المقالة التاسعة: قرارات تأميم البنوك والشركات البريطانية ومنشآت أخرى. مَا نَفْعَلَهُ بِسُرْعَةٍ لَا نَفْعَلَهُ بِإتْقَان. يوليوس قيصر البدايات والتداول حول الفكرة: أوردنا في مقالنا حول التشريع الترتيبات القانونية للتأميم والمصادرة استعراضاً لقانون تأميم البنوك - قانون رقم (42) لسنة 1970م ، وقانون تأميم الشركات - قانون رقم (43) لسنة 1970م . وكلاهما صدرا بموجب الأمر الجمهوري رقم (1) وتم التوقيع عليهما من مجلس قيادة الثورة في 25 مايو 1970م نفس اليوم الذي أعلنت فيه القائمة الأولى من قرارات التأميم ، وهو يوافق الذكرى الأولى لثورة مايو وتم فيه الاحتفال بحضور الرئيس المصري جمال عبدالناصر والرئيس الليبي معمر القذافي. وأعلن فيه عن تأميم البنوك وعدد من الشركات الاجنبية الكبرى التي كانت تمارس نشاطات اقتصادية متنوعة تجارية وصناعية وخدمية. ولقد تم وضع تلك القوانين واتخاذ قرارات التأميم بعجلة ودون أي مبررات مقنعة وإنما فقط لمجرد أن الذكرى الأولى لثورة مايو كانت تستوجب قرارات تعلن يكون لها فرقعة ودوي وسط الجماهير حين يعلنها النميري في الاحتفال. وقد اعترف النميري نفسه بهذا قائلا ( تحدد لإعلان القرار - أي قرار التأميم- مناسبة قومية، وتلكأت الدراسات، وقبل ساعات من الموعد المقرر، جرى إعلانها وبصور متعجلة، وكان لا مفر من تنفيذ قرارات أعلنت)! جعفر محمد نميري – النهج الإسلامي لماذا؟ صفحة 104. جاء زلزال قرارات التأميم في موجتين. الأولى هي التي أعلنت في احتفال الذكرى الأولى لثورة مايو وضمت كل البنوك وبعض الشركات الاجنبية الكبرى كما تقدم، والموجة الثانية أعلنها نميري ضمن بيانه الذي أذاعه على المواطنين في 14/6/1970م والذي اشتمل على قائمة بعشرة شركات إضافية جرى تأميمها. ومهما يكن من أمر قرارات التأميم التي نفذها نظام مايو فهي في رأينا جاءت في إطار فكرة سبق طرحها وتم التداول فيها ربما قبل انقلاب 25 مايو 1969م. بل أن السودان شهد بعض تجارب التأميم وعرف ملكية الدولة للمؤسسات الاقتصادية كالبنوك التنموية الزراعي والصناعي والعقاري والمرافق العامة كالسكة حديد والميناء والنقل النهري والصناعات كالسكر والكرتون وتعليب الفاكهة وبعض المنشآت الأخرى إلخ. على أن الأهم في رأينا هو ما كشفه أحمد محمد الأسد المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة ثورة مايو في إطار التداول حول فكرة التأميم باعتبارها أحد الخيارات الممكنة لإصلاح الاقتصاد السوداني. يقول د. أحمد محمد سعيد الأسد في ورقة بعنوان (التأميم والمصادرة: ردي على البطل) نشرت بتاريخ 29/4/2015م بموقع سودانايل ( تجدر الإشارة هنا لموجهات الحزب الشيوعي 1968م بضرورة دراسة قطاعات الانتاج والخدمات، وبمجرد الصدفة كلفتني اللجنة الاقتصادية بإعداد دراسة حول إصلاح القطاع المصرفي وقمت بإعدادها ووزعت لأعضاء الحزب لإبداء الرأي وإضافة أو نقد ما ورد فيها من معلومات ومقترحات) ويمضي الأسد ليعدد البدائل والسيناريوهات التي طرحها للإصلاح الاقتصادي في ورقته التي كلفه بها الحزب الشيوعي السوداني ونوردها فيما يلي: 1. السيناريو الأول: الإبقاء على تركيبة القطاع المصرفي كما هي شريطة أن تُعَزَز رقابة البنك المركزي وتُشَجَع البنوك الوطنية (البنك التجاري وبنكي التنمية الزراعي والصناعي). 2. السيناريو الثاني: المشاركة في رأس المال المدفوع بنسبة 55% وفي مجالس الإدارات للتحكم في مناشط البنوك والشركات وقد اكتسبت وفقا لقانون 1925م الاستعماري نفس حقوق الشركات الوطنية في الاستحواذ على ودائع السودانيين واستنزاف الفائض الاقتصادي خارج البلاد. لكن الأسد يستدرك في هذا السيناريو وعلى الرغم من إيجابياته أن خزينة الدولة لم تكن تتحمل " لأنها خالية الوفاض لدى استيلاء انقلاب مايو على السلطة" على حد قوله. 3. السيناريو الثالث: إقامة بنوك وشركات وطنية موازية في المدي القصير (خمسة أعوام) لحماية الاقتصاد السوداني من السيطرة الأجنبية وذلك بتوسيع هيمنة القطاع العام في مجالات التنمية وإتاحة فرصة التمويل للقطاع المحلي الوطني الخاص. هنا أيضا يستدرك الأسد بالقول ( ومن سلبيات هذا السيناريو أن القطاع الخاص " كحيان" والقطاع العام " فلسان"). 4. السيناريو الرابع: تأميم البنوك الأجنبية والشركات البريطانية المهيمنة على الصادرات والواردات بالبلاد. وقد أقترح لهذا السيناريو اختيار الستة بنوك دون استثناء البنك التجاري السوداني بالإضافة للشركات البريطانية الأربعة. ويقرر الأسد حقيقة هامة حين يقول ( ويعتبر هذا السيناريو الأكثر مخاطرة والأفظع سلبيات) على حد قوله. وختم أحمد الأسد ورقته هذه التي أعدها بتكليف من الحزب الشيوعي السوداني، كما سبقت الإشارة، بالتنويه إلى (انعدام الكادر السوداني المدرب كعامل سلبي ستكون له آثار وخيمة لدي تنفيذ كل السيناريوهات المذكورة أعلاه "خاصة سيناريو التأميم" وتلاحظ أن غالبية الكادر المؤهل كان من الأجانب وخريجي كمبوني). بعد هذا يورد أحمد الأسد حقيقة هامة هي التي تسببت في تبني مجلس قيادة ثورة مايو ورئيسه نميري لسيناريو التأميم. إذ يقول ( تزعم أحمد سليمان مجموعة منشقة على الحزب في قيادة موالين لسياسات عسكر مايو، وقام من وراء اللجنة المركزية بعرض الورقة المذكورة على أعضاء مجلس قيادة الثورة، مما حفز نميري أن يطلب مني إعداد مذكرة حول القطاع المصرفي. وفي اليوم التالي دخل نميري مكتبي وقال لي "كلكم شيوعيه فقد عرض علينا أحمد سليمان نفس الآراء".؟!. فوجئت بعد عدة أيام بتبني المجلس لأخطر السيناريوهات. وهو التأميم وتكليف نميري وحده باتخاذ إجراءات التنفيذ بكل سرية لحساسيتها وخطورة تسربها للجهات المعنية). د. أحمد محمد سعيد الأسد – نفس الورقة المشار إليها أعلاه. والسؤال الذي يمكن أن يتبادر للذهن هنا وفي ضوء هذه الرواية: ما هو محتوى المذكرة التي أعدها مستشار مجلس قيادة الثورة الاقتصادي د. أحمد الأسد بطلب من نميري؟ وكيف تطابقت مع ما عرضه أحمد سليمان على أعضاء مجلس قيادة الثورة من وراء ظهر اللجنة المركزية للحزب؟ فلو أن المذكرة التي أعدها الأسد لنميري احتوت عل سيناريوهات مختلفة ما الذي حمل نميري على أن يقول للأسد " كلكم شيوعيه" وأن أحمد سليمان عرض نفس الآراء. هنا تجدر الإشارة لشهادة الدكتور منصور خالد في معرض حديثه عن المزايدات التي سادت تلك الفترة وفي الأشهر الأولى التي سبقت صدور الميثاق الوطني لثورة مايو إذ يقول ( كانت بوادر تلك المزايدات الانتهازية واضحة للعيان ، قبل صدور الميثاق، في قرارات التأميم والمصادرة التي صاغها جميعا رجلان هما الوزير أحمد سليمان والمستشار الاقتصادي للقصر أحمد محمد سعيد الأسد) منصور خالد – النخبة السودانية وإدمان الفشل – الجزء الأول صفحة 368. وفي ذات السياق يقول منصور خالد ( لقد وجد النميري سندا قويا في معركته مع الشيوعيين من داخل الحزب الشيوعي نفسه خاصة من جانب المجموعة المنشقة، بقيادة أحمد سليمان وزير التجارة الخارجية ومعاوية إبراهيم وزير الدولة للشئون الخارجية ووزير العمل ....وحاولت تلك المجموعة إحراز نصر على الحزب من اجل التأميم الشامل والمصادرات والذي قام بإعداد تفصيلاتها أحمد سليمان بمعاونة المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة الثورة احمد محمد سعيد الأسد.. وقد هزت تلك التأميمات الاختباطية الاقتصاد السوداني هزا عنيفا لسنوات) منصور خالد – السودان والنفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد – صفحة 36. وتجدر الإشارة إلى أن النعمان حسن في مقالاته التي سبق ذكرها (مايو الشاهد والضحية)، ذكر أن ما أورده منصور خالد في كتابه بشأن دور أحمد سليمان وأحمد الأسد في قرارات المصادرة ليس صحيحا ولم تكن لهم علاقة بقرارات المصادرة، وقد اقتصر دورهما في إعداد تفصيلات قرارات التأميم. كذلك تجد الإشارة في هذا السياق لما أورده عضو مجلس قيادة ثورة مايو الرقيب العام الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر في مذكراته حيث يقول واصفا بدايات العمل في الجهاز المركزي للرقابة العامة (تركزت الشكاوى على الشركات المملوكة للأجانب أو الأشخاص من أصول أجنبية مثل شركة سودان مركنتايل وازمرليان وبيطار ومتشل كوتس وغيرها . تجمعت لدينا معلومات بصورة مكثفة فعرضناها على مجلس الثورة فوردت فكرة المصادرة من مستشار المجلس الاقتصادي الدكتور احمد محمد سعيد الأسد. كان الجو ضاغطا وأعياد الثورة على الأبواب. ولابد من اتخاذ قرارات تعلن خلال الاحتفالات وتم على عجل إعداد قائمة بالمؤسسات التي سيتم مصادرتها وتأميمها بعضها لأسباب مبررة وبعضها بغير تبرير) زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر – مايو: سنوات الخصب والجفاف - صفحة 102. مهما يكن من شيء فقد كلف نميري المستشار الاقتصادي لمجلس ثورة مايو الدكتور أحمد الأسد باختيار مجموعة أخصائيين يوكل إليهم إعداد مقترحات التنفيذ. وهنا يقول الدكتور الأسد إنه بحكم عضويته في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي أبلغ اللجنة المركزية بهذا التكليف وحصل على الضوء الأخضر منها وذلك بالرغم من اعتراض أقلية رأت أن مشروع التأميم من تدبير المجموعة المنشقة بزعامة أحمد سليمان. وهذه المجموعة المعترضة ترى أن مشروع التأميم (لا جدوى له غير فك حيرة مجلس العسكريين الذي لم يجد أي منجزات يتباهى بها في الذكرى الأولى للانقلاب). واستعان المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة ثورة مايو، بحسب قوله، بكل من الطاهر عبدالباسط ومحمد على المحسي وتم تكليفه بإعداد الخطاب الذي ألقاه نميري بإستاد الخرطوم في ذكرى مايو الأولى يوم 25/5/1970م وأعلن فيه المجموعة الأولي من قرارات التأميم. أحمد محمد سعيد الأسد (التأميم والمصادرة: ردي على البطل) الموجة الأولى لزلزال التأميم: البنوك والشركات الأجنبية: خاطب رئيس مجلس قيادة ثورة مايو نميري الجماهير المحتشدة في استاد الخرطوم بمناسبة الذكري الأولى للثورة. وكان حضور الزعماء جمال عبدالناصر ومعمر القذافي قد أضفى على المناسبة بريقا وزخما حفز نميري لإلقاء خطاب مطول استرسل فيه بعد الترحيب بضيوف البلاد في الحديث عن ثورة مايو ومنطلقاتها وعزمها على إحداث التغيير في حياة السودانيين وبعض الخطوات التي اتخذتها لتحقق ذلك. وقبل إعلان قرارات تأميم البنوك واصل خطابه قائلا ( إن الثورة جاءت من أجل أن تسير بالشعب خطى ثورية على طريق التقدم والاشتراكية، إن الثورة تسعى إلى إحداث تغيير جذري يصنعه الشعب بملكاته الخلاقة وطاقاته الزاخرة. إن الثورة تطلق هذه الطاقات والملكات وتفتح أمامها أبواب التغيير إلى المستقبل المشرق. إن الثورة ليست صرخة يطلقها الشعب ليشفي بها غليل غضبه، إن الثورة لا تعرف الحقد والكراهية، ولا تعتدي على حقوق أحد لأنها من أجل الحب والخير والرخاء حب الشعب وخيره ورخائه. ولكن الثورة لن تفرط في حق الشعب بل إنها تفجرت من أجل صون حق الشعب ووضعه في خدمته تقدما وارتقاءً بحياته. ومن أجل كل هذا وباسم الله وباسم الشعب قررت حكومة الثورة ما يلي) خطاب الرئيس نميري في الذكرى الأولى للثورة – 25 مايو 1970م. تأميم البنوك: ثم أشار نميري لقانون تأميم البنوك وأعلن أنه اعتبارا من تاريخ نفاذه تقرر تأميم البنوك الموجودة في جمهورية السودان الديمقراطية كلها والوارد بيانها فيما يلي وتؤول ملكيتها إلى الدولة وتغير مسمياتها وفقا لما هو مبين مقابل كل منها: • بنك باركليز دي سي أو ويسمى بنك الدولة للتجارة الخارجية • بنك ناشونال آند قرندليز " بنك أمدرمان الوطني • البنك التجاري الأثيوبي " بنك جوبا التجاري • البنك العربي المحدود " بنك البحر الأحمر التجاري • بنك مصر " بنك الشعب التعاوني • بنك النيلين " بنك النيلين • البنك التجاري السوداني " البنك التجاري السوداني ثم أعلن نميري أن تنمية موارد البلاد اقتضت أن تتولى الدولة بنفسها إدارة البنوك. وأن خطوة التأميم هي إجراء طبيعي اقتضته السياسة المالية والاقتصادية التي انتهجتها الثورة. وذكر أن تأميم البنوك لا يعني أن الثورة تنكر على القطاع الخاص دوره في المجتمع وفي اقتصاد البلاد. وبالتأميم ستكون البنوك هي وسيلة الدولة للتنمية وتهيئة فرص أكبر لنشاط القطاع الخاص. وقد ضحك الزعيم عبدالناصر وصفق ومعه القذافي حين أتي النميري على ذكر بنك مصر وقرار تأميمه ليصبح بنك الشعب التعاوني وأثار هذا أيضا موجة من الضحك والتصفيق بين ضيوف الاحتفال والجماهير المحتشدة! بعدها أعلن النميري عن تعديل قانون بنك السودان بما يتناسب والمرحلة باعتباره البنك المركزي الرقيب على الأداء المصرفي، وكذلك لأن قرار التأميم جعل بنك السودان هو المالك لأصول البنوك المؤممة. كما أشار لتعويض حملة أسهم البنوك من خلال السندات الحكومية وبنسبة فائدة قدرها 4% سنويا لمدة خمسة عشر عاما تبدأ بعد عشرة سنوات. تأميم الشركات البريطانية: استرسل نميري في خطابه، وقبل أن يعلن قرار تأميم الشركات البريطانية خاطب الجماهير قائلا (وما أظنكم تجهلون أمر بعض الشركات الأجنبية التي لعبت دورا خطيرا في حياة بلادنا الاقتصادية وكانت أدوات للاستغلال الاستعماري ومنافذ للتدخل الأجنبي ولم يقتصر نشاط هذه الشركات على الميادين الاقتصادية والتجارية فحسب بل تعداها إلى دعم كيانات الرجعية وحماية ظهرها بمختلف الوسائل, ولننظر إلى مجموعات شركات سودان مركنتايل وجلاتلي هانكي ومتشل كوتس وشركة الصناعات الكيماوية التي كانت تسيطر على تجارتنا الخارجية واحتكرت التعامل التجاري في الصادر والوارد وحددت بذلك امكانيات توسيع علاقاتنا التجارية مع مختلف البلدان مما كان له رد فعل على التنمية الاقتصادية بل شل قدرات القطاع الخاص) وفي ضوء هذه المبررات مضي نميري للقول أنهم في مجلس قيادة الثورة لم يجدوا سبيلا سوى اتخاذ "قرار ثوري" بتأميم مجموعات تلك الشركات وتحويلها إلى شركات تمتلكها وتديرها الدولة. وقضى قرار التأميم بتغيير مسميات الشركات الأربعة وفقا لما هو مبين مقابل كل منها: • مجموعة شركات جلاتلي هانكي وشركاهم (سودان) وتسمى (مؤسسة مايو للعاملين). • شركة الصناعات الإمبراطورية الكيماوية ( السودان) المحدودة وتسمى الشركة الوطنية للكيماويات. • مجموعة شركات سودان مركنتايل. • مجموعة شركات متشل كوتس. وتدمج المجموعتان الأخيرتان في ( مؤسسة الدولة للتجارة الخارجية) وهي نفس مؤسسة الدولة التجارية التي استعرضنا قانونها في المقال الخاص بالتشريعات والقوانين التي اتُخِذت بموجبها تلك القرارات العاصفة . الموجة الثانية لزلزال التأميم- القائمة الثانية: في بيانه الذي أذاعه رئيس مجلس قيادة الثورة للشعب بتاريخ 14/6/1970م ونشرته الصحف ومنها الرأي العام في عددها رقم 8789 بتاريخ 16/6/1970م، ألحق نميري بقائمة تأميم البنوك والشركات البريطانية قائمة جديدة بعشرة شركات تم تأميمها إضافة لثلاثة عشر شركة ومجموعة من ممتلكات الأفراد والمحلات والمنشآت الصغيرة ودور السينما تمت مصادرتها كما سبق أن أوضحنا في المقال الخاص بقرارات المصادرة. خاطب نميري المواطنين معددا بعض الحيثيات التي نوردها كما وردت في البيان بنصها لأنها هي التي دفعت سلطة مايو لتأميم ومصادرة ذلك العدد الإضافي من الشركات ، قال نميري في بيانه: (إخوتي البسطاء الطيبين لقد عشتم مع قيادة ثورتكم لحظات عمر تمسك بأطراف بعضها من فتنة أبا إلى وضع الحراسة على ممتلكات آل المهدي وآل الخليفة ومصادرة مجموعة شركات عثمان صالح فالتأميمات والمصادرات الأخيرة. أما الآخرون الذين يقفون في صف آخر مع مطامعهم وأنانيتهم الذميمة، هؤلاء إخوتي جاءوا يتباكون ليدخلوا الروع في قلوب شباب مجلس قيادة الثورة. قالوا إن السوق قد اكتسحها الرعب وأن الاقتصاد في خطر دائم، وراح نفر منهم نعرفه يكشفون الأسماء ويطوفون الأسواق يخيفون شاكلتهم ألا يودعوا أموالهم في البنوك لأنها ستصادر وذهب آخرون ونحن نعرفهم يحولون ما عندهم إلى مخازن أخرى ظنا منهم أن الثورة لا يمكنها التعرف عليها والبعض بدأوا يحولون النقد الذي بأيديهم إلى حلي من ذهب وفضة، بئس ما يكنزون. وراح آخرون ينشطون سوق التجارة في العملات الصعبة، وبدأ البعض في التخطيط لعمليات تهريب جريئة بشراء سلع تغطي قيمتها ممتلكاتهم لتشحن بالطريقة العادية وتسلم قيمتها بالخارج تاركين البلاد نهائيا مخلفين من ورائهم ممتلكات لا تفي بديونهم ولا تغطي حساباتهم المكشوفة بالبنوك). ثم يمضي بعد أن عدد تفاصيل هذه الحيثيات للقول (وتأكيدا لهذه الحقيقة إخوتي وتحريرا للاقتصاد السوداني الذي خربه من تنبض قلوبهم لأرض غير هذه الأرض وحبا مفرطا لكم ولهذه الأرض الطيبة المجيدة لقد قرر مجلس قيادة الثورة تأميم الشركات الآتية بنفس الأسس التي أممت بها المؤسسات التي أعلنت في الخامس والعشرين من مايو وذلك ابتداءً من اليوم الرابع عشر من يونيو). ثم أعلن نميري قائمة الشركات المؤممة في ذلك التاريخ وتشمل كل من: • شركة النيل الأزرق للتغليف. • شركة بيرة النيل الأزرق. • شركة باتا لصناعة الأحذية. • شركة أي بي وشركاه. • شركة سفريان. • شركة ناشونال كاش لآلات تسجيل النقد. • شركة البحر الأحمر للترحيلات. • شركة التخزين والشحن السودانية المحدودة. • شركة الأتومبيلات. • شركة قطان. مما يلفت الانتباه هنا تعبير نميري - أو بالأحرى تعبير معدي البيان- الذي استخدمه وهو يعلن تلك القرارات قائلا (وتحريرا للاقتصاد السوداني الذي خربه من تنبض قلوبهم لأرض غير هذه الأرض)! الذين عناهم نميري ومن قبله معدو البيان، هم أولئك التجار ورجال الأعمال الذين وفدوا للسودان في أزمان سابقة، وربما ولدوا في أرضه واكتسبوا حقوق المواطنة كسودانيين، مثلهم مثل المهاجرين إلى كل أصقاع الدنيا الذين أقاموا في غير أوطانهم وحازوا جنسيات البلاد التي هاجروا إليها، وأقاموا وتوالدوا فيها وساهموا على نحو أو آخر في نهضتها الاقتصادية. وبحسب الدكتور منصور خالد ( شاب تلك القرارات ، كما هو واضح، شيء أشبه بالعنصرية إذ أن أكثر من امتدت يد المصادرة لأملاكهم الخاصة مواطنون سودانيون كانوا وما زالوا لا يعرفون لهم وطنا غير السودان، وأسهموا كما أسهمت أسرهم إسهاما كبيرا في بناء السودان الاقتصادي، ومع هذا أنكرت عليهم سودانيتهم بسبب أصولهم القديمة غير السودانية مثل آل كافوري وفانيان وقرنفلي) منصور خالد - النخبة السودانية وإدمان الفشل - الجزء الأول – صفحة 369. تشكيل مجالس الإدارات واختيار المدراء للبنوك والشركات المؤممة: وعلى كل حال كان الهاجس الذي يشغل البال هو كيف ستدار هذه البنوك والشركات التي طالتها يد التأميم. وكنا قد أشرنا فيما تقدم نقلا عن الدكتور أحمد الأسد المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة الثورة أن سيناريو التأميم يعتبر "الأكثر مخاطرة والأفظع سلبيات". وربما تغيرت قناعات المستشار الاقتصادي في ضوء الضغوط التي ربما مارسها نميري وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين راقهم سيناريو التأميم وشحنهم الجو الثوري بحماس للفكرة أنساهم مخاطرها ومحاذيرها. ومهما يكن من شيء فقد اختارت سلطة مايو مجالس إدارات البنوك والشركات التي تم تأميمها، وسمت رؤساء تلك المجالس والمدراء العامين للبنوك والشركات، وأناطت بهم تولي المسئولية نحو إدارة تلك الشركات في ذلك الجو الثوري المشحون بكثير من المخاطر والمشكلات. وجاءت مجالس إدارات البنوك والشركات كما نشرتها الصحف ومنها صحيفة الرأي العام في عددها رقم 8775 بتاريخ 28/5/ 1970م على النحو التالي: أولا: تم إعادة تشكيل مجلس إدارة بنك السودان الذي أصبح مالكا لأصول البنوك المؤممة ويعتبر الجمعية العمومية لكل منها بموجب قانون تأميم البنوك لسنة 1970م كما يلي: محمد علي المحسي - رئيسا عبداللطيف حسن - عضوا ومحافظا للبنك عمر محمد عثمان - مدير جامعة الخرطوم - عضوا العميد صديق حمد - ممثل القوات المسلحة - عضوا أحمد محمد سعيد الأسد - مستشار الشئون الاقتصادية لمجلس الثورة – عضوا ثانيا : بالنسبة للبنوك المؤممة فقد تم تشكيل مجالس إداراتها وتعيين مدرائها العامين ليمارسوا اختصاصاتهم وفقا لقانون تأميم البنوك لسنة 1970م كما يلي: مجلس إدارة بنك أمدرمان الوطني (بنك ناشونال آند قرندليز سابقا) خليفة عباس- رئيسا الدرديري إبراهيم - مديرا وعضوا محمد سوار الدهب - عضوا إدريس الهادي - عضوا صالح محمود اسماعيل - عضوا مجلس إدارة بنك الدولة للتجارة الخارجية (بنك باركليز دي سي أو سابقا) منصور أحمد الشيخ - رئيسا عوض عبد المجيد - مديرا وعضوا محمد السيد حاج الشيخ - عضوا محمد أحمد السنهوري -عضوا سيد عبد الله السيد - عضوا مجلس إدارة بنك النيلين (بقي اسمه كما هو قبل التأميم) حسن متوكل - رئيسا إبراهيم محمد نمر – مديرا وعضوا صديق أحمد خير - عضوا محمد صادق بشير - عضوا أمين محمد صديق - عضوا مجلس إدارة بنك الشعب التعاوني (بنك مصر سابقا) حسن بابكر الحاج - رئيسا بابكر محمد علي فضل - مديرا للبنك وعضوا حسن أحمد عثمان - عضوا العميد عوض أحمد خليفة - عضوا الفاتح يوسف - عضوا يوسف أحمد المصطفى – عضوا محمد الزبير - عضوا مجلس إدارة بنك البحر الأحمر التجاري (البنك العربي المحدود سابقا) الهادي عابدون - رئيسا تاج السر عبدالله - مديرا وعضوا عبد الله محمد فرح - عضوا بدر الدين مدثر - عضوا محمد نور الحاج - عضوا مجلس إدارة بنك جوبا التجاري (البنك التجاري الأثيوبي سابقا) إبراهيم يوسف سليمان - رئيسا عبد العزيز مصطفى- مديرا وعضوا سابنا حامبو - عضوا فوزي التوم - عضوا حاجه كاشف - عضوا مجلس إدارة البنك التجاري السوداني (بقي اسمه كما هو قبل التأميم) مهدي أحمد - رئيسا إبراهيم جار النبي – مديرا وعضوا بشرى إدريس محمود - عضوا أمين أحمد المرضي - عضوا أبو زيد خليفة - عضوا إبراهيم محمد إبراهيم سعد - عضوا محاسن خضر - عضوا ثالثا: بالنسبة للشركات التي أممت في 25/5/1970م ، أولى مجلس قيادة ثورة مايو أهمية كبرى لشركة جلاتلي هانكي وشركاه البريطانية والتي تعتبر كبرى الشركات البريطانية المؤممة، وذلك لتنوع نشاطاتها وأهميتها لاقتصاد البلاد حيث تمارس تجارة الصادر والوارد بكل أنواعها وخدمات الملاحة البحرية والتأمين والتوكيلات التجارية بأنواعها والمقاولات والمعدات والآليات للقطاعات الاقتصادية المختلفة ومواد البناء والعطاءات الحكومية وغيرها. ولهذا تم تأميمها وسماها باسم الثورة والعاملين "مؤسسة مايو للعاملين". كما أولى المجلس شركة الصناعات الإمبراطورية الكيماوية ( السودان) المحدودة اهتمامه نظرا لما تمثله من أهمية في مجال صناعة وتوريد الكيماويات بأنواعها والأسمدة والمبيدات وغيرها. اللافت للنظر هو ضخامة عضوية مجلس إدارة مؤسسة مايو للعاملين. فمن دون سائر البنوك والشركات التي جرى تأميمها وشكلت مجالس إداراتها من عدد يتراوح ما بين خمسة إلى سبعة أعضاء تم تشكيل مجلس إدارة هذه المؤسسة من تسعة عشر عضوا على النحو التالي: مجلس إدارة مؤسسة مايو للعاملين: أحمد حسن الضو - رئيسا حامد عبد الحليم - مديرا وعضوا محجوب سيد أحمد- عضوا حسن قسم السيد - عضوا محمد محجوب شورة - عضوا محمد بشير - عضوا عبدالله الحسن - عضوا صديق أحمد اسماعيل - عضوا الشيخ الخير - عضوا عزيزة كافي - عضوا نفيسة المليك - عضوا محمد الحسن عبدالله - عضوا عثمان علي ابراهيم - عضوا عبدالرحمن عباس - عضوا صالح عيسى سوار الدهب - عضوا ممثل للقوات المسلحة - عضوا ممثل لقوات البوليس - عضوا ممثل لقوات السجون - عضوا عبد الرحيم الريح - عضوا أما مجلس إدارة شركة الكيماويات الوطنية (شركة الصناعات الإمبراطورية الكيماوية - السودان) فقد تم تشكيله على النحو التالي: الطاهر عبدالرحمن - رئيسا عبد السلام عبد المنعم – مديرا وعضوا عبد الحميد إبراهيم - عضوا فكري عاذر - عضوا يوسف ميرغني – عضوا أما شركة متشل كوتس وسودان مركنتيايل اللتان تم تأميمهما في 25/5/1970م فقد تم ضمهما بموجب قانون تأميم الشركات لسنة 1970م لمؤسسة الدولة للتجارة الخارجية المنشأة بموجب قانون خاص بها كما تم استعراضه في الفصل الخاص بالترتيبات القانونية. رابعا: أما بالنسبة للشركات العشر المؤممة في الموجة الثانية لقرارات التأميم بتاريخ 14 /6/1970م فقد أسند اختيار إداراتها لأحمد سليمان وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية المسئول عن تلك التأميمات فقام باختيار عدد من الأشخاص تم تكليفهم بإدارتها ولا يتبين أنه تم تشكل مجالس إدارات لتلك الشركات. وقد أعلن عن تلك التكليفات الإدارية عضو مجلس قيادة الثورة الرقيب العام في بيانه المنشور بالصحف ومنها الرأي في عددها رقم 8789 بتاريخ 16/6/1970م. حيث قال (قرر الأخ أحمد سليمان التعيينات التالية في المؤسسات المؤممة) ثم تلى تلك التعيينات على النحو التالي: شركة النيل الأزرق للتغليف: أسندت إدارتها لكل من السر محمد أحمد ، علي مصطفى الشفيع ، إبراهيم يوسف محمد. شركة بيرة النيل الأزرق: أسندت إدارتها لكل من إبراهيم الياس ، حسن كمال ، عمر الزين. شركة باتا: أسندت إدارتها لكل من أنطون قرنفلي، بابكر محمد على بوب، هلري لوقالي. شركة أي بي: أسندت إدارتها لكل من العميد إبراهيم رمضان، العقيد سيد محمد عثمان ، أحمد الطيب بابكر. شركة سفريان: أسندت إدارتها لكل من عبداللطيف الضو ، عمر المبارك. شركة ناشونال كاش ريجستر: تم إرجاء القرار بشأنها ولاحقا تم تكليف شريف بليه بإدارتها. شركة البحر الأحمر للشحن وشركة التخزين والشحن السودانية المحدودة: أسندت إدارتها لكل من العميد عثمان أمين ، حامد السيد ، حمزة حاج الأمين. شركة الأتومبيلات السودانية: أسندت إدارتها لكل من العميد إبراهيم النور سوار الدهب ، حسن فرح ، عبدالرحمن علي شللي. شركة قطان: أسندت إدارتها لكل من العميد إبراهيم أبو الفتح ، حسين محمد أحمد شرفي ، صمويل أروب. ونلاحظ في هذه القوائم أن عددا لا يستهان به من ضباط القوات المسلحة ورجال الخدمة المدنية سواء المتقاعدين أو الذين كانوا لا يزالون على رأس العمل في جهات عملهم الحكومية وغيرها، قد تمت الاستعانة بهم لإدارة المؤسسات المؤممة. وقد انطبق نفس الشيء في التكليفات التي تمت لإدارة المؤسسات المصادرة كما سبق أن أوضحنا. ولم يكن لمعظم من تم تكليفهم الخبرة الكافية والمعرفة بالنشاطات التي كانت تمارسها تلك المؤسسات ولا الإلمام بطبيعة الأسواق المحلية والخارجية التي كانت تتعامل فيها. ولا تثريب عليهم فقد أبلوا كل واحد منهم في مجاله المهني الذي خبره أثناء سنوات عمله حتى تم اختياره لهذه المهمة. وبرغم الجهد الذي بذله كثير من أولئك المدراء في ظروف بالغة الدقة والتعقيد، إلا أن البعض منهم وجدوا في تلك المؤسسات مرتعا خصبا لممارسة الفساد، وتحقيق المكاسب الخاصة، والسفر في المأموريات لخارج البلاد دون حاجة، وتوظيف المعارف والمحاسيب وغير ذلك من الممارسات. وقد نعي عليهم الرئيس النميري نفسه هذه الممارسات بعد أن تم حل الجهاز المركزي للرقابة العامة، وبدأت خطوات التراجع عن قرارات المصادرة وإعادة النظر في أسس بعض قرارات التأميم. وهو ما سنعرض له في مقالة أخرى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة