ما زلنا في امدرمان أنموذج السودان المصغر بتعدد قبائله وشعوبه والذين انصهروا في بوتقة أنتجت الأنسان السوداني الأمدرماني والذي جمع وأوعي وصار نسيج وحده سلوكا" وتحضرا" ، ولم تكن المدينة بهذا الأتساع في النصف الأول من القرن العشرين الماضي فقد كان حدها من الشمال أحيآء ود نوباوي والكبجاب ، ويحدها من الجنوب حى الموردة وبانت ، ومن الغرب أحياء العباسية وابو كدوك وحي العرب والعرضة والبوستة ومن الشرق أحياء أبو روف وبيت المال ، وكان بامكان المرء ذرع شوارعها الترابية كلها علي قدميه وكانت الأقدام هي وسيلة التنقل للغالبية العظمي من السكان ، وكانت العربات القليلة لديها لوحات تبدأ بالحرف ( خ ) ويرمز لمديرية الخرطوم ويليه رقم العربية ( مثلا خ 15 ) ، واللتندر كان الشخص يقول ـ جئت راكبا"خ 2 ـ ويرمز الرقم 2 الي قدميه أي جآء ( كداري) ، أما وسيلة التنقل الرئيسة من امدرمان الي الخرطوم فهي الترام الذي يشق المدينة من شمالها من المحطة الوسطي بسوق امدرمان الكبير الي جنوبها ثم الي المحطة الوسطي بالخرطوم عبر كوبري النيل الأبيض ، كما أن هناك امتداد للترام من المحطة الوسطي بامدرمان وحتي شاطئ النيل بأبو روف عند معدية شمبات أما وسيلة النقل والتنقل الرئيسة كانت هي الحمير ، وكانت للركوب والحمل ، وكانت أنواعا" مثل ماركات العربات اليوم وكان أعلاها منزلة وأغلاها ثمنا" هي الحمير الحساوي وينطقونها الحصاوي وهي تنتسب الي منطقة الأحسآء في المنطقة الشرقية لجزيرة العرب ، والحمار الحساوي ضخم وعالي وجميل الشكل وكلن يقتنيه كبار التجار والسراة والوجهاء وهذا النوع من الحمير يدل علي المكانة الأجتماعية المتميزة لصاحبه مثل العربات الفخمة الفاخرة اليوم وكان يعلو الحمار فروة وسرج مزركش فخم ، ويزين جسمه حلاقة جميلة مثل رؤوس البشر وقد كان هناك حلاقون مختصين بحلاقة الحمير ( الأرستقراطية ) ، وكان النوع الثاني من الحمير وهو الغالب متوسط الحجم وتستخدم في الحمل والنقل وهي حمير الحمارة ، وهذه الحمير تعيسة فهي تعمل كثيرا" وتأكل قليلا" وتنال نصيبا" وافيا" من الضرب والسب واللعن من صاحبها ، وهناك النوع الثالث من الحمير وهي صغيرة الأحجام منكسة الرؤوس دائما"ويطلق عليها اسم ( الحمير الدبلاوي )، وهذه يحمل عليها التراب وخا صة نراب ( الرقيطة) والذي يوضع علي سطح منازل الطين بديلا عن الزبالة لمنع مآء المطر من التسرب داخل الحجرات ، وعادة ما يمتلك صاحبها عددا" منها يتراوح ما بين الخمسة والسيعة ، ويحمل الحمار خرجبن من السعف علي جانبيه ممتلئين بالتراب ...وكان يوجد في حيشان منازل امدرمان القديمة من الخارج حلقات من الحديد يربط عليها حمير الضيوف وما زال بعضها موجودا" حتي اليوم في بعض الحيشان . وننتقل الي نوع آخر من أنشطة الحياة السائدة آنذاك وهو الولائم التي كانت تقام في الأعراس فانها لم تكن مثل العزايم اليوم طعامها في صحون من الورق و البلاستك ويحتوي الطبق منها علي عينات من الأكل ( قطعة صغيرة من كل من الجبن والطعمية واللحم أو السمك والسلطة والباسطة ) ، فقد كانت سفرة كاملة ويشغل كل سفرة عشرة من المدعوين ، ويقدم الطعام بترتيب معين يبدأ بالشوربة ثم الضلع والمكرونة ويليها السلطات والمحشي وصحن الكبدة ونوع أو نوعين من الخضروات وبعدها يفدم الحلو من الكستر ويليه الخشاف ، ولم يكن ذلك بذخا" أو ترفا" فقد كانت المعيشة رخية واسعار الحاجيات رخيصة ، حتي أن مهر العروس نفسها كان يتراوح بين الثلاثين والخمسين جنيها" ، ( والسوا ألعجب يدفع مائة جنيه للمهر ) ! وكان يقوم بالخدمة الشبان من أصدقاء العريس وأصحابه كما يقوم الأولاد بصب الماء من أباريق لغسيل الأيدي قبل وبعد الفراق من الأكل في طشت صغير أو صحن غسيل ، وبعد ذلك يقدم الشاي للضيوف ويكون ختاما" للوليمة .. واذكر أنه في مرة في وليمة كنت أقدم أطباق الطعام ولما جاء دور تقديم الحلو قدمت الخشاف قبل الكستر ، فأثرت معارضة محتجة وكأني غلطت في صحيح البخاري ! ودافعت عن وجهة نظري وهي أن الملاعق ( تجلبط ) بالكستر وسيدخلونها بعد ذلك في الخشاف مما يلوثه ، وكان يتم التعاقد مع طباخين مشهورين مختصين بأعداد الولائم للأعراس ويتعهدون بالقيام بكل لوازم العزومة من زيوت وبهارات وخضروات وذبح الخرفان وطهو الطعام للاعداد الغفيرة من المدعوين وكان من أشهرهم في الموردة المرحوم احمد الحلواني المعروف (( بأحمد حبس كبس ) . ونأتي بعد ذلك لي نوع آخر من الولائم وهو يوم الكرامة وهذه يدعون لها البسطآء والفقرآء وهي ذبائح الصدقات التي يقدم فيها اللحم مع الفتة صدقة علي روح الميت ، وكانت هذه يدعون لها الحيران من مسجد مرفعين الفقرا بشارع الأربعين فيحضرون في اليوم الأخير للمأتم ( رفع الفراش ) ويحضرون معهم ثلاثين كتابا" لأجزآء القرآن ويجلسون في حلقة ويتوزعون الكتب بينهم ثم يبدأون القرآءة جهرا" بطريقة سريعة ميكانيكية حتي يفرغون من اكمال القرآن ثم يدعون للميت ، وبعدها يقدمون اليهم قصاع الفتة ويعطونهم قطعا" من من قماش الدبلان أو الدمورية وتصلح كل قطعة منها لعمل جلابية أو قميص ( عراقي) ، وهناك فريق متخصص في تتبع الصدقات يسمونهم ( الفتاتة) وشيخهم أو رئيسهم يدعي سعد الدين وكان شخصية ظريفة يحلو للناس مداعبته والحديث معه وردا" علي اسئلة البعض يقول لهم أن المباراة القادمة خطيرة وستكون بين الهلال والمريخ ويقصد بذلك أن الصدقة وافرة وغنية ولا تحتوي علي الفتة فقط بل تحتوي علي صواني الطبيخ واللحم وهذه الصدقات عادة ما تكون عند الأثريآء .. وهناك نوع آخر من الصدقات يسمونه ( الرحمتات ) ، وهذا يعمل وفآء لنذر ويدعي له أطفال الخلوة بعد الأتفاق مع الفكي أو أخذ الأذن منه وعادة ما يسأل الحوار الكبير عن نوع الفتة بقوله ( الفتة دبلان ولا دمورية ) ، وتعني الدبلان الفتة بالخبز والدمورية الفتة بالدمورية الفتة بالكسرة والتي لا تجد اقبالا" من الأولاد ، وكان يقدم للأولاد بعد أكل الفتة التمر المنقوع في كورة كبيرة وكان يحدث معركة صغيرة للحصول علي التمر واحتسآء الشراب المنقوع بينما يحاول الحوار عبثا" تنظيم الجمع ، وكان للأولاد أهزوجة منغمة يرددونها وهم سلئرين تقول بعض أبياتها : ـالحارة ما مرقت ــ ست الدوكة ما بركت قشاية قشاية ـ ست الدوكة مشاية ليمونة ليمونة ــ ست الدوكة مجنونة ....وكان أهل المنزل يحتفظون لأطفال المنزل بالتمر ومنقوعه في آنية مستديرة الشكل من الفخار تشبه براد الشاي المستدير وكانت تصنع هذه الآنية في فريق تاما غرب سوق الموردة ....وهناك أيفاء بالنذور بطريقة أخري وهي عمل أو ( شد ) البليلة من الذرة وتكون العملية أمام باب المنزل في الشارع والتي ما تكون غالبا" في المغرب ، وكذلك قهوة سيدي الحسن ، وقد كتبت عنها في مقال سابق ... هلال زاهر الساداتي 19 مايو 2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة