|
الجنينة بقلم شوقي بدرى
|
عرف مولانا المعز ، بالقاضي المخيف . وكان بعض صغار المحامين يتهربون من المرافعة في محكمته . كان يحفظ اغلب المواد وكانه يطالع كتاب . كما امتاز بذاكرة حديدية ، يتذكر كل صغيرة وكبيرة من الجلسات السابقة بالرغم من اختلاف القضايا والشهود . سلاحة المميت كان تعليقاته اللاذعة ، التي تلتصق بمن يتلقاها كالطفح الجلدي . وقد تلازمه لبقية حياته . احد المحامين المبتدئين صار يعرف بافتكر . فعنما اكثر تلك العبارة ، كان التعليق .. انه في محكمة وليس في ركن نقاش . ولا وجود ,,لافتكر,, . فقط الحقائق والادلة والمواد القانونية .وعرف بالحسم وعدم محاباة اي انسان . و يشاع انه قد حكم بالسجن او الجلد علي من لم يلتزم بالادب في محكمته .
عندما بدأ التلاعب بالاراضي ، صار الامر سببا في ثراء الكثيرين . صار القاضي المعز سليمان المتعهد بالملف . والاغلبية كانت علي اقتناع بانه القاضي الحاسم امام مافيا الاراضي . ولقد احتمي اغلبهم بانتمائهم الي نظام الانقاذ الاقصائي . والذي مكن الاخوان المسلمين من البلاد والعباد .
عرف الجميع انه لا يمكن القضاءعلي تغول منتسبي النظام . ولكن تمنوا ان يحدث بعض التحجيم ، والقضايا المشرفة . وكان النظام يريد ان يتفاخر بوجود بعض الادانات . وان يلوح بانتصار بعض البسطاء في استرجاع حقوقهم التي تغول عليها من ملكوا المال، واستعانوا بجيوش المحامين الذين اشتركوا في تلك الوليمة . وسمعة القاضي المعز وعدم ارتباطة بالنظام كانت تأكيدا بوجود بعض الاتزان والصدق .
القضية التي كانت امام القاضي المعز سليمان ، كانت تبدو بسيطة . فلقد اشتري احد تجار الاراضي منزلا بسيطا خارج امدرمان غرب منطقة الحاج ابو زيد . ولكن كان للمنزل ارض واسعة تزيد علي الالف متر . وكانت الفطعة عبارة عن فدان كامل . انتزعوا منه ثلاثة ارباعه بحيلة التحسين . وحتي في الثمانينات لم تكن منطقة الحاج ابو زيد والمويلح ماهولة . الي ان تدفق عليها المهاجرون في سنين الجفاف والمجاعات وانشاء معسكرات الاغاثة بواسطة الاوربين.
كا ن هنالك عقد شراء موقع بواسطة الشيخ السبعيني مالك المنزل . وهنالك توقيع شاهدين . والشيخ لا ينكر التوقيع . والاعتراف سيد الادلة . و تاجر الاراضي يستعين بمحامي شاب معروف . ووالده قاضي متقاعد . وكان في يوم من الايام رئيسا لمولانا المعز . ولقد تدرب علي يديه .
كثير من القضايا كانت تدعوا الي الضحك والسخرية . فلقد وردت قضية تقدم بها مسئول اراضي ضد مالك ارض بالحيازة. فبعد مرور المسئول علي ارض خالية عاد بعد اقل من اسبوع ، ليجد منزلا مشيد من غرفة وراكوبة وبعض اغنام وسيدة تحتضن طفلا حديث الولادة . وكل شئ يدل علي الاستقرار، ويتطابق مع القانون. ولكن لاحظ المسئول ان الطوب الضخم المصنوع من اللبن كان يحمل اثر حرق نار المطبخ بدون ان يكون هنالك مطبخ في تلك الجهة . بل ان طوبة كانت مرتفعة من مستوي الارض .. ويبدوا ان من حولوا الطوب العملاق بسرعة لم يلتفتوا لوضع تلك اللبنات في مكانها الصحيح . وظهر المطبخ في مكان جديد . فلا يمكن ان تكون لتلك الغرفة اكثر من مكان واحد للطبخ . وكانت بعض البيوت تنتصب واقفة في ليلة واحده. وكانما قد قام ببنائها جنود سيدنا سليمان .
و اثنان قد اختصما في ملكية قطعة ارض . وبعد ادلاء الشهود بشهادتهم وتقديم الاوراق اللازمة حكم القاضي لاحدهم . وبعد فترة يظهر للارض مالك حقيقي . يكتشف ان الارض بيعت لعدة اشخاص قبل ان تنتهي في ملكية شخص امين اشتراها بحسن نية . وبدا في تشييد حلم عمره وحلم اسرته .ويجد المالك الحقيقي نفسه مطالبا بدفع رسوم واتعاب محامي لم يحلم يوما بحيازتها . وقد يضطر في احسن الظروف الي ان يقبل بملاليم ، ثمنا لارض توارثها من اجداده . هذا اذا كان المالك الجديد متمتعا ببعض المعقولية . او اذا جر المحتال الي المحاكم ، وخشي ان يفتضح امره . فو يريد ان يواصل تجارته في الاراضي . ويتأكد ان الخصمين المتنازعين امام المحكمة ، هما شريكان في حقيقة الامر . بالرغم من التشنج والصراخ ، والتهديد خارج المحكمة ، وبعد النطق بالحكم .
القاضي المعزسليمان كان مقتنعا بأن القضية لن تأخذ منه وقتا طويلا . وكان يحسب ان البائع قد الم به بعض الطمع او انه قد ندم علي البيع ويريد ان يرفع السعربجر المشتري الي المحاكم ، ولكي يصل الي تسوية .
الرجل السبعيني كان قليل الكلام . وكان واثقا من نفسه . ويقول انه قد وقع علي ورقة قدمها له الشاري لكي يقوم نيابة عنه باستخراج شهادة بحث لبيع المنزل لانه سينتقل للسكن في منزل ابنه . فلم يعد معه ساكن في المنزل بعد انتقال زوجته الي الرفيق الاعلي . وتزوج بناته وانتقلن الي وسط المدينة والي مدن اخري .
ثقة الشيخ وثباته كانت تحس القاضي بانه علي حق . وكان استعجال المحامي وتذكيره له بعلاقته بوالدة القاضي ، وربع قرن في محاكم السودان في مدن مختلفة ، اعطت مولانا المعز شعورا بان الشيخ علي حق . وعند سؤاله اذا كان يقرا ويكتب ؟ اثبت انه قد درس في الخلوة ويحفط 3 اجزاء من القرآن ويعرف مبادئ الدين . وانه يصلي بالناس عندما يتغيب الامام في الايام العادية . وقد عمل طيلة حياته في بلدية امدرمان كجنائني . وكان يعمل في بيوت الميسورين في المساء وفي ايام الجمعة . ويدخل البيوت و يؤتمن علي المال والعرض . ولم يحدث في حياته ان ذهب الي قسم البوليس او دخل في اي خلاف مع انسان . وانه يتعامل مع الجميع بثقة . ووثق بالشاري لانه قد رآه اكثر من مرة يصلي الصبح حاضرا في الجامع الصغير بالقرب من منزله. وعرفه الشاري بنفسه كراغب في شراء منزل في تلك المنطقة .
وفجأة يبدأ القاضي في التحديق في الشيخ لمدة طويلة . ويتغيبر اسلوبه . ويكتسب صوته نبرة ودودة. ويحدق في الاوراق ليتأكد من الاسم . ويخاطب الشيخ بأسم العم الطاهر , ويستفسر . اذا كان قد امتلك حمارا ابيضا ؟ واذا كان قد عمل في منطقة حي الملازمين قبل اكثر من عشرين عاما . وعندما كانت الاجابة كما توقع القاضي ، تغير سير القصية .
بدا استجواب الشاهد الاول ، بعد ان طرد الجميع من الحضور والمتطفلين . ووضع الشاكي والشاهد الثاني في اماكن منفصلة وتلجلج الشاهد . وقال انه قد حضر توقيع العقد في منزل البائع . وعندما طلب منه ان يصف المنزل ومحتويات الدار من اثاث .... الخ . قال انه لم يتذكر لانهم ذهبوا في المساء , ولم يتذكر ماذا قدم لهم من مشروبات الضيافة . ولم يعرف اذا كان هنالك آخرين في المنزل. ولم يتذكر اذا كان التوقيع خارج الغرفة ام داخلها . ولم يتذكر كيف ذهبوا الي المنزل .
اما الشاهد الثاني فكان اكثر ثقة ولم يتلجلج . وقال ان التوقيع حدث في مكتب الشاري في النهار . وان البائع قد احتسي الشاي وقرأ الفاتحة ووقع علي العقد وانه قد استلم المبلغ المتفق عليه . ولكنه لا يذكر اذا كان من اوراق مالية كبيرة ام صغيرة لانها كانت في كيس بلاستيكي .
وعند سؤال الشاري عن سبب تواجده في المسجد البعيد عن داره ؟ زعم ان عنده بعض الاهل في تلك المنطقة . الا انه فشل في اعطاء اسمائهم . ولماذا يذهب لزيارة اهله في الفجر؟ ولم يعرف اسم الامام او اي من سكان المنطقة . وانتهي الامر بتاجر الاراضي وشهوده كمعتقلين بتهمة الاحتيال . وبدا الشاهد الاول في البكاء . وانهار تماما. وكانت يدا المحامي ترتعشا خاصة بعد ان قال له القاضي بانه من الممكن انه بريئ. ولكن المسئولية الادبية كانت تحتم عليه ان يعرف مع من يتعامل . وانه قد دافع عن الشاري في قضايا اخري . ولا بد انه قد راودته بعض الشكوك في قضاياه المتعددة ، هذا اذا لم يكن شريكا في الجرم. واذا لم يكن بسبب القانون ، فحفاظا علي اسم والده قاضي المديرية المشهور.
القاضي كان يقول للمحامي ان مالك الارض لمن اصدق البشر . وهو اذا لم يتذكره في آخر لحظة ،لكان قد ارتكب جريمة ظلم انسان شريف .
وانفرد القاضي المعز بالمحامي اسماعيل. وتحدث له عن شهرة والده محمد اسماعيل مبروك كقاضي متمكن من القانون . وعرف بعدله . وكان يرد دائما له وللآخرين ان يجتهدوا في ان يكونوا في مكان القاضي الذي سينجو من النار ، من ثلاثة. ولقد صا ر قاضي مديرية , عندما كا ن هنالك تسعة مديريات في كل السودان . وكانت مساحة المديريات بمساحة دول كبيرة . وكيف كان قاضي المديرية يتلقي مرتب ثالث اعلي موظف في الدولة . بعد محافظ الجزيرة ومدير السكك الحديدية . وكان لهما المخصصات والمنازل الفاخره والحدائق وسائس الخيل ، وذهبية في النيل . وكان مرتب قاضي المديرية يزيد عن ضعف مرتب رئيس الوزراء . حتي لا يحتاج لان يرتشي .
عندما اختلي القاضي بنفسه لم يتمالك نفسه من الابتسام والرجوع بذاكرته الي ربع قرن من الزمان عندما كان في بداية عمله كقاضي . وقام بالاتصال باحد القضاة ممن سبقوه في المهنة . وبعد ترديد عبارة خاصة كان القاضي في الطرف الآخر يغرق في الضحك . واتفقا علي الذهاب في المساء الي قاضي قد تقاعد ويمارس المحاماة .
رحب القاضي المتقاعد بضيفيه . ورددت نفس العبارة . وضحك الثلاثة . وجلسا في الجنينه الجميلة في البيت الواسع في حي الملازمين . وعندما قدم الكعك . قال المعز ,, ياجماعة ده مش كعك ؟ وضحك الجميع من جديد . وتذكروا زمنا جميلا . وتمنوا عودته .
المعز كان وقتها وفي اول عمله ويحاول ان ينفض عنه رداء البدوي الذي التصق به في فترة دراسته للقانون في جامعة الخرطوم . وكان تفوقه الدراسي وطيب معشره واتزانه ، يجعل من هم اكبر منه سنا يرحبون بوجوده . وعندما عرضوا عليه ان يصحبهم لدار احد القضاة الذي عاد من الخليج ، بعد ان كان معارا لخمسة سنوات . القاضي كان قد سمح لاحد زملائه باستئجار الدار بشروط كريمة . وكان يشترط ان يرعي زميلة حديقة المنزل . فالقاضي كان مغرما بالحدائق .
ونفذ الصديق وعده واتي بجنائني رائع ، اشاد به الجميع . وعرف بامانته . وكان لا يسمح لنفسه بأخذ النجيل الذي يقصه لحماره او غنمه ، بدون ان يستأذن كل مرة . وقام بغرس انواع من الاشجار المثمرة . منها نوعان من الجوافة . وعندما يجد ثمارها مطروحة علي النجيل ، لا ياخذها . ويجمعها ويضعها في المطبخ .
في ذالك اليوم وبعد رجوع القاضي المغترب . تجمع الكثير من القانونيين . وفي نهاية السبعينات لم تكن الفيديوهات معروفة . واتي المغترب بجهاز فيديو وكامره فيديو ، اثارت الدهشة . وبعد ان استمتع الجميع بالشواء والاكل الذي قدمه طباخ محترف ، وانصراف الخادم . كانت المفاجئه . فلاول مرة شاهدوا فلما اباحيا .
وبينما الجميع مشدودون . وهم يعرفون انهم الوحيدون في المنزل . اتاهم صوت متردد يقول ,, ياجماعة ده مش نكاح ؟ ,, وانفجر الجميع في ضحكة هستيرية . يخالطها بعض خجل واستحياء . واكتفي الرجل الذي كان قد اتي بثمار الجوافة ليضعها في المطبخ ، بأن استفسر كيف يشاهد القضاة عملية نكاح ؟؟ وتصادف حضوره خروج الخادم فدخل بدون ان يطرق الباب .
سمع الجمع باب الدار الخارجي يفتح ثم يغلق مباشرة . ولم يتبقي من الرجل الا كيس كبير كان مليئا الي نصفه بالنجيل الذي قام بقصه في منزل آخر .
لم يظهر الرجل بعدها . ولم يتحصل القاضي علي جنائني بامانة وهمة ذالك الرجل . وكانت الشلة تردد تلك العبارة الاستعلامية كلما احتاروا في تفسير امر قانوني او شئ عادي من امور الدنيا. وتثير تلك الجملة ضحكهم . ,, يا جماعة .......
فلقد احسوا بشعور الطفل الذي يخطئ ويقبض عليه متلبسا. وحتي بعد السنين كان لتلك العبارة وقع وسط الشلة . فلقد كان الاندهاش واضحا في صوت صاحبها . ويتغلب علية عدم التصديق لما تشاهده عيناه . المؤلم ان الرجل كان لم يستلم راتبه لاكثر من شهر . وكان يقول للقاضي انه ليس بمحتاج له . ولكنه سيطلبه في وقته . وبالرغم من ان القاضي قد ترك له وصيه لاخذ ماله الا انه لم يحضر . واضطر القاضي لترك المبلغ عند احد الاسر التي يهتم بحدائقها . الا انه رفض استلام المال . ونسي الجميع الرجل الذي كان يربط حماره الابيض امام الدار .
في مساء هادئ بعد صلاة العصر ، وفي الحي البسيط البعيد من صخب المدينة . توقفت سيارة فارهة ، وسط دهشة السكان . وترجل امام الجامع الصغير وهو يتقدم ثلاث من الرجال تبدو عليهم الاهمية . مكتبة شوقى بدرى(shawgi badri)
|
|
|
|
|
|