|
التلغراف بقلم أحمد شوقي بدرى
|
كان عبد الباقي يمني نفسه بزيارة قريبه الذي اصيب في حادث سير في الامارات ، وان يعود سريعا من المستشفي، للانضمام الي جلسة يوم الجمعة التي يقضونها في لعب والورق والدردشة . وكان بينهم من يشرب ويردد الاغاني السودانية مع المسجل . ويحن الي الوطن . واضطر عبد الباقي للتأخر قليلا لان اسرة سودانية تواجدت في المستشفي تربطهم به صداقة . كانوا في زيارة ابن بلدتهم لان احد الجمال قد قام بعضه . فهو راعي ابل .
وبعد الاطمئنان علي الراعي ، وتهنئته بالسلامة ، اضطر لتناول قطعتين من الحلوي التي تلتصق بالاسنان . وكانت تقدم للجميع كنوع من الاحتفال بنجاة الراعي ، الذي كان يقول انه تدخل لحماية جمل آخر كان يتعرض للعض . وقام الجمل بالانتقام من الراعي ، لتدخله فيما لا يعنيه , فهو ليس من ذوات الاربع .
بينما عبد الباقي علي وشك الخروج سمع صوتا يناديه . واكتشف ان صديقه مختار وغريمه في لعب الورق كان في زيارة خاله الذي كان طريح الفراش. بسبب اصابته بالالتهاب الرئوي . واضطرللتواجد معهما لبعض الوقت كما تقتضي الظروف . وفجأة ياتي رجل طويل القامة ممتلئ الجسم تحيطه هالة من الاهميه . وتعلوا راسه عمامة سودانية ضخمة تحلي نهايتها انواع متطورة من التطريز . وكانها تاج لمهراجا هندي . وعلي الكتفين ملفحة تماثل العمامة . ويصاحبه عطر قوي ، في اصبعه خاتم ضخم . وكانت تحيته جافة ومقتضبة . ولكن السوداني الآخر كان اقل غطرسة واكثر ودا . ويتبعهما اثنين من رجال الخليج في هندام جميل وشعور بالاهمية . واستدعي الخال ابن اخته مختار وطلب منه همسا ان ينتظره في الخارج . وخرج الخليجيان ، ووقفا بعيدا .
ومن داخل الغرفة التي كانت في جناح خاص كان صوت الخال يصل الي خارج الغرفة. وفي بعض الاحيان يغالب السعال ويضحك ساخرا . ويقول للزائرين ، ان في امكانهما ان يفعلا ما يريدان . وانه يتمني ان تكون تلك آخر زيارة لهما . وبعدها خرج الشيخ غاضبا وخلفة بقية الركب . وحياه مختارومودعا . واصفا له ، بشيخنا .
رفيقه الشيخ حسب الرسول كان اكثر لطفا . تبسط مع مختار وسأله عن حاله وحال اسرته . ولكن كان يظهر عليه بعض الضيق والحيرة . واسرع الخطي لكي يلحق بالبقية الذين كانوا يمتطون سيارة مرسيدس من آخر الموديلات الضخمة .
نسي عبد الباقي الحادث . ولكن عندما ذهب لزيارة صديقه مختار وجد خاله قد تماثل للشفاء ويسكن معة . الا انه يصر علي تخفيض يرودة المكيف الي درجة تضايق الآخرين ،خاصة من تعودعلي العيش في دول الخليج . وكان المكيف هو السبب في اصابة الخال بالالتهاب الرئوي .
وتردد عبد الباقي علي صديقه مختار . وتوطدت العلاقة بينه وبين الخال سيد . وجد فيه رجلا سريع البديهة ، يميل الي الدعابة . وله المام بالادب ويقرأ حتي المجلات الانجليزية .
في احد الايام ذهب عبد الباقي لصديقه مختار ولم يجده . واراد ان يعتذر الا ان الخال سيد ناشده للبقاء فقد كان يشكو من الوحدة . ولم يلبث ان طلب منه الحصول علي بعض الكونياك . لان الاخصائي البريطاني الذ كان اسمه علي اللوحة التي تعلو سرير المريض ، قد اوصاه بتناول الكونياك لكي يستعيد بعض قوته . ولكن كان يبدو ان وصية الطبيب ليست السبب الوحيد .
وبعد عدة كئوس والدردشة . قام عبد الباقي بسؤال الخال سيد عن حادثة المستشفي وسبب تهديدات الشيخ الحيلاني الذي صار معروفا في السودان والخليج . فضحك الخال سيد بصوت عال . وقال ان السبب هو التلغراف . ولم يفهم عبد الباقي شيئا .
بعد اكمال المدرسة الوسطي التحق سيد وقريبه حسب الرسول بمدرسة البريد والبرق . وتخرجا بعد اكمال الدراسة. وكان ذالك يعني ان جميع من سيعملون في تلك الوظيفة الحكومية سيواصلون الي نهاية خدمتهم . وان مستقبلهم قد صار مضمونا . وسيتنقلون في كل ارجاء السودان . وسيعقدون صداقات رائعة ، هنا وهناك. وقد يصلون الي رتبة وكيل لمحطة بريدية كبيرة . ويحالون الي المعاش بشروط مجزية . وفي امكانهم ان يجدوا عملا اضافيا لتحسين وضعهم المالي بعد التقاعد . السودان كان قد عرف التلغراف في منتصف القرن التاسع عشر , ولم يكن هنالك اي احتمال ان تتوقف حاجة السودان للبرق.
ولكن في نهايه حكم نميري العسكري. اختلت الامور . ولم يعد المرتب يكفي اسرة الموظف . واستعاض الناس من التلغراف بالتلفون . وسقطت اعمدة التلغراف بسبب السيول والامطار . ولم يعيدوا تركيبها . وكان البريد يستلم البرقيات ويقوم بارسالها عن طريق المركبات السفرية . كما دخل البريد في مشاكل عديدة بخصوص البرقيات الكيدية . مثل ارسال خبر موت انسان لا يزال ينعم بالحياة . او طلب حضور شخص لاسباب لا وجود لها . واقلع الكثيرون عن ارسال البرقيات .
قرر الخال سيد وقريبه حسب الرسول تبديل معاشهم والاستثمار في شاحنة . وستصير الشاحنة شاحنتين في ظرف عامين . وستتكاثر الشاحنات . ولكن ما حدث هو انهم وجدوا انفسهم تحت رحمة السائقين والميكانيكيين، . واضطرا علي التناوب في قيادة الشاحنة . وصارت حياتهم تنقلا وجحيما ..
في احد الايام كان احد متعهدي الشحن يقول لآخر، انه سيعطي سائق الشاحنة الخضراء نصف الثمن لانه علي ما يبدوا ليس من السائقين الحقيقيين ، ولا يعرف الاسعار . وعندما عرض المتعهد السعر علي حسب الرسول ، قام سيد بدون ان يفكر في الطرق علي مقدمة الشاحنة . وكانت تلك اول رسالة تلغرافية يرسلها منذ ان ترك العمل في البريد . وفهم حسب الرسول الرسالة . واصر علي مضاعفة السعر .
الجيلاني كان يبحث عن اي عمل بعد ان قامت حكومة الانقاذ بتصفية 70 الفا من خيرة المتعلمين السودانيين . وذالك لتمكين كوادرها من المتأسلمين من القبض بتلابيب البلاد والعباد . وجففت مرافق الدولة . وقامت الانقاذ ببيعها لكوادرهم بدريهمات . وبائت كل محاولات الجيلاني بالفشل . وذهب الي مدينة كوستي ، وكان مستعدا للذهاب الي جنوب السودان او الغرب، او اي مكان يجد فيه اي وظيفة . واقترح عليه احد اقربائه الذهاب الي شيخ ساعد الكثيرين في امور مستعصية.
الجيلاني كان ينتمي الي اسرة دينية . و حفظ ثلاثة اجزاء من القرآن قبل ان يلتحق بالمدرسة . وكان في الاجازات المدرسية يواصل حفظ القرآن ويرتله بصوت جميل . وله كمتعلم فكرة سالبة عن الشيوخ الذين يرزقون البنين ، ويشفون المرضي . ولكن بسبب حاجته واصرار اقربائه ذهب الي الشيخ في قريته خارج كوستي .
وكانت هنالك اعداد من المرضي واصحاب الحاجة . ورجل نحيل يدخل الناس علي الشيخ . وبعد فترة طويله من الجلوس مع مساعد الشيخ الذي كان لطيفا وتبادل معه الحديث وتبادل المعلومات واخبار الدنيا ، اتي دوره للدخول علي الشيخ . وتركه المساعد .مع الشيخ في الغرفة التي كانت شبه مظلمة . وتعبق برائحة البخور . واتت طرقات رتيبة من خلف الستار . وعندما استمع الحيلاني جيدا ، استطاع ان يميز ثلاث اشياء . وهي اسم والدته واسم بلده والبحث عن وظيفة ، باشارات مورس التي يتعلمها موظف التلغراف في بداية عمله. وكان الجيلاني موظف البريد احد ضحايا الصالح العام .
شخصية الجيلاني وشكله المهيب وطموحه جعلت الثلاثة يصيرون متعاونين . مجموعة الشيخ الجيلاني الذي يعلم الغيب و يغير المكتوب . صارت ملئ السمع . وبدلا من ملاليم البياض التي كان الشيخ حسب الرسول ومعاونه سيد يتقاضونها من المساكين . صار للمجموعة مزرعة كبيرة خارج الخرطوم . وصار الشيخ الجيلاني مقصد الاثرياء ورجال الدولة . سيد كان من يستقبل الناس . وبروحه المرحة يشغلهم بالحديث عن كرامات الشيخ ومقدراته . ويتحصل منهم علي المعلومات الاولية ببساطة ويقوم بتوصيل المعلومات الي الشيخ حسب الرسول عن طريق نقرات التلغراف . وعندما يصلون الي الشيخ الجيلاني في المحطة الاخيرة وهي في نهاية المزرعة . يقابلهم الشيخ بقامته المهيبة وكاريزميته وصوته الرخيم مرتلا آيات من القرأن .وببعض الفراسة والممارسة والسيطرة علي الزبون بالمعلومات التي وصلته بالتلغراف . يصير الزبون طوع بنان الشيخ الجيلاني .
ووجد سيد نفسه في موضع الصبي الذي يتبع الشيخ وما كان يؤلمه ان الشيخ قد بدأ في تصديق ان عنده المقدرة علي ان يضر وينفع . وصار حسب الرسول تابعا له ولا يعصي له امرا .ويقوم بتقبيل يد الشيخ . ويبجله امام الناس .
وتوسعت اعمال الشيخ وصار الاغنياء يأتون من خارج السودان . ورجال الدولة يطلبون مساعدته . يكفي ان يقفوا امامه ، ليقول لهم وكانه قد قرأ افكارهم ,, لا تتخلصوا من المسئول فلان .,, لان فيه خير . وبعدها يرسل للمسئول ليقول له انه سينقل الي منصب معين . وبعد التغيير يهرع المسئول الي الشيخ . ليخبره الشيخ ان عليه ان يساعد بعض المحتاجين عن طريق الشيخ . ويكون المبلغ محترما . وقد يطلب منه توظيف احد اتباع الشيخ . الذي ينقل الي الشيخ كل كبيرة او صغيرة في المؤسسة .
وتزوج الشيخ باربعة من النساءاحداهن سيدة جميلة كان زوجها محاضرا في الجامعة ، لا انها اصيبت باحباط وهددت بالانتحار . اخذها زوجها الي الشيخ بعد ان فشل الاطباء في علاجها . ووعد الشيخ بعلاجها بالقرأن . وشفيت السيدة . واجبر زوجها علي طلاقها ، لانها رفضت الرجوع الي زوجها . وتزوجت الشيخ .
وبدلا من الخدم والحشم ، صارت تعمل في مطبخ زوجها الشيخ طيلة اليوم وهي سعيدة باطعام الشيخ وضيوفة وزواره . وهي تؤمن بان الشيخ يسيطر علي الجن . وفي امكانه ان يعيد الجن لكي يسكن في جسدها من جديد . و السعادة التي لم تجدها عند الاستاذ الجامعي وجدتها عند الشيخ .
واضطر عبد الباقي لسؤال الخال سيد عن سبب غضب الشيخ الجيلاني . وضحك الخال سيد كثيرا . وكشف له عن السر . فلقد صار الشيخ يحسب ان الخال سيد طوع بنانه ، بعد ان سيطر علي حسب الرسول . صاريستهين بهما . وتذكر الخال حسن حادثة قديمة حدثت في بورتسودان في بداية عمله . وكان رئيسه وكيل البريد سودانيا عركته الدنيا . تعرض الوكيل لاهانة من مستورد فاكهة شامي . قام بأنتزاع الفاكهة من الوكيل الذي وعد بالدفع في نهاية الشهر . كعادة الموظفين .
المستورد كان يستورد الفاكهة من لبنان . ويقوم بتزويد البواخر بالفاكهة المحلية والمستوردة . ولفترة كان التفاح في بورتسودان لا يجد من يشتريه بالرغم من رخص ثمنه . فالبرقية التي وصلت الي لبنان كانت تطلب خمسمئة صنوقا من التفاح ، بدلا من الخمسين الراتبة . والتاجر لم يرد ان يكتب الرقم بالحروف حتي لا تحسب علية كلمتان . وعن طريق الخطأ اضيف صفر الي الرقم . وجل من لا يسهي . واختفي التاجر من بورتسودان . وعرف اهل بورتسودان السبب ، وتبسموا .
وارسل الخال حسن الي الخليج لفتح لفتح حساب في الامارات لايداع الفلوس التي كانوا يتحصلون عليها من النظام والحكام والاغبياء . والخال حسن يتنقل لتغذية الحساب . وعندما ارادوا ان يستلموا الفلوس والدخول في مشروع مع الرجلين الخليجيين. افهمهم الخال الشيخ بان الفلوس في الحساب باسمه . وهو صاحب فكرة التلغراف . وللشيخ المزرعة وعمارتان سكنيتان . ولحسب الرسول منزلان جميلان واكثر من سيارة . والخال حسن يسكن في منزل صغير بالايجار . وليركبا اعلي ما في خيلهما .
وواصل قائلا انه قد تحصل علي اقامة في الامارات . واشتري فلة صغيرة ، سيرحل اليها قريبا . وسياتي بابنائه وزوجته التي عاشت معه فقره شقائه . وهو لا يفكر في الزواج واغضابها . وسيفتتح مطعما سودانيا . وشركة للترحيل . وسيكون في البنك مبلغا كافيا تحسبا لظروف الزمان . وقد يطلق علي الشركة اسم تلغراف . وسيوظف ابن اخته مختار .
مكتبة شوقى بدرى(shawgi badri)
|
|
|
|
|
|