المقالة الخامسة : إرهاصات قرارات التأميم والمصادرة عَلَى المَرْءِ أنْ يَنْتَظِر حُلُولَ المَسَاءِ ليَعْرِف كَمْ كَانَ نَهَارَهُ عَظِيمَاً. وليم شكسبير دعاوى الطهارة الثورية: المدخل الصحيح في رأينا لتناول الإرهاصات التي ساعدت في خلق الجو المحفز لاتخاذ وتنفيذ قرارات التأميم والمصادرة المزلزلة هو دعاوى "الطهارة الثورية " التي ابتدأ بها نظام مايو سني حكمه. فقد كال الانقلابيون في بيان ثورة مايو الأول وفي بياناتهم اللاحقة التهم بالفساد والمحسوبية وغيرها لرموز "الحكم البائد" وصوروا أنفسهم بأنهم رسل العناية الإلهية الذين جاءوا لاستعادة الحقوق المستلبة للشعب ولمحاربة الفساد بكل صوره وأشكاله. وغالى في رفع شعار تلك الطهارة الثورية النميري وغيره من أعضاء مجلس قيادة الثورة في كل مخاطباتهم للجماهير ، وفي مناسبات عديدة سبقت عام الزلزلة 1970م حين أعلنت قرارات التأميم في يوم 25 مايو ، مناسبة الذكرى الأولى للانقلاب ، وتلتها قرارات المصادرة بأيام قلائل. يقول الدكتور منصور خالد " وقد كان زعم الثورة آنذاك أن الفساد قد استشرى على عهد الأحزاب ، وباض وأفرخ في كل مرفق ... وكانت لهذا الفساد رموز، رموزه هي الوزراء وموظفو الدولة الذين قدموا لمحاكمات ثورية ترأس محاكمها بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة". منصور خالد- السودان والنفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد صفحة 46-61. يؤكد هذه المزاعم ما أورده الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر في مذكراته، فبعد أن دمغ الديمقراطية الثانية بكل أنواع الفساد السياسي يقول (ومع توالي الاستثناءات وتكرار التجاوزات وغياب الرقابة الإدارية والقانونية المركزية والقوة القابضة ، شاعت معالم الفوضى والعشوائية لتصبح هي القاعدة الحقيقية التي يقوم عليها جهاز الخدمة المدنية وجاءت المحصلة النهائية لتلك الممارسات متناسقة تماما مع مقدمتها فقد أهدرت حقوق المواطنين وضاعت مصالحهم وتفشى الظلم والفساد والمحسوبية واشتغل الكبار بالغنائم وأضحى الشأن العام بلا رقيب او حسيب) الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر – مايو: سنوات الخصب والجفاف - صفحة 137. في مقابل هذه الصورة القاتمة علينا أن نتقبل فكرة أن نظام مايو طرح نفسه بقوة كبديل للنظام البائد، وفي ضوئها لابد أن نفسر كل الأحداث اللاحقة التي أدت للتشريعات والنظم والأجهزة وكذلك لقراراته المتعجلة بالتأميم والمصادرة التي ظن النظام أنها المعالجة الملائمة للأوضاع الاقتصادية التي ورثها من النظام الديمقراطي الذي انقض عليه، والذي ورث بدوره تركة مثقلة من عهود سبقته منذ أن نال السودان استقلاله في عام 1956 م. محاكمات رموز العهد البائد: تلى دعاوى الطهارة الثورية التي روجها نظام مايو في الأشهر الأولى بعد الانقلاب، تشكيل المحاكم العسكرية لمحاكمة رموز العهد البائد كما وصفه قادة انقلاب مايو، فكانت المحكمة الأولى برئاسة الرائد أبو القاسم محمد ابراهيم عضو مجلس قيادة الثورة لمحاكمة المتهمين الذين شغلوا مناصب وزارية قبل انقلاب مايو وهم د. أحمد السيد حمد وزير التجارة ، والسيد يحي الفضلي وزير المواصلات والسيد حسن عوض الله وزير الداخلية . وتلتها محكمة الشعب الثانية برئاسة الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر عضو مجلس الثورة لمحاكمة السيد أحمد زين العابدين وزير الصحة قبل انقلاب مايو. وجاءت بعدها محكمتا الشعب الثالثة برئاسة العقيد أ.ح أحمد محمد الحسن لمحاكمة السيد كلمنت أمبورو وزير الصناعة قبل الانقلاب ورجل الأعمال محجوب محمد أحمد وابنه. وكانت المحكمة الرابعة أيضا برئاسة العقيد أ.ح أحمد محمد الحسن وانعقدت لمحاكمة السيد عبد الماجد أبوحسبو وزير الإرشاد قبل الانقلاب. ولقد دارت التهم الموجهة "لرموز العهد البائد" حول الفساد واستغلال النفوذ. وحرص النميري على إذاعة بيان للشعب حول أحكام محكمة الشعب الأولى جاء فيه كما نقلته الصحف ( الآن وقد فرغت محكمة الشعب من حكمها في أولى قضايا الفساد السياسي بعد دراسة طويلة حافلة مستأنية، لابد لنا ان نقف وقفة قصيرة نستلهم فيها العبر من ذلك الشريط الحافل من الأحداث الذي شهدناه ونحن نتابع أحداث تلك المحكمة التاريخية ... ذلك الشريط الذي كشف لنا مفاسد حكم يندى لها التاريخ....لقد قامت ثورة الخامس والعشرين من مايو تعبيرا عن إرادة أمة طالما ألجم الطغيان الحزبي لسانها الأصيل ....قامت لتعلن حكم الشعب المريد إدانة لجاهلية الطائفية وفساد الحزبية). وتجدر الإشارة لأن هذه المحاكم العسكرية ذات طبيعة عسكرية صرفة كما أكدته صحيفة الأيام بعددها رقم 5730 بتاريخ 2/9/1969م ، إذ جاء فيها (تفيد تحريات الأيام أن محكمة الشعب تعتبر مجلسا إيجازيا عاليا تخضع للإجراءات المنصوص عليها في قانون المجالس الإيجازية العسكرية). دعاوى النقاء الثوري والمغالاة في الظهور بمظهر الحرص على حقوق الشعب هي أحد الأسباب الرئيسة فيما نرى التي حملت نظام مايو على محاكمة متهمين مدنيين أمام محاكم عسكرية انتهت أحكامها لكشف تلك المفاسد التي " يندى لها جبين التاريخ" كما وصفها النميري في بيانه. هذه المغالاة في رأينا هي التي راكمت "التهور المايوي" في النظر للأمور كلها وساهمت في خلق الأجواء المفعمة بالاندفاع وانعدام الحكمة والتروي في معالجة أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية. ولهذا من البديهي أن تكون دعاوى الطهارة الثورية وما تبعها من محاكمات وتصرفات من نظام مايو بمثابة الإرهاصات المبكرة وصولا إلى القرارات المزلزلة بالتأميم والمصادرة. لاسيما وأننا سنأتي على ذكر الأسباب التي أوردها الرئيس نميري وهو يعلن بعض قرارات المصادرة ويذكر من بين أسبابها علاقة ملاك الشركات المصادرة بشخصيات ورموز "الحكم البائد" الذين سهلوا لهم التهرب الضريبي والجمركي وتهريب الأموال ومنح الرخص التجارية وغير ذلك من الأسباب التي وردت في حيثيات قرارات المصادرة. الإرهاب المايوي ومقدمات الاستيلاء ونزع الملكية: كانت قرارات التأميم والمصادرة بمثابة الزلزال الذي ضرب الاقتصاد السوداني في كل القطاعات بما فيها المصارف ومنشآت الأعمال من شركات ومؤسسات وممتلكات عقارية ومصانع وبيوتات تجارية محلية وأجنبية وأيضا بعض الطوائف الدينية والأفراد. وهنالك العديد من الإرهاصات التي سبقت قرارات التأميم التي أعلنها رئيس مجلس قيادة الثورة جعفر نميري في مناسبة الاحتفال بالذكرى الأولي لنظام مايو وبحضور الرئيس المصري جمال عبدالناصر والرئيس الليبي معمر القذافي في 25 مايو 1970م، وقرارات المصادرة التي اتخذتها سلطة مايو وأعلنتها تباعا بعد مناسبة الاحتفال. فقد حفلت صحيفتا الأيام والصحافة بالعديد من الأخبار والتي تعتبر وبلا شك، مقدمات لما اتخذته سلطة مايو لاحقا من قرارات وإجراءات بتأميم ومصادرة العديد من المنشآت، ووضع بعض الممتلكات للأفراد تحت الحراسة العامة. وكانت حكومة مايو قد سيطرت على الصحف فأصبح تنشر كل ما يتعلق بمواقفها وسياساتها والخطوات ذات العلاقة بالقرارات والإجراءات الاقتصادية للنظام. فعلى سبيل المثال وبحسب ما ورد في العدد الخاص لصحيفة الأيام بمناسبة العيد الثاني لثورة مايو الذي وثقت فيه للأحداث والقرارات الهامة للنظام خلال عامين (مايو 1969م- مايو 1971م)، ورد قرار مجلس الوزراء باحتكار استيراد الخيش والسكر والمبيدات الحشرية والأسمدة للقطاعين العام والخاص. كما قرر المجلس احتكار استيراد مشتريات الحكومة من العربات والآلات الهندسية والطلمبات والأدوية وقطع الغيار. وفي نفس الصحيفة ورد قرار مجلس قيادة الثورة بالاستيلاء على محلج ربك ومعصرة الزيوت التابعة لدائرة المهدي. وكان الدافع لهذا القرار هو تحصيل ديون الحكومة المستحقة على دائرة المهدي والتي تبلغ 83,546 جنيها. ومن أمثلة تلك الإرهاصات الدالة على الجو العام الذي أصبح يتشكل والسلوك أصبح يميز العلاقة بين السلطة ومنشآت الأعمال في الأشهر الأولى لثورة مايو وقبل الاحتفال بذكراها الأولى، ما ورد في العنوان الرئيس للعدد رقم 2070 لصحيفة الصحافة الصادرة في 25/11/1969م كالتالي: وزارة الداخلية تنذر شركة جلاتلي بفتح مصنع الصابون خلال 24 ساعة. وجاء في تفاصيل الخبر: ("إنذار بفتح مصنع الصابون": علمت الصحافة أن وزارة الداخلية قد سلمت إدارة مصنع شركة جلاتلي للصابون إنذارا لمدة 24 ساعة لإعادة فتح المصنع. المعروف أن إدارة المصنع قامت بقفل المصنع الذي يضم 350 عاملا وموظفا، هذا وعلمنا مساء أمس أن الشركة قد استجابت للإنذار). وأول ما يتبادر للذهن هنا هو التساؤل: ما دخل وزارة الداخلية في شأن مصنع تابع لشركة يفترض أن تتعامل معها جهات الاختصاص المسئولة عن مراقبة ومتابعة الشركات والمصانع؟ إذ يلاحظ صيغة التهديد والإرهاب التي تعكس "الجو البوليسي" الذي بدأ يسود ليمارس من خلاله نظام مايو سلطته على الشركات ورجال الأعمال ولما يمض على النظام ستة أشهر في الحكم. ويمكن التساؤل أيضا عن المبررات الموضوعية لقفل المصنع، وهل نظرت وزارة الداخلية فيها بموضوعية حتى وإن تجاوزنا عن أنها لم تكن جهة اختصاص، وهل كان إغلاق المصنع إغلاقا دائما أم مؤقتا ريثما تصحح الشركة أوضاعه وتعيد فتحه من جديد؟ وما هي الجهة التي حركت الموضوع أصلا ليصل الأمر لتدخل وزارة لا علاقة مباشرة لها بمنشآت الأعمال والمصانع؟ لقد كانت هذه الواقعة في رأينا إرهاصا مبكرا عن الأسلوب المتعسف الذي عمدت سلطة مايو للتعامل به مع الشركات والبيوتات التجارية لاسيما الأجنبية مثل جلاتلي هانكي وشركاهم وكانت يومها أكبر الشركات الاجنبية العاملة في السودان في نشاطات عديدة متنوعة وهامة. وعلى كل حال فإن استجابة الشركة لإنذار وزارة الداخلية وفتحها للمصنع بالرغم من أي أسباب ربما كانت تبرر إغلاقه ، لم تعصم شركة جلاتلي من طوفان التأميم لاحقا! تحدث الرئيس نميري لإذاعة صوت العرب المصرية في الأسبوع الأول من مايو 1970م عن " خطط الثورة لتحرير الاقتصاد السوداني" وأشارت الصحف الصادرة في 7/5/1970م ومنها الأيام في عددها رقم 5930 إلى حديثة ، وأن هنالك قرارات هامة تتعلق بتحرير الاقتصاد السوداني من السيطرة الأجنبية هي الآن قيد البحث والدراسة ، وسيعلن عنها في الوقت المناسب. وأضافت الصحيفة أن هذا التصريح أذيع بالقاهرة مساء أمس. ولعل اهتمام وسائل الإعلام المصرية في ذلك الوقت بنوايا النظام والحرص على إذاعتها يقوم دليلا على التواصل بين سلطة مايو والحكومة المصرية للإفادة من تجاربها في كل ما كانت مايو تخطط له من قرارات. ولقد تزامن حديث نميري عن تلك الخطط مع تصريحات محمد عبد الحليم وزير الخزانة بالنيابة عن إحالته " قانون إصلاح النظام المصرفي" على اللجنة الاقتصادية العليا بعد إبداء بعد الملاحظات. ولم يكن ذلك القانون غير "قانون تأميم البنوك" الذي تم اتخاذ قرارات التأميم بموجبه بعد ذلك وفي أقل من ثلاثة أسابيع في 25 مايو 1970م. وسنستعرض هذا القانون عند الحديث عن الأطر التشريعية والقانونية لقرارات التأميم والمصادرة. ومن المصادفات أن تصريحات الرئيس نميري عن الإصلاحات الاقتصادية وتصريح وزير الخزانة عن قانون اصلاح النظام المصرفي تزامنت مع خبر أبرزته الصحف السودانية بشكل واضح وركزت عليه وهو قرار حكومة الثورة في الصومال تأميم شركات البترول والبنوك الأجنبية اعتبارا من 7/5/1970م . ووفق ما أعلنه رئيس مجلس الثورة الصومالي فإن شركتي الكهرباء والسكر قد شملهما قرار التأميم ، وأن تعويضا مناسبا سيدفع لأصحاب هذه الشركات وأن قرار التأميم اتخذ لمصلحة الشعب الصومالي وحماية حقوقه من التغول والاحتكار الأجنبي. إذن يمكن القول أن مايو لم تجد الإلهام الذي حفزها لاتخاذ قرارات التأميم والمصادرة من التجربة المصرية وحدها والتي مضت عليها سنوات، وإنما وجدته كذلك من أمثلة حية تزامنت مع ما أقدمت عليه من قرارات في تلك الفترة الحاسمة. برغم الإرهاصات التي ألمحنا إليها يبدو أن تأميم البنوك قد كان محل جدل وتردد في أروقة النظام. ففي أكتوبر 1969م انعقد مؤتمر أركويت بجامعة الخرطوم وحضره عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء، وبديهي أن المؤتمر ضم الأكاديميين والمتخصصين من أساتذة الجامعات والمهنيين والمصرفيين وربما رجال الأعمال وممثلي الغرفة التجارية والقطاع الخاص. في صحيفة الصحافة بتاريخ 11 أكتوبر 1969م تم تلخيص التوصيات التي خرج بها المؤتمر ومن بينها ( إنشاء مصرف تعاوني ، وسودنة البنوك الأجنبية كخطوة أولى نحو التأميم) وبديهي أن يكون الموضوع قد خضع للنقاش والجدل وخرج المؤتمر بهذه التوصية التي تدل على شيء من التأني والتدرج وتهيئة الظروف الملائمة والاستعداد لاتخاذ قرار خطير كتأميم البنوك يبدأ أولا بسودنة إداراتها وتوجيه نشاطاتها في إطار سياسات تضعها الدولة. ورغم هذا أبرزت الصحف " تأميم البنوك" وركزت عليه كعنوان رئيس. والغريب أن نميري نفسه نفي نية النظام لتأميم البنوك الأجنبية. ففي الاجتماع باتحاد العاملين بالقضارف تحدث عن البنوك الأجنبية قائلا(إن الثورة ليست في نيتها تأميم هذه البنوك لأنها لن تجني من ذلك شيئا. وقال إن رؤوس أموال هذه البنوك لم تأت من الخارج وأن التجارة الخارجية قد تم تأميمها، وقال إن الثورة تشجع رأس المال الأجنبي طالما كان يعمل في مصلحة البلاد ودون أن يتدخل في سيادتنا) هذا وفقا لما نشرته صحيفة الصحافة بعددها رقم 2036 بتاريخ 16/ 10/1969م. فهل كان نميري يمارس عملية تمويه كبرى وهو على بعد أشهر قلائل من قرارات التأميم، أم أنه كان يعني ما يقول ولكن التيار الضاغط لإتمامها غلب على رأيه وعلى الحكمة التي انطوت عليها توصية مؤتمر أركويت؟ ليس ذلك فحسب بل إن الرأي بعدم نية النظام تأميم البنوك كان يتم التصريح به حتى قبيل شهر ونصف من تلك القرارات العاصفة. ففي صحيفة الرأي العام العدد رقم 8737 بتاريخ 22/4/1970م أعلن جوزيف قرنق وزير الدولة لشئون الجنوب في مؤتمر صحفي عقده في لندن ( أن السودان سيحاول إجبار البنوك الأجنبية العاملة في السودان على توظيف اموالها في مشاريع الإنماء، واتهم قرنق البنوك الأجنبية بأنها لا توظف أموالها إلا في التجارة الخارجية وخاصة في الواردات بدلا من توظيفها في قطاعات تعود بالفائدة على اقتصاد السودان، وأكد للصحفيين أن سياسة الحكومة لا تهدف إلى السودنة "لم يقل التأميم" بل إلى إقامة بنوك تابعة للدولة وتشجيع البنوك السودانية الخاصة على أن تتولى التجارة الخارجية). فهل كان جوزيف قرنق هو الآخر يمارس نوعا من التمويه والتعتيم على ما أقدمت عليه مايو من قرارات في أقل من شهر ونصف أم ان التيار المؤيد للتأميم كان قويا وجارفا؟ إن كل ما أوردناه برغم التناقض الظاهر بين التوصيات والتصريحات من جهة والأحداث والقرارات اللاحقة من جهة أخرى يعتبر في رأينا إرهاصات للقرارات التي اتخذتها سلطة مايو. في يوم 8/5/1970م كان العنوان الرئيس للعدد رقم 5931 لصحيفة الأيام هو: التأبيد ومصادرة الأملاك لفاروق البرير. وكان قد صدر حكم بإعدامه ومصادرة ممتلكاته، وقد خفض نميري الحكم للمؤبد ومصادرة الأملاك. وعلى كل حال ورغم أن مبررات اتخاذ قرار مصادرة أموال السيد فاروق البرير ارتبط بمحاكمته على مواقفه السياسية من نظام مايو إلا أنه في رأينا يمثل إشارة لبدء استخدام المصادرة كأسلوب عقابي ستتوسع فيه سلطة مايو في مقبل الأيام. أيضا ورد خبر آخر في نفس العدد عن إبعاد مدير شركة متشل كوتس الشهيرة ومهندس بريطاني بشركة شل. وجاء في نص الخبر: (صرح السيد عمر الحاج موسى وزير الإرشاد القومي للأيام أن الحكومة قررت إبعاد كل من المستر باتريك هايتون المهندس بشركة شل وبل دنلوب المدير العام لشركة متشل كوتس بالسودان. وقد استدعت شركة متشل كوتس نائب مديرها العام الموجود الآن بإجازته السنوية في لندن لتسلم أعمال المدير العام. وإلى حين وصول المدير فإن المستر دنلوب سلم أعباءه أمس لأحد كبار المديرين البريطانيين بالشركة. هذا وكان السيد بابكر عوض الله نائب رئيس مجلس الثورة قد استدعى أمس القائم بالأعمال البريطاني وأبلغه القرار). ويلاحظ هنا أن الحكومة هي التي اتخذت قرار ابعاد مهندس شركة شل ومدير عام شركة متشل كوتس. وكانت شركة شل هي أكبر الشركات العاملة في مجال استيراد وتسويق المواد البترولية ، ومتشل كوتس من أكبر الشركات التجارية الأجنبية العاملة في نشاطات متنوعة تجارية وهندسية وخدمية. وتدل حيثيات الخبر أيضا على العجلة التي اتخذ بها القرار، وربما كان الإجراء السليم أن تطلب الحكومة من ادارة كل من الشركتين إبعاد الموظف المعني بالإبعاد باعتبار أنه شخص غير مرغوب في وجوده في البلاد. ويلاحظ تدخل "مجلس قيادة الثورة" بشكل سافر وليس الجهة الإدارية أو الوزير المختص أو حتى السلطات القضائية إن كان ثمة ما يستوجب تدخل القضاء لإبعاد هذين الموظفين. ومن الغريب أن إبعاد الموظفين أخذ بعدا دبلوماسيا تمثل في قيام نائب رئيس مجلس قيادة الثورة رئيس الوزراء شخصيا ( السيد بابكر عوض الله) باستدعاء السفير البريطاني بالخرطوم وإبلاغه بقرار مجلس قيادة ثورة مايو بإبعاد مهندس شركة شل ومدير شركة جلاتلي. هذه في رأينا اجراءات متعجلة وخاطئة مهما كانت المبررات لاتخاذ قرار الإبعاد. ولكنها كانت بلا ريب تدشينا لنمط جديد في السلوك والتعامل مع تلك الشركات وإرهاصا مبكرا لما ستقدم عليه سلطة مايو من قرارات. الحرب على الطائفية والرجعية: من الإرهاصات أيضا التي تعكس الطقس العام الذي خلقته مايو في إطار التهيئة لنزع الملكية بالتأميم والمصادرة ، ما نشرته صحيفة الرأي العام كخبر رئيس في صفحتها الأولى بعددها رقم 8729 بتاريخ 3/4/1970م بعنوان " نزع الجزيرة أبا من آل المهدي وتوزيعها على البسطاء والكادحين من الأهالي جاء فيه ( أشرق فجر الاشتراكية أمس على الجزيرة أبا ، أعلن الرئيس نميري عن نزع ملكية أراضي الجزيرة من آل المهدي وتوزيعها على البسطاء والمساكين من مواطنيها. قال في حديثه أنه إذا لم تكفهم أرض الجزيرة فسيمنحون حقوقهم في المشاريع الخارجية، وأكد أن لجان التوزيع ستصل الجزيرة اليوم أو غدا لتقسيم المشاريع). وقد جاء ذلك الإجراء في أعقاب أحداث ودنوباوي والجزيرة أبا المؤسفة الدامية التي راح ضحيتها نفر من أبناء السودان، وأملته ظروف الصدام الذي وقع بين مايو والأنصار بقيادة السيد الإمام الهادي المهدي. وكان قرار نزع ملكية أراضي الجزيرة أبا متوقعا وربما مبررا بحكم المرارات المتبادلة بين طرفي الصراع، ولكننا نرى أن هذا الحدث ساهم أيضا في ترسيخ فكرة الاستيلاء ونزع الملكية سواءً بدعاوي سياسية أو لمصلحة وطنية وفق التبريرات التي ساقها النظام في كل حالة من حالات التأميم والمصادرة. ونشير لحادثة أخري في ذات السياق أوردتها صحيفة الصحافة كعنوان رئيس بعددها رقم 2206 بتاريخ 9 /5/1970م حول مصادرة مطابع من إيطاليا تخص السيد الإمام الهادي المهدي. وجاء في الخبر أنه تم الاستيلاء على مطابع حديثة خاصة بالهادي عبدالرحمن مرسلة له من ميلانو بواسطة شركة الوكلاء التجارية. هذا وقد تم تحويلها للمطبعة الحكومية. كذلك وفي صحيفة الأيام العدد رقم 5937 بتاريخ 15/5/1970م وفي الصفحة الأولى من الصحيفة ورد خبر بعنوان: ثمان لجان لجرد ومراجعة ممتلكات آل المهدي ومراجعة موقف العاملين معهم. وقد صرح بذلك للصحيفة السيد محمد كيلاني الحارس العام. وأوردت الصحيفة القائمة الأولى لمن شملتهم الحراسة العامة وهم: أحمد عبدالرحمن المهدي، أسحق حسن الخليفة عبدالله، الرشيد محمد داؤود الخليفة، الصادق الصديق المهدي ، الطاهر الفاضل محمود ، الفاضل الخليفة عبدالله، الهادي عبدالرحمن المهدي، المهدي داؤود الخليفة، بشرى الفاضل المهدي وبهاء الدين الفاضل المهدي. وتشمل الحراسة المفروضة على ممتلكات وأموال الأشخاص المتقدم ذكرهم أموال وممتلكات عائلاتهم وكذلك كل شركة يملك أي منهم أغلبية رأسمالها وكل شراكة يشارك فيها أو اسم عمل له. والإشارة لموقف العاملين هنا فيها إيعاز واضح ومقصود لابتزاز العاملين "المهضومين" من قبل الطائفية والرجعية وانحياز الثورة لهم وتأليبهم على مغتصبي حقوقهم، وهذا ينسجم مع شعارات نظام مايو وطبيعته الثورية العدائية في بداياته. في هذا السياق وفي إطار تجريد الطائفية والرجعية من قاعدتها الاقتصادية ، تجدر الإشارة إلى أن مجلس قيادة الثورة قرر في أبريل 1971 الاستيلاء على دائرة الميرغني ببورتسودان بجميع مبانيها وجميع ما فيها من أثاثات ومنقولات وغيرها على أن تحول فورا لوزارة الشباب والرياضة. كما تجدر الإشارة للخبر الذي ورد كعنوان رئيس بالصحف في تلك الفترة وهو (الرئيس القائد يعلن في احتفال شعبي حاشد في نوري تجميد أراضي الميرغني بالشمالية). وكذلك قرار مجلس قيادة الثورة بنزع ميدان دائرة الميرغني بنوري ومنحه لكتائب مايو للشباب وذلك في مايو 1971م . هذه القرارات وإن جاء بعضها لاحقا لإعلان قرارات التأميم في25 مايو 1970 والمصادرة بعد ذلك التاريخ ، إلا أنها تعتبر في ذات السياق، وهي منسجمة تماما مع شعارات نظام مايو الذي حرك إرهاصات مصادرة ممتلكات ما كان يوصف بالقوى الطائفية الرجعية المناوئة للثورة. قرارات المصادرة الأولى: بتاريخ 15/5/1970م وفي العدد 5937 كان العنوان الرئيس لصحيفة الأيام: الرئيس نميري يفضح أساليب تلاعب مؤسسة تجارية كبرى - الاستيلاء على ممتلكات عثمان صالح لأسباب التهريب والتعامل مع اليهود والتلاعب بالحسابات والتآمر. ولقد ورد في تفاصيل هذا الخبر أن مجلس قيادة الثورة قرر الاستيلاء على كافة ممتلكات مجموعة شركات عثمان صالح دون تعويض. وأعلن هذا اللواء جعفر محمد نميري رئيس مجلس قيادة الثورة والوزراء في بيان أذاعه على الشعب السوداني. وسوف نعرض لقرار مصادرة مجموعة شركات عثمان صالح وملابساتها في المقال الخاص بقرارات المصادرة باعتبارها الموجة الأولى العاتية لتلك القرارات العاصفة المزلزلة. أيضا من المقدمات لتلك القرارات العاصفة، ما ورد بعنوان رئيس في صحيفة الأيام العدد رقم 5939 بتاريخ 18/5/1970م : مصادرة ممتلكات محمد أحمد عباس- الرقيب العام يعلن تأميمها بلا تعويض ويوضح الأسباب. وقد جاء في تفاصيل الخبر: قرر مجلس قيادة الثورة تأميم كافة ممتلكات محلات محمد أحمد عباس تاجر الأقمشة بأمدرمان والخرطوم دون تعويض. أذاع هذا النبأ ليل أمس الرائد زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر عضو مجلس قيادة الثورة والرقيب العام. قال سيادته إن محلات محمد أحمد عباس لم يكن لها سوى السعي لجمع المال الحرام بشتى السبل.... كانت تمارس تزويرا في الدفاتر لإخفاء الأرباح ولم تتقدم للضرائب بأي حسابات ، وكانت مصلحة الضرائب تقدر الضريبة عليها تقديرا دون الاستناد على الحقائق لأنها لم تقدمها لها.... وقال إنها تآمرت على تحطيم اقتصاديات البلاد واتفقت مع توكيلات أسمر بألا تتعامل مع التجار إلا بإذن منها وبذلك حرمت عددا من التجار من نشاطهم التجاري. وقال سيادته إن محمد أحمد عباس أول من ابتدع بيع الرخص، وباشر الحصول على رخص بأسماء وهمية مما أدى لانتشار الفوضى والتهريب. هذا القرار دليل ساطع على أن نظام مايو اهتم في هوجة المصادرة العمياء بتجار يملكون "محلات بيع أقمشة" وليس مشاريع تنموية ضخمة ذات أهمية استراتيجية، وأن جريرة أولئك التجار "التهرب الضريبي" الذي كان ينبغي أن تتعقبه وتتصدى له مصلحة الضرائب، أو التلاعب في الرخص التجارية التي كان يلزم أن تراقبه وتضبطه وزارة التجارة وتتخذ نحوه الاجراءات اللازمة، ولكن الذي يبدو أن الجهاز المركزي للرقابة العامة بل ومجلس قيادة الثورة نفسه، قد توليا عن هذه الأجهزة مسئولياتها، وجرداها من سلطاتها في تعقب المخالفين واتخاذ الخطوات اللازمة لمعاقبتهم في ضوء الحقائق والبينات وفي إطار النظم والقوانين. ولهذا لن نستغرب كثيرا حين نأتي على النبأ العظيم يوم صدرت قرارات مصادرة المطاعم والمحال التجارية ودور السينما وغيرها من المنشآت الصغيرة التي لا يمكن بأي حال اعتبارها من المنشآت التي تؤثر ممارساتها الخاطئة في مجمل النشاط الاقتصادي بدرجة خطيرة مهما كان حجم تلك الممارسات والمخالفات. وحتى لو افترضنا جدلا أنها بممارساتها تضر بالاقتصاد السوداني فإن ذلك لا يستوجب أيلولتها لملكية الدولة. وسنرى أن الرئيس نميري سيعترف بهذا الخطأ على رؤوس الأشهاد! المشاركة في مصفاة بورتسودان والتعامل الحذر مع شركات البترول: كذلك وفي إطار الإرهاصات والمقدمات، أوردت صحيفة الأيام في عددها رقم 5940 الصادر في 20/5/1970م خبرا في صفحتها الأولى مفاده أن شركة شل وافقت على مطلب الحكومة - وفد شل يعود من لندن ويعلن موافقته المبدئية على زيادة نصيب الحكومة إلى 51%. وقد جاء في الخبر أن شركة شل وافقت من حيث المبدأ على طلب الحكومة بزيادة نصيبها في مصفى تكرير البترول إلى 51%.وقد أكد هذا الخبر للصحيفة السيد موسى المبارك وزير الصناعة والثروة المعدنية. وربما نتساءل: هل كان لإبعاد المهندس من شركة شل ، كما أوردنا أعلاه ، علاقة بطلب الحكومة زيادة حصتها في المصفاة؟ أم كان هذا التزاما بتنفيذ توصيات مؤتمر أركويت المشار إليه أعلاه والذي نصت إحدى توصياته على ضرورة أن تشارك الدولة في مصفاة تكرير البترول ببورتسودان؟ وسؤال مهم آخر لماذا تعاملت سلطة مايو بحذر ملحوظ مع شركات البترول ولم تقدم على تأميمها؟ ولماذا لجأت الحكومة لأسلوب الشراكة ولم تؤمم المصفاة أو شركات البترول مثل شل ، توتال، أجب ، موبيل أويل ؟ هل كانت هذه الشركات ، وهي شركات أجنبية مثلها مثل جلاتلي هانكي ومتشل كوتس وسودان مركنتايل ، لا تتلاعب ولا تقوم بأي ممارسات مثلها مثل تلك التي تم تأميمها ؟ ألا تنطبق عليها ذات المبررات التي انطبقت على الشركات الأجنبية التي جرى تأميمها ولها علاقات خارجية وتتعامل في مشتقات البترول التي تؤثر تأثيرا مباشرا على حركة الاقتصاد الوطني؟ أم هل تعاملت سلطة مايو مع هذه الشركات بأسلوب براقماتي، قدرت من خلاله الآثار الضارة المباشرة على الاقتصاد والقطاعات الانتاجية وحتى القوات المسلحة وأجهزة الأمن التي كان يمكن أن يحدثها تأميم شركات البترول واضطراب تدفق المنتجات البترولية بسببه، خاصة وأن سلطة مايو لم تكن تملك بديلا لتلك الشركات؟ وعلى كل حال فإن الأسلوب الذي اتبع لحيازة نصيب في مصفاة شل يعتبر إرهاصا بنية حكومة مايو في اتباع نهج جديد نحو ملكية رأس المال الأجنبي لبعض المرافق والشركات. مهما يكن من شيء فإن ما أوردناه من مقدمات وإرهاصات تمثلت في نماذج لسلوك نظام مايو تجاه بعض الشركات ورجال الأعمال والمواقف التي اتخذتها سلطة مايو في الأشهر الأولى من عمر النظام، أسهمت كلها بصورة جلية وواضحة في تهيئة الأجواء التي أراد لها نظام مايو أن تسود قبل إقدامه على اتخاذ القرارات العاصفة المزلزلة بالتأميم والمصادرة. وهنا لابد من القول أن تلك الأجواء فتحت الباب واسعا لكثير من الأفراد والنقابات والجهات لتقديم الشكاوى ضد رجال الأعمال والمنشآت والشركات، وبعضها بلا شك شكاوى كيدية، للجهاز المركزي للرقابة العامة، الذي كان مركزا لتلقي تلك الشكاوى وبحثها والتوصية باتخاذ القرارات حيالها. لاسيما وأن قانون هذا الجهاز، والذي سيتم استعراضه في المقال الخاص بالترتيبات القانونية لقرارات التأميم والمصادرة، منحه صلاحيات واسعة للتعامل مع تلك الشكاوى وجعلها المصدر الرئيس الذي يستقي منه المعلومات. كما أن الرئيس جعفر نميري نفسه والرقيب العام الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر وغيرهما من قادة ثورة مايو وربما بعض وزرائها كانوا لا يألون جهد في تحفيز المواطنين للتقدم بالشكاوي ضد المفسدين والذين يعملون لتخريب اقتصاد البلاد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة