أثارت قضية التعديلات الدستورية التي كانت أحد توصيات الحوار لإستيعاب مستجدات ما بعد الحوار ، أثارت جدلا لم ينتهي حتى اليوم ، وكونت لجنة لإجراء تلك التعديلات وتقديمها للمجلس التشريعي لإجازتها . و كان المؤتمر الشعبي متربصاً بهذه الفرصة ليبدأ حملة أعد لها العدة من قبل مستندا إلي موجهات خطها زعيمه الراحل تتعلق بهذه التعديلات ، وإستثمارها في تغيير ما رسخ في أذهان الناس عنه ، هذه القضية حركها المؤتمر الشعبي بذكاء ليجعل منها قضية الساعة وموقف يريد به أن يجُب به ما سبق من مواقف لا تزال حاضرة في أذهان كثير من السودانين أن قادة الشعبي الذين كانوا وقتذاك في قمة السلطة مسئولين عنها ، إذ رسخ في الذاكرة أن أكثر الأوقات التي شهدت تضييقا على الحريات كانت إبان وجودهم على سنام السلطة . ولكنه كالعادة يريد أن ينسى الناس كل ذلك ، ويصفقوا له إذا نصّب نفسه مدافعاً عن الحريات التي وأدها من قبل ، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، فمنذ البداية لم تساند الأحزاب المشاركة في الحوار رؤيته في هذه التعديلات لتي ظل يكررأنه لن يقبل أن تُحذف منها شولة ، وهذا لعمري قول يتنافى مع مبادئ كثيرة سواء كانت متعلقة بالشورى أو التواضع ، والإعتداد بأن هذا الرأي لا يأتيه الباطل من بين يديه وغيرها من المبادئ التي تحترم الرأي الآخر ، وتكاثرت تصريحات قادة الشعبي بأن مشاركتهم في الحكومة تتوقف على إجازة التعديلات التي قدموها ، فهاهو أحد قيادات الشعبي التي ظهرت مع الحوار ، عمار السجاد يقول مستحقرا الشعب السوداني " أن الشعب السوداني ليس لديه خيار سوى مشروع الترابي " ( التيار 2/ 3 / 2017 ) لا يا سيدي الفاضل الشعب السوداني لديه ألف خيار ، والترابي ليس نبيا أو رسولاً حتي يكون لزاماً على الشعب السوداني أن يتبع سنته ، وهو لو كان حياً لما رضى هذا الكلام الذي يتنافى مع أبسط مبادئ الحرية وإحترام الرأي الآخر . الأحزاب المحاورة التي يرأس لجنتها التنسيقية المؤتمر الشعبي كانت أول من أعترض على التعديلات التي قدمها الشعبي على قانون الأمن ، جاء ذلك في تصريح لعضو الآلية رئيس مجلس أحزاب الوحدة الوطنية الموالية للمؤتمر الوطني بأنهم لا يرون ضرورة لتعديل قانون الأمن ، وكان هذا موقف معظم الأحزاب التي شاركت في الحوار . إستراتيجية الشعبي لإستغلال قضية التعديلات الدستورية كانت مكشوفة ، إذ إنه من بين تلك التعديلات إختار الشعبي قانون الأمن وأنتقى منه لافتة لها جاذبية خاصة ليخوض بها معركة يظن أنه إذا خرج منها منتصرا أو مهزوماً فهو رابح في كلا الحالتين ليعود للساحة السياسية كبطل تكلله أكاليل الغار . قانون الأمن في بنوده التي تمس قضية الحريات لا يختلف إثنان على أهميتها ، وكان من الأجدى أن يتم التداول في عقيدة جهاز الأمن نفسها التي شابتها ظلال منذ العهد المايوي فهي التي يترتب عليها تطبيق بنود القانون ، فهل مهمه الجهاز حماية الدولة أم النظام ؟ فإذا كانت حماية الدولة ، هنا تكون النظرة للعلاقة مع المواطنين نظرة إيجابية تحترم حق وكرامة المواطن ، لأن القضايا التي تتعلق بحماية الوطن ، تصب في مصلحة المواطن ، أما إذا كانت الحماية للنظام ، فالأمر مختلف ، فالذي يراه المواطن حق مكفول له بحكم الدستور قد لا يراه النظام كذلك ، ومن هنا يأتي التجريم للفعل ، وبالتالي تكون النظرة للمواطن نظرة سلبية ، وقول الشعبي أنهم يريدون أن تنحصر مهمة جهاز الأمن في جمع المعلومات غير واقعية ولا تصب في مصلحة أمن الوطن ، وقد تكون المطالبة أكثر معقولية إذا ما تبنت عملية تنقيح للمواد المتعلقة بحرية الصحافة والتجاوزات في التعامل مع المعارضين للحكومة ، والإعتقالات لفترات طويلة دون محاكمة ، والتعامل مع المواطنين بصفة عامة في الأمور التي تدخل في نطاق إختصاص أمن الوطن بإسلوب حضاري إنساني يراعي حقوقهم الإنسانية . والأمر الآخر الذي يحتاج إلي وقفة هو وجود أجهزة أمنية لا تتبع للدولة وهذه لا يعرف لها قرار أو مكان ، فجهاز الأمن جهاز معروف من أجهزة الدولة الرسمية ومنسوبوه من العاملين بالدولة ، وتجاوزاتهم يمكن رفع شكوى بها لرئاسة الجهاز ، بل يمكن مقاضاتهم ، أو مقاضاة الجهاز نفسه ، أما تلك الأجهزة التي تتبع لجهات غير معروفة للمواطن فإن ما تقوم به ينسب للمجهول وأحداث سبتمبر شاهد على ذلك . هذه النقاط هي التي كانت جديرة بالبحث والمطالبة بتعديلها أو إضافتها إذا لم تكن موجودة . وعلى كل حال إنقشع غبار المعركة ولم يبق من التعديلات الدستورية إلا زواج التراضي الذي إنبرى له عدد من المؤسسات الدينية الرسمية مثل هيئه العلماء ومجمع الفقه ، وبعض أئمة المساجد ، والجماعات الدينية والتنظيمات التي تتبنى أطروحات إسلامية ، والناشطون في مجال حقوق المرأة . أما غالبية الشعب الذين أصابهم الإحباط من تجاهل مخرجات الحوار لحياتهم المعيشية ، وكانوا يأملون أن تحظى الأوضاع المعيشية بنصيب من هذا الجدل لذلك لم يأبهوا لموضوع زواج التراضي ، فهمومهم اليومية لا تترك لهم وقتا للخوض في مثل هذه الأمور الفقهية التي يعتقد أكثرية من أصحاب الرأي أنها لا جديد فيها وأن الموضوع يهدف منه الشعبي إلهاء الناس بمسرحية من مسرحياته . وسمعت أحدهم من عامة الناس يتحدث مع آخرين يقول : " لو بقى جسمي كله إضنين ما بصدق البقولو الجماعة ديل في الجرايد " . وأتضح من البداية أن هدف قادة الشعبي من الضجة التي صاحبت الحوار وما بعده هو تمهيد لعودتهم لأحضان المؤتمر الوطني والمشاركة في السلطة " كأهل بيت " ، وكانت عينهم على مكافأة المؤتمرالوطني لهم على ترويجهم للحوار والدفاع عنه ، وكانوا يتوقعون أن تكون المكافأة كبيرة بقدر الجهد الذي بذلوه ، مما يتوجب على الوطني أن يشكرهم على حسن صنيعهم بأن يميزهم عن بقية الأحزاب المحاورة في الحصة التي تليهم من الكيكة ، وكان تقديرهم أن يؤول لهم منصب رئيس الوزراء وقبول التعديلات الدستورية التي دفعوا بها دون أن تنقص شولة كما يقولون ، والمتابع للصحف تتأكد له هذه الإستراتيجية ، فقادة الشعبي يقومون بحملة منظمة لإبتزاز المؤتمر الوطني بهذه التعديلات ، وفي نفس الوقت يسعون إلي أن يرسخ في أذهان الناس أنهم المناضلون من أجل الحريات ، فلا نكاد نجد صحيفة من الصحف اليومية في هذه الأيام تخلو من مقابلة مع أحد قادة الشعبي يرددون نفس الكلام . والآن بعد أن إستأثر المؤتمر الوطني بمنصب رئيس الوزراء وسقطت التعديلات الدستورية التي قدمها لم يبق أمام المؤتمر الشعبي إما أن يبر بقسمه وينسحب من المشاركة في الحكومة ويواجه شبح الإنقسام ، لأن هناك فريق منهم " برمج " نفسه على المشاركة ، ولن يقبل الإنسحاب ، أو يشارك مثله مثل الأحزاب التي وصفها أمينه السياسي بما يفيد أنها لا ينسحب عليها مسمى أحزاب ، ولن يسلم أيضا من الإنشقاق ، لأن هناك فريق منهم رافض المشاركة ، وهكذا يكون الشعبي ينطبق عليه القول لا ظهرا أبقى ولا أرضاً قطع .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة