|
الجزئين الأول والثاني من (حملة التفتيش على شوق الدرويش)
|
02:53 PM Mar, 10 2015 Sudanese Online مصطفى عبد العزيز البطل- My Library at SudaneseOnline
غربا باتجاه الشرق
في حوش الروائي حمور زيادة حملة التفتيش في شوق الدرويش مصطفى عبد العزيز البطل mailto:[email protected]@msn.com
الجزء الاول (ارحب بأي روحٍ نقدية تجاه تاريخنا في اي شكل أتت. في علم الاجتماع، والسياسة، والفلسفة، وفلسفة التاريخ. بل أرحب بها أكثر في الفن. لكنني أقرأ بتمعن لأشبع متعتي، ولا ازعم معرفة دقيقة بفن النقد والرواية. اقرأ كما يقرأ الناس، ثم تثور شكوكي، وأرتاب في كل شئ. أقرأ وأرتاب، ثم أقفل الكتاب). (من رسالة قديمة لصديق قديم) ********************** (1) في زمنٍ مضى نهض أحبابي من مناضلي الكيبورد، في واحدة من هباتهم الدورية لتقليم أظافري ونتف ريشي، إما بسبب سوء أدبي مع رموزهم النضالية، أو بسبب تخاذلي عن اللحاق بركب الانتفاضة المرجوة، وإخفاقي في توريد حاجيات السوق من الكتابات الثورية. واتفق ان آزرت تلك الهبة الناشطة السياسية المهجرية الاستاذة عُزاز شامي، فكتبت في هجائي مادة دسمة، ما تركت فيها وما أبقت، شتمتني عبر سطورها شتيمة الأراذل. وقد حازت تلك المادة على اعجاب جميع (المناضلين) بلا استثناء.
والحق ان عُزاز مثقفة سودانية نوبية مبدعة ومتفردة. ولا غرو، فالإبداع والفرادة عند النوبيات كالماء والهواء. وقد حظيت دوماً بإعجابي، ثم محبتي (من طرفٍ واحد)، بعد ان طالعت بعض كتاباتها. ثم شاهدتها مناقشةً ومديرة لحلقات حوار في منابر بعض كبريات المؤسسات الاكاديمية والبحثية الامريكية في واشنطن، فشدت انتباهي بتمكنها وثقتها بنفسها، وجودة محصولها من معارف الشأن العام. فضلاً عن مهارتها وطلاقتها في ألسنة الفرنجة. ثم شاهدتها أيضاً متحدثة في عدد من القنوات التلفزيونية الاجنبية، تلهب ظهور العصبة المنقذة بشواظٍ من لهب، حتى خشيت على النظام في الخرطوم ان يتهاوى وينهار عقب كل حلقة تحدثت فيها هذه النجمة الزرقاء.
حملت عزاز مقالها الناقم ذاك وعلقته على أستار صفحتها في الكتاب الوجهي. وهناك رأيت الحشود الحاشدة تلتف حولها وحول مقالها، المُقعد فوق ظهر الأعمى. كل مناضل يحمد، ويمدح، ويُهنئ، ثم يتبرع بكلمتين قائظتين في هجائي وينصرف. ولأن للروائي حمّور زيادة إسماً ثقافياً بارزاً نسبياً، يتميز به على غيره من عامة معجبي عزاز، فقد لمع اسمه أمام ناظري من بين صفوف المهنئين الشانئين، وظل صامداً في قاع ذاكرتي.
كتب حمّور، بعد ان شدّ على يد عزاز وبارك صنيعها، التعليق التالي: "ليس عندي اي تفسير لما كتبه البطل في مقاله سوى ان يكون قد جنّ"!
بيد أنني لم أر بأساً كبيراً في مُستخلصه ذاك، ولم احمله على محملٍ ردئ. بل استهديت بالله، وأسبغت عليه ذلك الشئ الذي يسميه الفرنجة (بينيفيت اوف ذي داوت). او مصلحة الشك، لو صلحت الترجمة. وقدّرت ان نسبة هذا الشاب المبدع ما لا يحب من كتاباتي للجنون قد تجد تأويلها الطيّب وتفسيرها الخيّر في أنه، رعاهُ الله، ربما كان في خويصة قلبه يلتمس لي ملاذاً آمناً يقيني غضبة الغاضبين. فالجنون يرفع التكليف ويرد المسئولية، ويغل العواقب ويهدر مغبّاتها. وفي الحديث: (رُفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون، وعن النائم، وعن الصبي حتي يحتلم).
ولو صدقت بصارتي، فإنني سأطلب من حبيبنا حمّور ان يستعصم بذات الراية التي عقدها لي، لا ينفتل من تحتها. وأن يُبقينى على المنهاج عينه، قائماً على صراط الجنون، لا يحيدُ عنه. فإن وجد في قراءتي ثم نقدي لروايته (شوق الدرويش) ما يمجّه ويُنكره، ردّه من فوره الى أسيادي من الجن، وكفاني بعد ذلك بأس الحساب وحر العقاب.
غير أن أملي عظيم ورجائي مقيم أن نفرغ معاً من الدرويش وشوقه في سلامٍ وأمان، وكلانا في كمال العقل وتمام الوجدان.
(2) أحسبك، أعزك الله، لم تطالع بعد رواية (شوق الدرويش)، التي صدرت مؤخراً عن دار العين المصرية، وتريد مني مبتدأها وخبرها. والحق أن المبتدأ والخبر ليس عندي، بل عند صديقي الصحافي الاستاذ فيصل محمد صالح. وقد نظرت حولي فوجدته قد كفاني الرهق والنصب، فأوجز الرواية كلها في نحو ستمائة كلمة، نشرتها صحيفتان مصريتان.
وقد قرأت الموجز مثنى وثلاث، فألفيت عرضاً نبيهاً ونزيهاً للرواية. ولا عجب، فقد حاز الرجل وسام (النزاهة) من لدن الفرنجة. زانت بها سترته مؤسسة بيتر ماكلر في واشنطن قبل عامين. وها أنا اوشح صدره اليوم بوسام (النباهة) من مؤسسة مصطفى البطل في مينيسوتا.
وقد أعملت أسنان كيبوردي في ذلك العرض الرائق الشائق، فمثلت به تمثيلاً، واجتزأت لك من بين سطوره ما حسبته يكفي لعرض جوهر الرواية. هاك المجتزأ، فاقرأ وازدرد:
(بخيت منديل، بطل الرواية، عاشق عظيم من زمن قديم، كان عبدا رقيقا مملوكاً لسيد. ثم حرره الحب من العبودية، أو نقله لعبودية من نوع آخر، فما عاد يشعر بها او يتصرف تحت تأثيرها. ملك أمر نفسه كعاشق ومحب، وملك أمر الرواية وأحداثها، وتصرف فيها على هواه. ثم قرر في حيوات أناس وضعوا أنفسهم خصوماً له ولحبه، دروا أو لم يدروا بذلك، فصارت مهمته في الحياة أن يقتص منهم رداً لدين حبيبته.
كل شخوص وأحداث الرواية لهم صلة بحياته أو حياة حبيبته الراهبة الإغريقية المصرية ثيودورا "حواء" التي جاءت للسودان ضمن إرسالية دينية لتهدي خراف الرب الضالة، فوجدت نفسها وسط أحداث عاصفة. ومريسيلة التي أحبته حبا يائسا لا رجاء فيه، وهي تعرف ذلك. كان الشيخ إبراهيم ود الشواك هو آخر ضحاياه الذين انتقم منهم. وهناك من جانب آخر الأب بولس ورفاق ورفيقات ثيودورا في الإرسالية بما فيهم فضل الكريم خادمة الدار.
ولأن الحب مبرر كاف لا يحتاج لتفسير، لم يجهد الكاتب نفسه ليقنع أحداً لمَ أحب بخيت منديل، الرقيق السابق، وهو خلو من أية ميزات، الإغريقية المصرية الحسناء ثيودورا. ولمَ أنست هي له وتجاوبت معه، دون أن تعلن حباً من جانبها. وحتى عندما قررت أن تفعل ذلك في يومها الأخير، خان قلب بخيت سيده، وما دله على الفرح الكثير الذي ينتظره، بل أغرقه في نيران الغيرة والوساوس وغيبوبة المريسة.
في بداية الرواية كان بخيت مسجونا في سجن الساير بام درمان، حين أتته الحرية على بوارج الغزاة وخيولهم في سبتمبر 1898. ومع دخول الجيش الغازي للبلاد انكسرت دولة مهدي الله. ومن هناك بدأت رحلة بخيت منديل العجيبة، من سجن العبودية الجبري إلى أسر الحب الطوعي، الذي سيكلفه حياته).
(3) السؤال العريض الذى يتردد، همساً وجهراً، في العديد من الدوائر الثقافية، حول فوز رواية (شوق الدرويش) بجائزة نجيب محفوظ: هل فازت الرواية عن جدارة لها واستحقاق، ام ان ذرائعاً بعينها، واهدافاً خفية، لا صلة لها بفن الرواية، تكمن وراء الفوز؟ هل هو النبوغ القياسي، ام الهوى السياسي؟
لم أحفل باولئك المخابيل من مناضلي الأسافير الذين لم يقرأوا سطراً واحداً من ذلك العمل، كما بدا لي، ومع ذلك لم يطرف لهم جفن وهم يصفون حمّور بأنه (عميل للخديوية المصرية). ذلك صنف من (النضال)، وتلك شاكلة من(المناضلين) أعرفها حق المعرفة.
ولكنني وقفت أمام وريقة رصينة للناقد مأمون التلب عالج فيها بعض محتوى خطاب لجنة التحكيم التى توافقت على منح الجائزة للروائي السوداني، وتحديداً ذلك النص من الخطاب الذي جاء فيه عن الرواية: (ففي تصويرها للدمار الذى سببته الانتفاضة المهدية، وهي حركة دينية متطرفة عنيفة، تأتي الرواية كتجسيد قوي للمشهد الراهن في المنطقة، حيث تعم الفوضي نتيجةً للتطرف الديني). وقد وبخ التلب لجنة التحكيم توبيخاً لإقدامها على زرع آرائها السياسوإعلامية، وفق تعبيره، في خطاب اعلان الفوز.
فيما يليني من الأمر فقد وجدت التوبيخ ملائماً ومستحقاً، من حيث أن اللجنة كشفت الغطاء عن مشاعر عدائية - ربما كانت مستكنة عند بعض مثقفي المحروسة - تجاه الثورة المهدية في السودان، على نحو يوحي من طرف خفي بأنها، اي اللجنة، عندما ثمّنت الرواية فإنها رأت قيمتها الاساسية في تعريتها لتلك الثورة وفضحها لممارسات دولتها.
وخبال تلك الفقرة من خطاب اللجنة يتمثل بطبيعة الحال في حقيقة أنها تزود المتلقى بوصف مباشر وواقعي للحالة الذهنية لأعضائها، لا يمكن لها ان تتنصل منه. وذلك في مواجهة حقيقة اخرى هي ان مؤلف العمل، موضوع الجائزة، بوسعه دائماً ان يزعم، وبكل ثقة، انه ليس مؤرخاً، وانه لم يكتب تاريخاً. وانما هو روائي، وقد كتب رواية. وبالتالي فإن لا يتحمل مسؤولية البغضاء والكراهية التي يستبطنها اولئك الذين منحوه الجائزة للثورة المهدية ودولتها. ولا مشاحة عندي بعد ذلك من ان اقول، أن الطيش الظاهر في بيان اللجنة يرتد عليها وحدها، ولكنه بالقطع لا يخصم، من الرواية ولا من كاتبها دانقاً ولا دينارا.
ذلك رأيي أنا. ولكنه ليس رأي حبيبنا الكاتب الصحافي الاستاذ يوسف عبد المنان، الذي حمد الله واثنى عليه، ثم كتب في عموده الراتب بصحيفة (المجهر): "إختار الكاتب حمور زيادة ملاطفة المصريين ومجاملتهم، وترفيع شأن المستعمر المصري، والحط من شأن الوطني المجاهد المنافح عن عزته وكرامته ووطنه ودينه. زيادة حمور يقف شاهراً قرعته يخطب ود الدوائر المصرية بالطعن في شرف الدولة المهدية".
ثم جاء صاحبي، الصحافي والاعلامي الكبير الاستاذ محمد عبد السيد، فأكمل من الأمر ما كان ناقصاً، إذ كتب عن الرواية انها عبارة عن: "منصة لشخص منتمٍ بشكل او آخر لطائفة دينية معروفة، أراد ان يثبت أن قادة طائفته كانوا على حق عندما أعانوا الحملة الخديوية على اسقاط دولة المهدية". ومعلوم ان المؤلف (حمور محمد زيادة حمور) ابن لأحد أعلام القيادات التاريخية لطائفة الختمية والحركة الاتحادية السودانية. (4) كما أنني تفحصت في شأن الدرويش وشوقه مقالاً للكاتب المتميز عبد الحفيظ مريود، تخير له عنوان (تأريخ أمدرمان السّرىّ، ومسكوتات المجتمع السّودانىّ)، فحرت في أمر المقال وفي أمر مريود نفسه. إذ هالني أن وجدته يفسر المهدية ويحاكم قائدها الامام المهدي، الذي غادر الدنيا في القرن التاسع عشر، بمعارف القرن الحادي والعشرين وقوانينه، دون احتراسٍ علمي او تثبّت منهجي.
وكنت قد عرفت مريود من قبل هديّاً رضيّاً، يزن الحروف بميزان الذهب. ولم اعهد عنه الاحكام الصاعقة، يستولدها قيصرياً من أحشاء الحيثيات الزاعقة. ثم أن تعضيد الرواية، وتأييد مؤلفها، ما كان ليستدعي اصلاً كل تلك العصبية والشغب الثقافي الذي رأيته عنده، ولكن الله غالبٌ على أمره.
اسمع الى هذا الحبيب يستعين بشيخه، بعد ان جرد المهدية، أو كاد، من كل فضيلة: (قلتُ للشيخ التّرابىّ "كيف إستطاع المهدىّ أنْ يحرّك النزعة الدينية لدى السّودانيين؟ رد الترابي: "المهدىّ لم يحرّك نزعةً دينيّةً. لقد خالفه المشائخ والعلماء، كما هو معلوم. ولكنّه ذهب غرباً وحرّك نزوع أهل الغرب للقتال، فتقاطروا إليه").
سبحان الله. ما هذا التخليط؟ ولقد اصبحت في يومي هذا وأنا لا اعرف بخلاف الترابي ومريود من انكر ان الامام المهدي حرك دوافع الثورة في اهل السودان عبر سلطان الدين ونزعة التدين، ولا من استتفه أهل الغرب فزعم ان تأييدهم للمهدية لم يجاوز كونه مجرد (نزوع للقتال). والراسخون في علوم الأديان يعلمون ان فكرة المهدي المنتظر كانت فاشية وراسخة في غرب السودان، وغربي افريقيا بعامة. ولا جدال في ان الثورة المهدية وجدت صداها في الغرب، اولاً وأخيراً، بحكم طبيعة التدين العرفاني الغيبي الصوفي السائدة هناك. تلك هي الحقيقة الصادعة التي يعتنقها التاريخ المرصود. وكل زعم خلاف ذلك باطل حنبريت.
صحيح أن استجابة أهل الغرب للثورة كانت اكثر جدية وحزماً وعزماً، فهم أهل بأس. ولكن الثابت أن انصار المهدي الاوائل الذين انتصروا على جيش ابي السعود وقضوا عليه في معركة أبا كانوا من اهل النيل الابيض والجزيرة، ولم يكونوا من غربي السودان.
ونحن نعلم، أيضاً، ان كاريزما الامام المهدي وجاذبيته الروحية وشخصيته القيادية تبلورت وبرزت الى الوجود قبل ذهابه الى كردفان. إذ أنه كان شيخاً صوفياً منقطعاً للعبادة والذكر بالجزيرة أبا قبل اعلان مهديته. وقد انحاز للمهدي خيرة الفقهاء والزعامات الدينية عهدذاك، في مقدمتهم الشيخ المجذوب، والشيخ محمد محمد الخير. وهما اكبر القيادات الدينية شمالي الخرطوم، والشيخ المضوى عبد الرحمن، والشيخ العبيد ود بدر، والشيخ المنا اسماعيل، والشيخ أحمد ود طه، وغيرهم من أشهر الفقهاء والرموز الدينية.
والحال كذلك، فهل يجوز ان الدكتور الترابي كان يعني الموظفين من فقهاء السلطان في الخرطوم الذين ساندوا غردون؟ ولو كان ذلك مراده فهل يمكن لمعلومة كهذه ان تؤسس لحكم اطلاقي جزافي مؤداه ان المهدي خالفه جميع العلماء والمشايخ، وأنه فشل في استثارة الحمية الدينية عند بني وطنه، فاستعان في ثورته بأهل غرب السودان الذين يعرف عنهم النزوع الطبيعي للقتال؟!
(5) ما علينا. ومالنا أصلاً بالترابي وخربقاته وطربقاته؟ نحن هنا لنناقش رواية (شوق الدرويش) التي وضعها امام القارئ السوداني والعربي مؤلفها حمور زيادة. وهي الرواية التي وصلت، ومعها خمس روايات اخرى، الى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربي لعام 2915، بعد تصفيات شملت مائة وثمانون رواية من خمسة عشر دولة عربية.
وقبل ان نمضى قدماً في مسعانا القاصد نؤكد لك – رعاك الله – أنه في نيتنا ان نواجه حبيبنا حمور - في الجزء الثاني من هذا العرض - باستفهامات لنا حول ذات القضايا التي أوردها الآخرون بشأن روايته. سنسأله عنها سؤال الملكين، الذي انكره الشيخ الترابي، كما انكر نزعة التدين على أهل الغرب.
سنواجهه ان شاء الله بالشبهات القائمة أنه ربما سعى لتملق مشاعر تلك الفئة من المثقفين المصريين ذوي النظرة القومية الضيقة، التي جرح انتصار الثورة المهدية كبرياءها القومي. تماماً كما شكل انكسار الثورة وهزيمتها على يد الجيش الغازي في العام 1899، تحت راية الخديوية المصرية، انتصاراً نفسياً كان له اثره في ترميم كرامتها التي بعثرها الدراويش.
وسنلزمه بالاجابة على تساؤلاتنا، فالصعود الى القمة ليس هينا، كما انه بالقطع لا يمكن لن يكون مجاناً. ونحن على مذهب الفرنجة القائلين: "No free lunch"، وفي رواية اخرى "No free ride". (قيل ان صيغة المثل الاولى جاء بها اصحاب المطاعم، ثم أتى سائقو عربات الاجرة بالصيغة الاخرى)!
(6) ولكننا وبذات القدر سنواجه أحبابنا هؤلاء من المتشككين والمرتابين، بأننا مع تسليمنا بالمآخذ العديدة على (شوق الدرويش)، فإنها رواية. رواية فقط لا غير. والرواية شئ، وعلوم الاجتماع والتاريخ شئ آخر. الرواية فن، وليست تاريخاً للوقائع. الروائي فنان، يرصد ما يراه بين صرير المواقف والاشخاص، ويلتقط تلك الشذرات الانسانية المشحونة ويعبر عنها، وإلا فما فائدة الروائي بجوار المؤرخ؟
ومن يكتب الاحداث من وجهة نظر المهزوم؟ من يرسمها ويجسدها من زاوية العبيد والضعفاء، حتى لا نقول: سقط المتاع؟ ومن يكتب التاريخ الذي اهمله التاريخ؟ هل نكتب التاريخ فقط من وجهة نظر الملوك المنتصرين؟!
قال ويل ديورانت، المؤرخ الفيلسوف، في موسوعة (قصة الحضارة) أنه لا يريد أن يكتب عن القادة، (فتح الاسكندر بلدة كذا سنة كذا). ولكنه يريد تصوير الموقف كله، كيف كانت البلدة؟ ومن كان يعيش بها، وكيف؟ ثم من هم جنود الاسكندر وقادتهم، وماذا حدث عند فتح البلدة وبعدها. ذلك هو تاريخ البشر الحقيقي!
لا بأس إذن من أن نسلم بأن ام درمان كانت مكتظة بالعبيد، وأن الدعارة وشرب المريسة كانا يمارسان في السر او في العلن، وأن هناك من انصار الامام المهدي من داخلهم الشك في مآل دولتهم. ولا جناح علينا ان نقبل حقيقة الصراعات والمظالم، وان نقر بأن الثورة المهدية، كما الهرة، أكلت بعض بنيها.
ولكننا نعود من حيث بدأنا فنقول أن صاحبنا لم يكتب التاريخ، وانما كتب الرواية. وعندما تقول تلك النصرانية في (شوق الدرويش): "ان اهل السودان كلهم زنوج ومتوحشون ولهم رائحة كريهة"، فذلك زعم النصاري في متن الرواية المخطوطة، لا عقيدة حمور على ظهر الارض المبسوطة! ---------------------
الجزء الثاني
في حوش الروائي حمور زيادة (2-2)
حملة التفتيش في شوق الدرويش
مصطفى عبد العزيز البطل mailto:[email protected]@msn.com (1) خيّل لي أنه وبسبب من ضراوة بعض النقد المبذول والشبهات التي أحدقت بالدرويش وشوقه نتاجاً لذلك، فإن فريقاً ممن ظن بالرواية خيراً في الزمام الثقافي السوداني آثر الانزواء جانباً، مؤقتاً على الأقل، حتى ينجلي الموقف. ومن طبيعة بعض النقاد انهم لا يأمنون العثار، ولا يخرجون من بيوتهم الا بعد انقشاع الغبار. من الذين خرجوا قبل أن ينقشع الغبار الناقد المخضرم الاستاذ عيسى الحلو، الذي أورد ضمن المساحة الراتبة المخصصة له في عدد أول أمس الثلاثاء من صحيفة (الرأي العام) ما يلى: (كانت رواية شوق الدرويش قد نالت استحساناً نقدياً من كثير من الروائيين المصريين، منهم يوسف القعيد وبهاء الطاهر. ولكن النقد السوداني مندهش لهذه الحماسة). وقد أرابتني تلك الكليمات المغموسة في محبرة الغموض، والتي لا تسهم في انقشاع الغبار، بل تزيد من كثافته. وأنا من أنصار الانقشاع، لا من جماعة الريبة. غير انني وجدت الناقد المسرحي السوداني، المقيم بدولة الامارات العربية، محمد سيد أحمد يغرف الثناء بالجاروف ويكيله للرواية كيلاً، لا يلوي على شئ. ولكن الذي لفت انتباهي حقاً مما كتب سيد احمد عن شوق الدرويش قوله أنها: (رواية ذات نفس ملحمي يصعب تصنيفها في اي شكل من اشكال الرواية المعروفة. وهي ليست رواية تاريخية، بالرغم من تناولها لفترة تاريخية واضحة في السودان، وهي فترة المهدية. وليست رواية اجتماعية تتناول سيرة حياة شخصية، بالرغم من الحكي الكثيف عن شخصية بخيت منديل وحياته الحافلة. بل هي رواية ملحمية..). بيد انه من ثوابت صناعة النقد ان الرواية الملحمية من لدن (جلجامش) السومرية، التي كتبت على الالواح الطينية عام 2000 قبل الميلاد، وحتي يوم الناس هذا، أنها تتناول في الاصل موضوعاً بطولياً يرتكز على فكرة وطنية. كما انها بالضرورة تغذي الشعور القومي، وتعزز حق الدفاع الشرعي عن بيضة الامة، وتؤسس لمبدأ فداء الوطن، وتجعل من القتال ذوداً عن حماه غايةً نبيلة (أشهر الروايات الملحمية، في القديم القريب، رواية 'الحرب والسلام' لتولستوي. أما في الحديث فدونك، أعزك الله، رواية 'زمن الخيول البيضاء' للفلسطيني ابراهيم نصر الله، التي تتناول احوال البشر في اواخر العهد العثماني، وفترة الانتداب البريطاني، ثم الغزو الصهيوني لفلسطين). والحال كذلك، فلا اظن ان مفهوم الرواية الملحمية يصلح حقاً في مورد توصيف العمل الذي بين أيدينا، ناهيك عن تقريظه تأسيساً عليه. وفي واقع الامر فإن محمد سيد احمد بإسباغه تلك الصفة على شوق الدرويش يضع حبيبنا حمور في وكرٍ ضيقٍ حرج، من حيث ابتغى له السعة ورغد العيش. فالحق الذي لا مرية فيه ان روايته تلك لا تغذي الشعور القومي، ولا تنفخ في نار الوطنية السودانية بأي وجه من الوجوه. بل أنها، في زعم البعض، تضعف ذلك الشعور، وتخفض شأنه، بل وتمحقه قولاً واحدا. وقد كنت في سبيلي لأن أمضي قدماً في تصنيف (شوق الدرويش) ضمن ما اصطلح دارسي الادب على تسميته ب(الرواية التاريخية) لولا صديقي، نزيل الجزيرة البريطانية، مختار اللخمي، الذي دلني على تصنيف جديد يحمل اسم (التخيل التاريخي). وحبيبنا مختار بن اللخمي ناقدٌ ذي قدم، دارس للسرد والسرديات، تخصص في أدب ما بعد الاستعمار، وهي موضوع رسالته للدكتوراه بجامعة شيفيلد. والتخيل التاريخي مجال جديد أقره ادوارد سعيد في سبعينيات القرن الماضي، بعد ان التقطه من العراقي عبد الله ابراهيم. ولو أن حبيبنا حمور اتقى الله فسيجعل له مخرجاً في تصنيف (التخيل التاريخي) هذا. فليصبر عليّ هُنيهة، علني اكون عوناً له على بلواه. وقديماً قيل: "يضع سره في (أجن) خلقه"! (2) من اين أتى ذلك الاحساس الممض الذي راود البعض منا بأن حمور زيادة أراد ان يتوسل بروايته الى مشاعر مثقفي المحروسة طمعاً في أن يأتيه الفالوذج على أيديهم؟ سؤال مهم. ومحاولة التوصل الى اجابة تقتضينا التسليم اولاً بأن الثورة والدولة المهدية تعتريها في علاقتها بمصر ملابسات شائكة وشديدة التعقيد. كثير من أبناء الكنانة ينظرون الي الثورة والدولة المهدية كجزء من نضال شعوب وادي النيل ضد الظلم والاضطهاد. وفي الأذهان أحمد عرابي وأحمد العوام (أحد خطباء الثورة العرابية، وقد تم اعدامه في الخرطوم على يد غردون باشا بعد ان أعلن انحيازه للثورة المهدية)، وآخرون كثر. لكن هنالك ايضاً من بين مثقفي شمال الوادي من ينظر الى المهدية نظرة قطرية ضيقة، تلونها مشاعر العزة الوطنية. والمشاعر القومية مفهوم تتشابك فيه الحقيقة والخيال، ويختلط الواقع بالوهم، بل وتداخلها الصنعة ويمازجها الابداع. وجميع الامم لها كبرياؤها القومي واساطيرها التفاخرية. وحقيقة انتصار الثورة المهدية، وهزيمة الدولة والسلطة المصرية في السودان، وتفصيلات حصار الحاميات وسقوطها، او اخراجها عن طريق الحبشة ومناطق البحيرات الاستوائية، وقائع مؤلمة تخدش الكبرياء القومية عند ذلك التيار المصري. وبذات القدر تشكل واقعة (استعادة) السودان وهزيمة الثورة والدولة المهدية مصدر فخر وعزّ لها، أعني تلك الشريحة من المثقفين. من جهة أخري ينظر السوادنة في غالب قطاعاتهم الى الثورة المهدية كثورة وطنية ضد المستعمر. وهم يعرفون الأتراك، يليهم الفرنجة البريطانيون، كمستعمرين، لا أهل مصر. بل انهم يحسبون السواد من شعب المحروسة، فئة مغلوبة على أمرها، تماماً كما غُلب السودان على أمره. مصر عندهم، كما أسلفنا، ليست الخديوي، بل هي عرابي ومعركة التل الكبير، ورفاعة رافع الطهطاوي المعلم، وأول مدرسة نظامية حديثه في السودان. ولكننا نعود فنسلّم في شأن السودانة أن هناك بين ظهرانيهم أيضاً من ينظر الى الثورة المهدية والدولة المهدية بذات المشاعر القومية المتطرفة، تلك التى وصفتها في شأن بعض مثقفي المحروسة. وربما رأى بعض هؤلاء في الثورة المهدية هزيمة لمصر وانتزاع لاستقلال السودان من براثنها، متناسين ان مصر لم تكن سوى مجرى او مِعْبر لعصر جديد يسمي عصر الاستعمار. (3) في مركز الأزمة الراهنة حول رواية شوق الدرويش، ميلها لتصوير الجيش الغازي الذى هزم الدولة المهدية على انه جيش مصر، وإغفالها بوضوح للدور البريطاني في تكوين الجيش الغازي وقيادته. هذا مع ان المؤلف يُظهر في جماع أمره معرفة مدهشة بالتاريخ، قديمه وحديثه. وذلك التهميش لدور الانجليز والامبراطورية البريطانية في غزو السودان لافت للنظر على نحو يصعب تجاوزه. في الموقع من الرواية الذي ورد فيه ذكر الانجليز صراحة، تحديداً في الصفحة 45 جاء ما يلي: (يتكون الجيش المصري الذي غزا المدينة من اجناس عدة. قوامه جند مصريون، وبعض كتائب من العسكر السودانية هم الأشد غلظة على بني جلدتهم، وقادة من الانجليز). وفي علم الكافة ان تلك العبارة لا تصف الحقيقة. نحن نعلم أنه بعد واقعة النخيلة في عطبرة استيقن كتشنر ان جيشه ليس كافياً لغزو ام درمان. يقول نعوم شقير: (فاستنصر كتشنر دولته - بريطانيا العظمي - فأنجدته بآلاي اضافي مؤلف من 4 اورط فأصبح جيشه مؤلفاً من 4 اورط سواري انكليز، و9 اورط سواري مصريين، و8 بلوكات هجانة وبطارتين مدافع انكليزية بالاضافة الى الفرقة البيادة الانكليزية وفيها آلايان بثماني اورط. وأحضر من بلاد الانجليز ثلاث مدرعات مثل التي احضرها لحملة دنقلا، فبناها في العبيدية شمالي بربر) {نعوم شقير – ص 921 و922}. هناك اذن في الجملة اثني عشر ارطة انجليزية (أربعة ارط سواري وثمانية ارط بيادة)، فضلاً عن مدرعات بريطانية، مقابل تسعة ارط مصرية). أنظر الى وصف الرواية لحال الطلقاء من سجن الخليفة :(أتتهم الحرية على بوارج الغزاة وخيولهم في سبتمبر 1898. مع دخول الجيش المصري للبلاد انكسرت دولة المهدية). لا بأس، ربما هو عرض لحالة قانونية مقتضاها ان الغزو تم تحت راية دولة الخديوي. ولكنك تستمر في القراءة، فتجد: (من يومين سقطت المدينة. بلغهم في سجنهم ان خليفة مهدي الله وقادته فروا. دخل المصريون أم درمان). مرة اخري نرى ذلك الإلحاح المثابر والرغبة الظاهرة في تأكيد أن الغزو مصري في المقام الاول. طيب اين ذهبت الجحافل من جند الانجليز، وقائدهم كتشنر، واركان حربه، وعناصر الجيش الاخرى من ذوي العيون الخضر الذين حدثنا عنهم نعوم شقير؟! وحتى حين تتطرق الرواية للشريك الحقيقي الاقوى في حملة الغزو فإنها لا تذكره بوضوح، بل تقول مثلاً بشئ من الضبابية: (وجاء الى السجن جماعة من النصارى والمصريين، اطلقوا سراح بعض من يعرفون من أكابر الناس، وتركوهم). نصارى؟! من هو المتحدث هنا؟ هل هو بخيت منديل؟ اذا كان المتحدث بخيت منديل فقد كان من الأولى، في أقل تقدير، ان يقول: (جاء الى السجن جماعة من الترك). أليس كذلك؟ في الصفحة 55 تتحدث احدي شخصيات الرواية عن الاوضاع بعد سقوط أم درمان فتقول: (المصريون لن يذهبوا. المهدية راحت. لديهم سلاح كتير. سلاح كتير جداً). ثم تعود وتقرأ: (المصريون والنصارى نقلوا الناس الى الخرطوم مرة أخرى. عمرّوا الحكمدارية القديمة، ووضعوا قوانين لكل شيء يجب ان نعتاد على ذلك). وهذا التركيز على دور المصريين وقوتهم واسلحتهم الضاربة وسلطتهم شبه المطلقة، التي تضعهم في المكان الاعلى، خلافاً للواقع التاريخي، قد يبدو للكثيرين غريباً، حتى لا نقول مريباً، بعض الشئ. ثم تعال – أعزك الله – وطالع هذا المقتطف من حوار بين شخصيتين رئيستين على مقربة من نهاية الرواية عن حملة توشكى: (رفع بصره الى بخيت: كنت في جردة النجومي الى مصر؟ / نعم / أعانوا عليكم الترك الكفار؟ / ما كان هناك ترك. كان هناك اهل مصر ..). هنا ينكر بخيت منديل، احد الذين شاركوا في حملة ود النجومي، اي دور للانجليز والاتراك والعناصر الاخرى في هذه المعركة. بل يؤكد منديل كشاهد عيان انهم لم يواجهوا أحداً سوى المصريين! ولكن الحقيقة المجردة تقول ان عبد الرحمن النجومي واجه جيشاً بريطانياً. وقد كتب سردار الجيش المصري، البريطاني الجنسية، غرانفيل باشا، يهدد ود النجومي ويقول له: (ان قائدي على المنطقة وود هاوس [وهو ايضا بريطاني] أخبرني بتهجمك على الحدود). ووعد البريطاني غرانفيل ود النجومي بسلامته ان استسلم، قائلاً: (هذا وعد من جنرال انكليزي)، كما ورد في نص رسالته! أما عن عن معركة توشكى نفسها فهاك بعض من وصف نعوم شقير الموظف بقلم الاستخبارات البريطانية لها: (وكان السردار قد حشد اليها من أسوان الجيوش المصرية والجيوش الانكليزية. وهو في انتظار الجنود الانكليزية الاخرى المرسلة من مصر). ويمضى نعوم شقير فيفصل قليلاً: (الاسلحة الراكبة وفيها 409 فرسان من السواري الانكليز الهوسار بقيادة الجنرال كتشنر). (4) شاع مصطلح (الرواية التاريخية)، كما أوردنا في عرضنا السابق لرواية ليلى ابو العلا (حارة المغني)، بعد ظهور روايات تاريخ الاسلام لجورجي زيدان، مثل: فتاة غسان، وشجرة الدر، وفتاة القيروان، والذي حاول من خلالها زيدان حمل الناس على قراءة التاريخ الاسلامي في قالب روائي يتسم بالتشويق والإثارة، دون الكلل والملل الذي تسببه قراءة المدونات الأكاديمية المطولة الجافة مثل الطبري والبلاذري. ثم تبعه شيخ الروائيين العرب، نجيب محفوظ، في صياغته للتاريخ الفرعوني في قوالب روائية كما تمثل في ثلاثية : عبث الأقدار، و كفاح طيبة، و رادوبيس. ولكن الله قيض للناقد العراقي الفذ الدكتور عبد الله ابراهيم أخيرا أن يعيد قراءة مصطلح (الرواية التاريخية)، بعد ان قرر أنه مصطلح (صحفي) أكثر منه مصطلحاً نقدياً أدبياً. فابتدع مصطلح (التخيل التاريخي)، لكي يميز بين الروايات التاريخية التي تتناول أحداثاً تاريخية في قالب روائي، وبين الروايات التي تستلهم أحداثاً من التاريخ لكي تطرح موضوعة الرواية. وهذه الاخيرة هي التي يبدو لي أن حمور أرادها. هو إذن لم يتناول احداث التاريخ، فلا تثريب عليه، بل استلهمها استلهاماً، ثم صنع منها شوق الدرويش. (5) ولكن الجدل الذي ما فتئت تثيره رواية (شوق الدرويش) سيظل يطرح وبإلحاح شديد علاقة الرواية بالتاريخ، بحسبان أن كليهما، الرواية والتاريخ، يقومان على السرد. والسرد هو تمثيل او تصوير، صادق او كاذب، للحقيقة. وبحسب إدوارد سعيد في (الاستشراق) فإنه لا توجد أصلاً حقيقة، وانما هناك دائماً تمثيل او تصوير للحقيقة. والتمثيل او التصوير يخضعان بالضرورة لتحيزات الفرد وخلفيته الثقافية، والمؤسسات التي تحيط به وتؤطره، فالناس لا ينطلقون، ولا يتحدثون من فراغ. وسعيد لم يغادر الحقيقة قيد أنملة. أنظر الى جموع الموالين والمعارضين لنظام الانقاذ القائم في بلادنا، ألا تراهم يؤسسون و(يسردون) وقائعه كلٌ من زاوية انحيازاته؟ هل رأيت، أعزك الله، التصاوير الفوتوغرافية التي ملأت مجموعات (الواتساب) لاستاد المريخ بام درمان عند تدشين مساعد الرئيس ووالي الخرطوم لحملة ترشيح المشير البشير الاسبوع الماضي؟ المعارضون صوروا المدرجات الفارغة خلف المنصة الرئيسية بكاميرات هواتفهم، ومن ثمّ حملوا تصاويرهم فتبادلوها، ونشروها حول العالم مبشرين بأن الحملة قد فشلت فشلاً مزرياً. أما الموالون فقد صوروا المدرجات الرئيسية أمام المنصة وقد اكتظت بحشود من البشر، فنشروها مسرورين محبورين، يزعمون ان الجماهير الهادرة تصطف خلف الرئيس وحزبه الحاكم! الحدث واحد، والتاريخ واحد، والمكان (استاد المريخ) واحد. وهناك (تصوير) للحقيقة من هنا ومن هناك، ولكن بصيغتين مختلفتين. أما الحقيقة نفسها، فلا وجود لها. وتلك إحدى أضاليل الخطاب والتصوير والتمثيل السردي بحسب ادوارد سعيد. فأما جوهرها فهو أن التاريخ لا يعدو ان يكون تمثيلاً سردياً لأحداث وقعت بالفعل. وهنا نجد ان كل (مصوّر) او (سارد) يقدم وصفاً لوقائع ذلك التاريخ من زاويته. أما الرواية كمنتوج ابداعي في مذهب (التخيل التاريخي) فهي تمثيل سردي يستند على تقنيات خاصة، تلامس الواقع، تماماً كما تلامس الخيال، ولا يمكن بالتالي محاكمتها على انها الواقع بذاته وصفاته. وتأسيساً على ما تقدم فإنه من المؤكد ان قاضي التحقيق سيشطب الاتهامات الموجهة لمؤلف (شوق الدرويش) عند اول جلسة، لانعدام الاختصاص، ثم لانعدام الفعل المخالف للقانون اصلاً! والواقع ان العراقي عبد الله ابراهيم عندما سئل عن سبب ابتداعه لمصطلح (التخيل التاريخي) لكي يحل محل (الرواية التاريخية) ذكر انه سعى بذلك الى تفكيك ثنائية الرواية والتاريخ، ومن ثم اعادة صياغتها في هوية سردية جديدة. والهدف ان يؤدي ذلك الى تجاوز أمر المطابقة بين التخيلات الروائية والمرجعيات التاريخية. أى ألا تحمل الرواية وقائع التاريخ، وانما تبحث في اضابيره عن العبر المتناظرة بين الحاضر والماضي، التماساً للعظات والدروس، والتبصر في القيم والمصائر والتطلعات الكبرى، ثم تجعل من كل ذلك اطاراً ناظماً لأحداثها. وذلك عين ما فعله حمور. (6) قال الصحافي والناقد عبد الحفيظ مريود: (حمور زيادة لم يكتب "ما يطلبه المصريون"). وقد حكم الرجل فعدل، وأنا اشاطره الرأي. ثم أضاف: (لقد كتب ما يكرهه السودانيون). وأراه قد شطح ونطح، وسدر في الغي الموفي بأهله على النار. حاشاه صاحبي هذا. هو من أهل الجنة ان شاء الله، لو أنه استبرأ من ظنه الآثم، وأحسن الظن بأهله. وجاء في مقالة للناقد المصري صلاح فضل: (لقد كنا نعد رواية "موسم الهجرة الى الشمال" هي الركيزة الاولى للأدب السردي في السودان حتى الآن. ولكن رواية "شوق الدرويش" تأتي لتعيد ترسيم الحدود). أى حدود يا هذا التي يُعاد ترسيمها؟ الرجل من فرط حماسته للرواية يريد ان يزحزح الحجر الذي يتوسده في قبره عمنا الطيب صالح! وأنا لا أجد تفسيراً لما كتبه هذا الناقد المصري "سوى ان يكون قد جنّ". وها أنا أعود الى (سيرة البحر)! ولكن مالي أنا وما يقول الناس؟ هذا مقالي. الكلمة الفصل فيه كلمتي. وأنا أقول وبالله التوفيق: رواية (شوق الدرويش) انجاز رفيع ومتفرد. وهي مستقاة، او بالاحرى مستوحاة، من التاريخ. تماماً كما استوحى نجيب محفوظ من تاريخ قريب، واستوحى يوسف زيدان من تاريخ بعيد. والعمل الروائي لا يتم تقويمه فقط من خلال (الثيمة) او الموضوعة. الحق أن اهم عناصر التقويم في هذا الضرب من الفنون هي البناء الفني والتشبيك السردي، والحبك، والشخوص، واللغة، وغير ذلك من المهارات الفنية في توظيف التقنيات، وإلا لأصبح الكل روائياً يشار اليه بالبنان. شوق الدرويش بغير شك رواية شديدة الثراء، صيغت بدرجة عالية من الإحكام التقني. وهي تزخر بالرؤي والأحداث والوقائع، كما تتعدد فيها الاصوات، ويتألق الحوار بين شخصياتها المنحوتة بعناية، بحيث تبدو ملامحها النفسية والاجتماعية والمادية بوضوح شديد، حتى يبلغ في بعض الاحيان ذراً عالية من الفلسفة والحكمة والابداع الانساني. إن كل عمل أدبي او فني لا بد ان يقع موقعاً حسناً عند البعض، وموقعاً يقل شأناً عند آخرين. نصيحتي لمن يقرأون هذه الرواية ألا يقعوا أسري الافراط ان هم استحسنوها، كما فعل صلاح فضل عندما وضع حمور في مرتبة الروائي العالمي الطيب صالح، ثم طالبنا بإعادة ترسيم حدودنا تأسيساً على ذلك. وألا يجنحوا الى التفريط إن هي تقاصرت عن الوفاء بأشواق البعض منا، شأن اولئك الذين أساءوا الظن بشغل هذا الحبيب، فانسربوا الى أغوار قلبه، وساءلوا ضميره، ثم كالوا له من الاحكام الجزاف كيلا. )7) ونحن، من بعد، أحرياء أن نفخر بابننا حمور محمد زيادة حمور، وأن نوالي بروح المحبة والإعزاز مسيرته القاصدة، وهو يحث الخطى في دروب الابداع فيصيب نجاحاً هو به قمين. ومن حقه علينا ان نربت على كتفه، وان نشدّ على يده، وان نقول له: أحسنت. ثم ندعو له بتمام التوفيق وكمال المقصد. نسأل الله، تبارك اسمه وجل ثناه، ان يأخذ بيد هذا الفتى الى ما يُحب ويرضى، وان يجعله وإيانا من الذين آمنوا واطمأنت قلوبهم بذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
نقلاً عن صحيفة (السوداني)
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- الفيتوري بين يدي طلحة جبريل بقلم مصطفى عبد العزيز البطل 03-08-15, 08:52 PM, مصطفى عبد العزيز البطل
- غربا باتجاه الشرق في سيرة البشير والنميري وتشيرشل مصطفى عبد العزيز البطل 10-06-13, 06:52 PM, مصطفى عبد العزيز البطل
- غربا باتجاه الشرق الإضراب والكباب! مصطفى عبد العزيز البطل 10-04-13, 03:58 PM, مصطفى عبد العزيز البطل
- توقيعات في دفتر هبة سبتمبر/مصطفى عبد العزيز البطل 10-01-13, 03:13 AM, مصطفى عبد العزيز البطل
- غربا باتجاه الشرق في سيرة البصاصين السودانيين الأمريكيين مصطفى عبد العزيز البطل 09-23-13, 05:39 AM, مصطفى عبد العزيز البطل
- مرشد الحبايب الى فهم أشعار النائب مصطفى عبد العزيز البطل 09-19-13, 06:37 PM, مصطفى عبد العزيز البطل
- وأين نور الشقائق من مي زيادة؟ حسن الجزولي وشخصية فوز مصطفى عبد العزيز 09-15-13, 07:04 AM, مصطفى عبد العزيز البطل
- غربا باتجاه الشرق الملايين والملاليم في نضال هالة عبدالحليم 09-09-13, 05:33 AM, مصطفى عبد العزيز البطل
- عندما يرفع ضابط الأمن شارة النصر مصطفى عبد العزيز البطل 09-02-13, 06:41 AM, مصطفى عبد العزيز البطل
|
|
|
|
|
|