|
الثقافــة النوبــية .... و خطــر الذوبان
|
بقلم : مراد عبدالله
لكل أمــة مــن لأمم ، و لكل مجتمع مــن المجتمعات الإنسانية ثقافــة تحــدد الإطار الذي يضبط سلوك أفرادها ، و يوضح معالم فكرها الذي بدوره يرسم إطار السلوك الإجتماعي لأفراد هــذا المجتمع أو ذاك ، لتتميّز بها عــن أمم أخرى و هــذه الخصائص المميزة يعرف بها نوع و نمط و نهج أي شعب أو أمة و مجتمع . إن قــدرة الأمم و الشعوب على مواجهــة التيارات الفكرية و االثقافية و الوافــدة مـن المجتمعات والأمم الأخرى يتوقف على نوعية و صلابة ووضوح المنهج الثقافي الذي تقوم عليه لحمة نظامها الإجتماعي. واللغــة النوبية و لهجاتها المتنوعــة تمثل العمود الفقري للثقافة النوبية مــنذ آلآف السنين و استطاع النوبة بواسطة ثقافتهم أن يقدموا للبشرية حضارة عظيمة مازالت شواهدها قائمة إلى اليوم تمثلت في إكتشاف الحديد و صهره و الأهــرامات التي بناها الكوشيون بفترة سبقت بتاء الاهرامات المصرية بالف و خمسمائة عام، و ظلت هــذه الثقافة المصدر الذي يستقي منه النوبه ، و على أساسه و توجيهاته و أدبياته الثقافية يقوم بناؤهم الثقافي ، و يستمدون من ثقافتهم الحماية عند تكالب الأعــداء و النيل من أسسها و روحها التي يرتكز عليها أعــداء النوبة بقصــد إجتثاثهم ، و القضاء على مصــدر القــوة الذي عليه يعتمدون و به يصمــدون أمام المخططات التي تهــدف لفك الوثاق الإجتماعي للنوبه و طمس مقومات وجودهم . رغــم كل ما تعرضت له الثقافة النوبية من زلازل فظيعة إلا أنها استطاعت أن تبقى حية و ستبقى المعين الصافى الذي يروي ظمأ النوبه على مدار تاريخهم فلا تنحني أو تنطوي أمام الثقافات الوافــدة و إنما تسموا عليها و تستوعبها دون أن تذوب فيها . المفهوم الإصطلاحي للثقافة : ويقصــد به وجهــة نظر كل فرد من حيث السلوك و العلاقات الأسرية ، و اتجاهاته الفكرية و نشاطاته ، و ما يتضمنه ذلك من واجبات ، و ما يرتبط به من محددات للذوق و الأخلاق ، و ما يقدمه و يظهره الفرد من ولاء لثقافته ، فكل هــذه المعطيات تشكل ما يسمى بثقافة الفرد أو المجتمع ، فالثقافة تحدد نسق الحياة من خلال خصائصها المتمثلة في اشتراك جميع أفراد المجتمع بالخضوع لها في سلوكياتهم ، و بالتالي يكون للثقافة دور في وضع معايير منتظمة و طبيعية كقواعــد مشتركة للسلوك و النظام الإجتماعي المعتمد على القواعــد الأخلاقية . إن دور الثقافة النوبيه في تحديد سلوكيات و أنماط أفراد النوبه يتمثل في التالي : 1- تهيئة مناخ التفكير عند النوبه . 2- تزويد النوبه بالمفاهيم المبدئية التي تحدد أو تفرق بين ما هــو طبيعي وغير طبيعي و منطقي و غير منطقي و عادي و شاذ و عدل و ظلم إلي آخر هذه المعاني الضرورية التي تعكس نمط أي مجتمع انساني و حضاري . و التي تبرز الثقافة كقوة دافعة للحياة و مصدر الهام للفنون. 3- خلق الشعور لدى فرد النوبة بإنتمائه للنوبه . لقــد أدرك أعداء النوبه أن النوبه لا يمكن هزيمتهم ماداموا مرتبطين بثقافتهم و لغتهم لذا أخذت الهجمة و الحرب طابعا آخرا مغاييرا عما سبق بعــد أن أدركت أن القضاء على النوبه لا يمكن أن يتم عسكريا أو بالإستيلاء على أراضيهم و تشريدهم في الأرض ، و إنما لابد من القضاء على البنية الثقافية و اللغوية للنوبه و تراثهم الغني . و المنهج الذي اتبعه أعــداء النوبه عبر كل الحكومات التي تعاقبت على حكم السودان منذ استقلاله و إلي الآن لفك إرتباط النوبه بلغتهم و ثقافتهم و تراثهم المتفرد و المتنوع يتمثل في الآتي : 1- إضعاف اللغة النوبية من خلال الدعــوة إلي التمسك باللغة العربية و نشرها من خلال المناهج التعليمية التي حاربت اللغة النوبيه . و تحضرني هنا بعض ذكريات الطفولة عندما كنا طلابا في الإبتدائية بعد أن هاجر آباؤنا من الجبال إلي الشمال بقصد العمل. حيث كنا نكثر الكلام بلغتنا النوبيه بمجرد خروجنا من الفصل و أحيانا داخل الفصل وكان المعلمون لا يرغبون في هذا بل كنا نعافب احيانا ، و المؤسف أن بعض الآباء أشربوا هــذه السياسة فكانوا يرون أن الولد الذي يتكلم العربية بطلاقة دون أن يتكلم اللغة النوبيه هو الأفضل بين أقرانه مماوسع الهــوة بين الأجيال المتأخرة و لغتهم الأم .. 2- إجهاض كل النظم التي تهـدف لإحياء الثقافة النوبية و محاربة أي توجهات تربوية تقوم على البناء الثقافي المرتكز على الثقافة النوبية . 3- سن القوانين والتشريعات الداعمــة والمكرســة للفكر القومي العربي بغرض وأد أي حركة تعمل على بعث الثقافة والهوية الأفريقية في السودان . 4- استهداف و ضرب الوعي النوبي من خلال الإبقاء على القيادات الضعيفة و المغلوبة على أمرها وتوجيههم لمحاربة أهلهم من خلال القضاء على القيادات السياسية و الإجتماعية الشابة و الحية المدركة لضرورة التمسك باللغة والثقافة النوبية والعمل على تطويرها ودعمها للإنعتاق من السيطرة العربية على النوبة . 5- التمكين للثقافة العربية في مواطن النوبه و ذلك بزعزعة القيم من خلال السيطرة على وسائل الإعلام من صحافة و إذاعــة و تلفزة و استخدامها قنوات للهدم الثقافي وا لسلوكي و الإجتماعي للنوبة، بتوجيهها للنوبه ليتمسكوا بالقيم الإجتماعية والثقافية العربية مما يؤدي إلي التفسخ الإجتماعي و الذوبان الثقافي للنوبه .
إن مجابهة هــذه الحرب تقتضي من النوبه أفرادا وجماعات العــودة إلي الأصــول التي تمنحهم القوة و القدرة على الصمود تجاه هــذه الحرب الشرسة و المدمرة المعلنة ضــد البناء الثقافي للنوبه وذلك وفقا للآتي : 1- العمل على نشر اللغة النوبية و لهجاتها وإحيائها وجعل تدريسها إلزاميا للصغار والكبار 2- ضرورة التقريب بين اللهجات النوبية بغرض خلق لغة مشتركة بين النوبة و تضمينها فى المناهج الدراسية . 3- ضرورة تخصيص إسبوعا ثقافيا سنويا لإحياء وممارســة الثقافة النوبية و توريثها للأجيال وتعريف العالم الخارجي بغنى تراثها . 4- ضرورة إعادة التواصل ما بين نوبه الشمال و نوبه الجبال و مــد الجسور لإعادة العلاقات بين إخــوة الــدم . إن ما أنعم الله به على السودان من تنوع فريد في التركيبة البشرية كان من الممكن أن يوجــد تنوعا فريدا يعيش في تقارب و تناغم و يقــدم نموذجا رائعا لشعوب و أمم العالم قاطبة تحقيقا لقوله تعالى ( إن في إختلاف ألوانكم وألسنتكم لآيات لقوم يتفكرون ) و يفهم من الآية الكريمة أن محاربة البشر بسبب ألوانهم أو السنتهم هـو تعطيل للعقل و تحويل للفكر الإيجابي إلي الفكرالإرهابي النازي الذي لا يؤمن بتكامل الحضارات و تلاقح الثقافات ، و إنما بالنقاء للجنس الآري و فوقيته على كافة أجناس البشرية ، و هــي ذات النازية التي أراد القوم نشرها في السودان و من سمات هــذه النازية على مستوى القاموس السياسي السوداني أوضح من أن يشار اليها فهناك كثير من العناوين المنحازة التي يقحم بها في الخطاب السياسي السوداني ، فمثلا وصف السودان بأنه قطر عربي هذا الوصف فيه تجاوز كبير على السواد الأعظم من السودانيين الأفارقة ، و أيضا تعريف العرب بالأشقاء و الأفارقة بالأصدقاء ؟ و تسمية السودان بسلة غذاء العالم العربي دون العالم الأفريقي ، إلي ما غير ذلك من المفاهيم التي يجب أن تغيير إذا أردنا بناءا يقوم على التعددية الثقافية . إلا أن القوم لا يريدونها تلاقحا ثقافيا و إنما تبعية ثقافية تتبع فيها الثقافة الأفريقية للثقافة العربية ، عــن طريق القهر السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي ، إلي ما غير ذلك من وسائل الضغط الإجرامية التي مارستها الأنظمة الجاهلية التي تعاقبت على حكم السودان . مما حدا بقطاعات واسعة من أبناء الشعب في كل من جنوب السودان و جبال النوبه و إقليم الفونج و البجا و أخيرا في دارفــور لحمل السلاح ضد الظلم و التمييز العنصري السافر. إن الطريق الوحيد للخروج بالسودان من هــذا النفق المظلم هــو أن نعمل جميعا لترسيخ مفهوم السيادة لدى الفرد والمجتمع ، ولا أعني بالسيادة التمترس خلف الحـدود وإغلاق الأبواب في وجوه الآخرين و إنما السيادة التي تجعل الفرد والمجتمع قادرا على التأثير في الآخرين و التأثر بهم . و هــذه هي المفاهيم و القيم التي نؤمن بها و هي زادنا في مسيرتنا القاصدة لبناء سودان جديد .
|
|
|
|
|
|