|
التعليم : كما تزرع تحصد !! بقلم : د. أبوبكر يوسف إبراهيم
|
بين فرانز فانون والخاتم عدلان! (1)
هذا مقال سيثير عليَّ سخط رهط عظيم من المثقفين اليساريين التقدميين الشرفاء، الذين لا يخطر بأذهانهم أن مقارنة مثل هذه يمكن أن تجرى بين المناضل الثائر فرانز فانون، والناشط اليساري الأستاذ الخاتم عدلان. وربما مالوا إلى أن إجراء مقارنة بين هذين الشخصين ينطوي على مبالغة. وأن وضع الخاتم عدلان في سياق واحد مع الثائر فانون إنما هو هزل وتطفيف. ولكني جاد فيما عقدت عليه العزم، وماض في عقد الموازنة بين هذين المفكرين، المارتيني والسوداني، لسبب سأوضحه في خاتمة المطاف إن شاء الله. من أمريكا الوسطى جاء إلى فرنسا ثم إلى الجزائر الثائر الكبير فرانز فانون. وأسهم بفكره العميق وبتأهيله في التطبيب النفسي في كفاح الجزائريين الذي تطاول حتى ظفرت بلادهم باستقلالها عن فرنسا بعد عام من وفاته. وقد شارك في تحرير صحيفة (المجاهد) لسان حال ثورة التحرير الجزائرية. ولا زلت أذكر كيف قرأت في الزمان الخالي وبإعجاب كبير كتابه الخطير (معذبو الأرض). وقد زاد إعجابي به عندما قرأته كرة ثانية قبل أعوام قلائل. ذلك مع أن انفعال المرء بالكتب وإعجابه بها يتضاءل مع مرور الأيام. لقد تأجج الرجل حماسة وإخلاصا لنضال الجزائريين ضد الإمبريالية الفرنسية. ومع أنه كان يحمل جنسية الدولة الفرنسية، وسبق له أن حارب في صفوف المقاومة الفرنسية ضد النازية، وسبق له أن عمل طبيبا في الجيش الفرنسي في الجزائر، إلا أنه لما رأى تمادي البطش الفرنسي بالمقاومين الجزائريين، أجمع أمره على أن ينشق عن إمرة الجيش الفرنسي وأن يلتحق بجيش الثوار! البعد النفسي للثورة وبخبرته الثرية في علم النفس أثرى فرانز فانون علم السياسة المعاصر. وأسهم في تأسيس نظرية (رفض التبعية) التي يقوم عليها البناء النظري لفكر اليسار الجديد. وإذا كان من المشهور أن أصحاب هذه النظرية هم المفكرون البرازيليون: دوس سانتوس، وأوكتافيو لاني، وهانبيال كوينجانوا، والفنزويلي: رومولو بيتانكورت، والأمريكي: عمانويل وولرشتاين، والعربي: سمير أمين، والأرجنتينيان: آرتورو فرونديزي، وهايا دي لاتور، إلا أن قارئ كتاب فانون (معذبو الأرض) يدرك أن نصوصه كانت أعمق وآصل من نصوص هؤلاء الكتاب السياسيين والاقتصاديين الذين تعزى إليهم تلك النظرية. لأنها كانت تستشعر البعد النفسي للكفاح ضد الإمبريالية. ولعله كان قريبا في هذا المستوى من التحليل النفسي من فكر معاصره المفكر الجزائري مالك بن نبي صاحب النظرية المعروفة بعنوان (القابلية للاستعمار). وهي النظرية التي قررت أن سبب الاستعمار هو وَهْيُ الذات. وربما استلهم ابن نبي نظريته من مقولة جمال الدين الأفغاني:" لو لم نكن حملانا لما أكلتنا الذئاب"! وقد ذكر فانون أن على الشعوب المستعمَرة ألا تستعين إلا بنفسها وألا تستنجد بغيرها. وأن على شعوب العالم الثالث التي حكمت عليها الدول الغربية بالجمود أو التقهقر، أن تعتمد على خطة تطور على أساس الاكتفاء الذاتي الجماعي. وأن تستشعر القوة بحقها وبعدالة مواقفها، وأن تطلب من البلاد الرأسمالية أن تكف عن تصوير شعوب العالم الثالث في صورة موجة كاسحة تهدد بابتلاع أوروبا بأكملها. وأن تكف عن تمثيل ذلك الدور غير الإنساني الذي تستعذب تمثيله من دون أدنى شعور بالمسؤولية، وهو دور الحسناء النائمة في الغابة! وأن على دول العالم الثالث ألا تبلغ من السذاجة حد الاعتقاد بأن هذا الفعل الإنساني سيتحقق بمساعدة الحكومات الغربية وحسن نيتها. وينبغي ألا تُضلل تنازلات الغربيين أيا كانت الذات المناضلة عن الحقيقة، وألا تعميها عنها، فإنها تنازلات لا تمس الجوهر، لأنها لا تمس الثقافة الاستعمارية في جوهرها. الصراع الطبقي الجديد وقد بدا فانون واعيا بقضية الصراع الطبقي في صورة واقعية تجاوزها التنظير الماركسي الشاطح. فكان لا ينِي يؤكد على أن الاستعمار الفرنسي سيضطر عاجلا إلى الانسحاب من أرض الجزائر بأثر من ضغط الثورة عليه وطلبا لتخفيض نفقات بقاء جيوشه هنالك. ولكن الشعب الجزائري لن يلبث أن يدفع ثمنا باهظا ولا يلبث أن يعاني مزيدا من التحكم الاستعماري به وتلاعبه بمصيره بطريقة أخفى ولكنها أتم وأحكم. وقد طلب فانون من أفراد الأمة الجزائرية أن تدرك ذلك القانون التاريخي التليد الذي يفيد بأن تنازلات القوى الاستعمارية ليست في حقيقتها سوى أصفاد لا إنسانية. وأن على الأمة الجزائرية أن تدرك أن هنالك طبقات منها لها مصالح خاصة لا تتفق ولا تتسق مع المصلحة الوطنية. وأن هناك طبقات من السكان لا يحملها إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها وعن مصالحها الخاصة. وأنها ستنتهز كل فرصة سانحة من أجل العمل لتعزيز أوضاعها الاقتصادية والطبقية. وأن على المناضلين الثوريين في الجزائر أن يكتشفوا أنهم بقضائهم على الاضطهاد الاستعماري سيسهموا في خلق جهاز استغلالي آخر من نوع محلي! وهو اكتشاف مؤلم وشاق ومثير. لقد كان الأمر بسيطا للغاية في البداية، كان هناك في نظره أناس أشرارٌ من جهة، وأناس خيرون من جهة أخرى. وأما بعد الاستقلال الوطني فسيحل محل الوضوح الخيالي اللا واقعي ظلام كثيف يفصم الوعي بالذات. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال الظالمة يمكن أن تأخذ مظهرا محليا بحتا! وأن الخيانة هنا لا تصبح وطنية وإنما خيانة ثقافية. ولذا فإن على الشعب الجزائري أن يتعلم كيف يُندد باللصوص الذين سيحكمونه بعد جلاء الجيش الفرنسي عن الجزائر. نشيد الشعب هكذا كان فانون ينظِّر للثورة الجزائرية في عمق، ويستشرف آفاقها بحدس صادق، ويسهم فيها في إخلاص. ولكن لشيخنا المبجل مالك بن نبي نظرة أعمق إلى موضوعه. فعندما أكثر اليسار العلماني الفرنسي من اللهج والطنين باسم فانون، وضغطوا - على طريقتهم الخاصة - على الوسط الثقافي الجزائري، بغية تنصيبه منتجا وملهما للثورة الجزائرية، تناول مالك بن نبي الموضوع بتحليل نافذ قائلا: يتعين عليَّ أن أشير هنا إلى قضية فرانز فانون مع كل التأثر والتقدير اللذين سيشعر بهما كل جزائري عند ذكر هذا الاسم. فعمل فانون الذي سيبقى في نظرنا ذا قيمة لا تقدر لا يقدِّم ولا يمكنه أن يقدِّم نشيد النضال والعمل للشعب الجزائري. لأنه لا يغوص إلى الجذور العميقة في ذاتية هذا الشعب. وهو لا يعاني كلية موضوعيته الاجتماعية والتاريخية· فالنشيد الذي يشحذ طاقة الشعب، كما يشحذ المكثف الشحنة الكهربائية، لا يمكنه أن يتشكل على سجل الأجنبي. حتى في مجرد تعبيره الفني أو الموسيقي أو الأدبي. لأن عملية تركيبه تتم داخل روح الشعب أولا، لكي يترجم فيما بعد ضمن فكر إنساني يكون جزءا من تلك الروح الإجتماعية. وعلل مالك ذلك قائلا: إننا لنظلم فانون نفسه، عندما نجعله - كما أريد به ذلك - يلعب دور صاحب النظرية الثورية الجزائرية. فلكي يتكلم المرء لغة شعب معين أن يقاسمه معتقداته. وقد كان فانون إنسانا ملحدا. (مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دار الفكر، دمشق، 2012م، ص 108)
|
|
|
|
|
|