها الحكومات السابقة على المحاربين الجنوبيين. وكان مثار الدهشة أن تتحدّث حكومةٌ عسكريةٌ عن حلٍ سلميٍ لمشكلة الجنوب مقارنةً بحكومات العهد المدني الثاني التي قادها السيد محمد أحمد محجوب والسيد الصادق المهدي، والتي اعتمدت الحلَّ العسكري لمشكلة الجنوب. 5 تمّ اتباع البيان بخطواتٍ عملية تضمّنت إنشاء وزارةٍ لشئون الجنوب، وتعيين السيد جوزيف قرنق وزيراً لها. ولا بُدّ من التذكير أن الحزب الليبرالي الجنوبي كان قد طالب بإنشاء هذه الوزارة عام 1954، ولكنّ حكومات العهد المدني الأول والحكومات اللاحقة رفضت هذا الطلب. بدأت بعد ذلك اتصالاتٌ سِرّية بين الحكومة والقيادات السياسية للجنوبيين المرتبطة بالأنيانيا والتي أعادت تنظيم نفسها في حركة تحرير جنوب السودان. وتحوّلت تلك الاجتماعات إلى مفاوضات بين الاثنين في أديس أبابا في بداية فبراير عام 1972. قاد وفد السودان لهذه المفاوضات السيد أبيل ألير، وقاد وفد حركة تحرير جنوب السودان السيد أزبوني منديري. وقد قامت الحكومة الإثيوبية ومجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي بدور الوسيط في هذه المفاوضات، ولعبوا دوراً إيجابياً أدّى إلى توقيع اتفاقية أديس أبابا في 27 فبراير عام 1972. وقد تمّت إجازة قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي (المكوّن الأساسي للاتفاقية) في 3 مارس عام 1972، ودخلت الاتفاقية حيز النفاذ في ذلك اليوم. وهكذا بعد قرابة ثلاثة أعوام من صدور بيان 9 يونيو عام 1969 تمّ التوصل لاتفاقٍ بين شمال السودان وجنوبه، وعاد السلام إلى جنوب السودان بعد 17 عامٍ من الحرب والموت والدمار. وقد انبنت اتفاقية أديس أبابا على مبدأ الحكم الإقليمي الذاتي لجنوب السودان والذي كان الحزب الشيوعي السوداني قد اقترحه في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965. 6 لكنَّ الخارطةَ السياسية والدستورية في السودان كانت قد تغيّرت بصورةٍ جذرية خلال الأعوام الثلاثة تلك. ففي يوليو عام 1971 جرتْ محاولة انقلاب قادها الحزب الشيوعي السوداني، وذلك نتيجة الخلافات بين الحزب وقادة انقلاب 25 مايو حول ثوريّة النظام وبرامجه. وقد فشلت المحاولة وتمّ القبض على قادتها، وقامت الحكومة بعد ذلك بإعدامات قادة المحاولة من عسكريين ومدنيين. وتمّت تصفية الخدمة المدنية والمؤسسات الأكاديمية من الأشخاص الذين اشتبه النظام في عضويتهم أو علاقتهم أو تعاطفهم مع الحزب الشيوعي، وامتلأت بهم السجون. عليه فقد واصلت حكومة نميري السير في طريق نظام الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان، رغم أن الحزب والأفراد الذين دفعوا بذاك المقترح لم يعودوا أطرافاً في نظام نميري. 7 لكنّ اتفاقية أديس أبابا انهارت، وانهار معها مبدأ الحكم الذاتي، بعد أن مزق الرئيس نميري الاتفاقية بتدخّلِه السافر في إدارة الجنوب، وفي تعيينات وعزل قيادات العمل السياسي هناك، على الرغم من نصوص اتفاقية أديس أبابا والتي أوضحت الإجراءت الخاصة بتلك التعيينات والعزل ودور المركز فيها. ثم أعلن الرئيس نميري قراره بتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم دون التقيّد بالإجراءات المنصوص عليها في اتفاقية أديس أبابا لاتخاذ هذا القرار. وتبع ذلك بإعلان قوانين سبتمبر عام 1983. نتج عن تلك الخروقات ميلادُ الحركة الشعبية لتحرير السودان وبداية الحرب الأهلية الثانية في السودان. وهكذا دخل الرئيس نميري التاريخ بأن أصبح السياسي الشمالي الذي أنهى الحرب الأهلية الأولى في السودان عام 1972، ثم أشعل هو بنفسه الحرب الأهلية الثانية عام 1983. 8 كما أوضحنا في المقالات السابقة، فقد تبنّت الحركةُ الشعبية لتحرير السودان حقَّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان خلال مؤتمر توريت في شهر سبتمبر عام 1991، بعد أقل من أربعة أشهر من سقوط نظام منقيستو هابلي ماريام في شهر مايو عام 1991. وقد سبق الحركةَ الشعبية في تبنّي حق تقرير المصير الفصيلُ المتّحد الذي انشقَّ عن الحركة الشعبية الأم في شهر أغسطس عام 1991 بقيادة الدكتور لام أكول، وكان عاملاً آخر دَفَعَ بالحركة الشعبية الأم في اتجاه تبنّي المطالبة بحق تقرير المصير أيضاً. 9 سارعت حكومة الإنقاذ بقبول حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان حال تبنّيه بواسطة الحركة الشعبية الأم والفصيل المتحد المنشقّ عنها. فقد وقّع الدكتور علي الحاج في 25 يناير عام 1992 مع الدكتور لام أكول على إعلان فرانكفورت الذي تضمّن لأوّل مرة في تاريخ السودان حق تقرير المصير من حكومة السودان لشعب جنوب السودان. 10 بعد أشهرٍ من طلب حكومة الإنقاذ وساطة منظمة الإيقاد، صدرت في شهر يوليو عام 1994 مبادئ الإيقاد للسلام في السودان. وقد تضمّنت تلك المبادئ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وعلمانية الدولة السودانية. وقد رفضت الحكومة السودانية في شهر سبتمبر عام 1994 مبادئ الإيقاد رغم توقيعِها إعلان فرانكفورت وطلبِها وساطة الإيقاد. لكنّ حكومة الإنقاذ عادتْ وقبلتْ مبادئ الإيقاد عام 1997. اختطفت الحركة الشعبية الأم مبادئ الإيقاد لأنها لم تكن تريد إعطاء شرف انتزاع حق تقرير المصير للدكتور لام أكول وفصيله المنشقّ الوليد. واستغلّت الحركة تلك المبادئ لبدء برنامجٍ ذكيٍ ومتكاملٍ لانتزاع حق تقرير المصير من الأحزاب الشمالية المعارضة المنضوية تحت مظلّة التجمع الوطني الديمقراطي. 11 اختارت الحركةُ الشعبية الحزبَ الاتحادي الديمقراطي لضربة البداية في محاولة انتزاع حق تقرير المصير من أحزاب المعارضة الشمالية. فالعلاقة الوطيدة بين قيادة التنظيمين تعود إلى نوفمبر عام 1988 عندما وقّع السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق على اتفاقية السلام السودانية (اتفاق الميرغني قرنق). تمّ في يوليو عام 1994 عقد اجتماعٍ مشترك بين قيادات من التنظيمين في القاهرة، وصدر في 13 يوليو من ذاك العام ما سُمّي بـ "إعلان مشترك بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان" (وعُرِفَ بإعلان القاهرة). وقد وافق الحزب الاتحادي الديمقراطي في اتفاق القاهرة على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وهكذا صار الحزبُ الاتحادي الديمقراطي أولَ حزبٍ شمالي يوقّع اتفاقاً مع الحركة الشعبية لتحرير السودان يعترف فيه ذلك الحزب بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. تم ذلك في 13 يوليو عام 1994، كما ناقشنا في المقال الأول من هذه السلسلة من المقالات. 12 بعد خمسة أشهر من إعلان القاهرة مع الحزب الاتحادي الديمقراطي نجحتْ الحركة الشعبية في انتزاع حق تقرير المصير من حزب الأمة. فقد زار وفدٌ من حزب الأمة مدينة شقدوم بجنوب السودان التي كانت تحت سيطرة الحركة الشعبية في ذاك الوقت. التقى وفدُ حزب الأمة والذي ضمّ السيد عمر نور الدائم الأمين العام لحزب الأمة، والسيد مبارك الفاضل المهدي وفدَ الحركة الشعبية هناك بقيادة السيد سلفا كير نائب رئيس الحركة الشعبية. بعد أيامٍ من النقاش وقّع الطرفان في 12 ديسمبر عام 1994 على ما سمياه "اتفاق سياسى بين حزب الأمة والحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان حول ترتيبات الفترة الانتقالية وتقرير المصير" وهو ما عُرِف "باتفاق شقدوم." وقد وافق حزب الأمة في هذا الاتفاق على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، على أن يُمارس ذلك الحق عن طريق استفتاءٍ حُرٍّ تراقبه الأسرة الدولية قبل نهاية فترة الانتقالية. واتفق الطرفان على أن تكون مدة الفترة الانتقالية بين عامين إلى أربعة أعوام، يُحكم السودان خلالها بعلاقةٍ كونفيدرالية مع الجنوب. وهكذا نجحت الحركة الشعبية في انتزاع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان من حزب الأمة، بعد خمسة أشهر من انتزاعه من الحزب الاتحادي الديمقراطي. 13 كانت الخطوة التالية للحركة الشعبية هي تضمين حق تقرير المصير في وثيقةٍ قانونيةٍ واحدة تجمع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي. وقد حدث ذلك بعد أسبوعين فقط من اتفاقية شقدوم. فقد تمّ عقد اجتماع لما سُمِّي بقوى المعارضة السودانية الرئيسية يوم 27 ديسمبر عام 1994 في أسمرا في دولة إريتريا. وقد شارك في ذلك الاجتماع السيد محمد عثمان الميرغني، والدكتور جون قرنق، والدكتور عمر نور الدائم، والعميد عبد العزيز خالد قائد قوات التحالف السودانية. أصدر المجتمعون الأربعة ووقّعوا في 27 ديسمبر عام 1994 على بيانٍ أسموه "إعلان اتفاق سياسي" اعترفوا فيه بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. لم تشمل تلك القوى السياسية السودانية الرئيسية التي وقّعت على الاتفاق الحزبَ الشيوعي السوداني. ويبدو أن الدولة المضيفة – إريتريا – قرّرت استبعاد الحزبَ الشيوعي السوداني من ذلك الاجتماع لعدم رضاها عن الحزب الشيوعي السوداني بسبب وقوف الحزب مع نظام منقيستو هايلي ماريام ضد الحركات الإريترية وطموحاتها وآمالها في الاستقلال من إثيوبيا. عليه فقد جاء الرد الإريتري عاجلاً وواضحاً وحازماً. صارت الخطوةُ المُتبقّيةُ للحركة الشعبية، بعد هذا الاتفاق، هي تأكيد حق تقرير المصير بواسطة اجتماعٍ عام للتجمع الوطني الديمقراطي بكل أحزابه وتنظيماته. 14 بعد ستّةِ أشهرٍ من اتفاق القوى الرئيسية السودانية، عقدت أحزاب ومنظمات التجمّع الوطني الديمقراطي مؤتمراً أسمته "مؤتمر القضايا المصيرية" بمدينة أسمرا في الفترة من 15 وحتى 23 يونيو عام 1995. وقد شاركت في المؤتمر قيادات سياسية وعسكرية ونقابية تمثّل الحزب الاتحادي الديمقراطي، حزب الأمة، الحركة الشعبية لتحرير السودان، تجمّع الأحزاب الأفريقية السودانية، الحزب الشيوعي السوداني، النقابات، القيادة الشرعية للقوات المسلحة، مؤتمر البجا، قوات التحالف السودانية، وشخصيات وطنية مستقلة شمالية وجنوبية. من الواضح أن ذلك الاجتماع كان أكبرَ حشدٍ للأحزاب والتنظيمات السودانية المعارضة. تداول المؤتمرون في عدّة قضايا، شملت إيقاف الحرب وإحلال السلام في السودان، حق تقرير المصير، علاقة الدين بالسياسة، شكل الحكم خلال الفترة الانتقالية، وبرامج وآليات تصعيد النضال من أجل إسقاط نظام الجبهة القومية الإسلامية. اتخذت أحزاب وتنظيمات التجمّع الوطني الديمقراطي عدّة قرارات في نهاية المؤتمر تمّ تضمينها في بيانٍ أطلق عليه "إعلان أسمرا" الذي صدر في اليوم الختامي للمؤتمر في 23 يونيو عام 1995. كان أول وأهم القرارات التي وردت في إعلان أسمرا هو ذلك المتعلّق بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد تضمّن الإعلان عدّةَ فقراتٍ عن تقرير المصير، منها أن حق تقرير المصير حقٌّ إنسانيٌ ديمقراطيٌ أساسيٌ للشعوب، يحقّ لأيِّ شعبٍ ممارسته في أي وقت. وأقرّ الإعلان بأن ممارسة حق تقرير المصير توفّر حلّاً لقضية إنهاء الحرب الأهلية وتُيسّر استعادة الديمقراطية وتعزيزها. وأكّد الإعلان أن شعب جنوب السودان سيمارس حقه في تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية، وأن الخيارات التي ستُطرح للاستفتاء في الجنوب هي الوحدة (بما في ذلك الكونفيدرالية والفيدرالية) والاستقلال. وهكذا وافق الحزب الشيوعي السوداني في 23 يونيو عام 1995 صراحةً، ومع بقية الأحزاب الشمالية المُعارضة الأخرى، على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد وقّع على إعلان أسمرا، ضمن من وقّعوا، الأستاذ التيجاني الطيب مُمثّلاً للحزب الشيوعي السوداني. 15 في 20 يوليو عام 2002 تمّ التوقيع على بروتوكول مشاكوس بين الحركة الشعبية الأم وحكومة الإنقاذ. وقد انبنى بروتوكول مشاكوس على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بعد فترة انتقالية مدتها ستة أعوام. في 7 أغسطس عام 2002، أي بعد حوالي الأسبوعين من التوقيع على بروتوكول مشاكوس، اجتمعت هيئة قيادة التجمّع الوطني الديمقراطي في أسمرا برئاسة السيد محمد عثمان الميرغني، وشملتْ ممثلين لكل الأحزاب والتنظيمات المنضوية تحت لواء التجمع وقتها بما فيها الحزب الشيوعي. وقد أعلنت هيئة القيادة تأييدها التام لبروتوكول مشاكوس، وأكّدت أن حق تقرير المصير هو حقٌ إنسانيٌ، وأعلنت رفضها التام لأيّةِ محاولةٍ للتنصّلِ عنه مستقبلاً. 16 بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير عام 2005 بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية، سارعت قيادات التجمع الوطني الديمقراطي في مفاوضاتها مع حكومة الإنقاذ، ووقّعت على اتفاقية القاهرة. وقد وقّع السيد محمد عثمان الميرغني، والسيد علي عثمان محمد طه، والدكتور جون قرنق على اتفاقية القاهرة في 20 يونيو عام 2005. أشارت اتفاقية القاهرة إلى اتفاقية السلام الشامل كمرجعيةٍ مبدئيةٍ للتفاوض، وكوثيقةٍ أساسيةٍ للفترة الانتقالية التي تنتهي باستفتاء جنوب السودان بشأن تقرير المصير. وقد عبّدت اتفاقية القاهرة الطريق لعودة قيادات التجمع إلى السودان والمشاركة في السلطتين التشريعبة والتنفيذية. وقد عادت قيادات الحزب الشيوعي إلى السودان بعد توقيع اتفاقية القاهرة، وشارك الحزب الشيوعي في السلطة التشريعية بعددٍ من النواب المعيّنين في المجلس الوطني الذي تم اختيار وتعيين أعضائه في يوليو عام 2005. 17 وهكذا انتقل الحزب الشيوعي السوداني (مع بقية الأحزاب الشمالية الأخرى) من مربع رفض النظام الفيدرالي لجنوب السودان خلال وبعد مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، إلى قبول حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان عام 1995. بل إن حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان أصبح بالنسبة للحزب الشيوعي السوداني عام 1995 حقّاً إنسانياً ديمقراطياً، بعد أن كانت مشكلة الجنوب هي قضية الاستعمار وصنائعه، وكان الطريق يتمثّل في "تطبيق حلٍ ديمقراطي .... يحفظ للوطن وحدته ويسد الطريق أمام الدسائس والمؤمرات الاستعمارية." 18 سوف ننتقل في المقال القادم من هذه السلسلة من المقالات إلى موافقة حزب المؤتمر الشعبي على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد انضمّ حزبُ المؤتمر الشعبي إلى أحزاب المعارضة الأخرى، ووافق على حق تقرير المصير عام 2001، بعد أقل من عامٍ من انشقاقه من مجموعة الإنقاذ الحاكمة. واكتملتْ بذلك في عام 2001 حلقةُ موافقةِ كلِّ الأحزاب الشمالية – حكومةً ومعارضةً - على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وعبّدت تلك الموافقةُ المتكاملة الطريقَ لبروتوكول مشاكوس، ثم اتفاقية السلام الشامل التي قادت لانفصال جنوب السودان، كما سنناقش في المقال القادم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة