البشير الرئيس زعم بالأمس للقناة الفرنسية الناطقة بالعربية ( فرانس 24) أنه ( اكتشف) أن إيران كانت تسعى لنشر التشيّع في السودان.. بما يعني أنه اكتشف سراً خطيراً جدا.. لكن البشير يحتاج إلى محامين فطاحل لإثبات أنه حقيقةً ( اكتشف) ما كان معلوماً لدى الجميع.. فمن يصدق أن نظام البشير بكل مقدراته الأمنية لا يعلم ما نعلم..
لكن نظامه كان معلَّقاً في أعالي شجرة شائكة، ممسكاً بصفقة ( إيران)، و لم يكن يعرف موقعه إلى أن هبت رياح اقتصادية عاصفة، فتدارك موقفه، في آخر لحظة، ففِّك صفقة إيران و مسك فرع ( السعودية) في فزع! هذه حقيقة يجب تأكيدها.. فموازنة الأمور بين مصلحة النظام و مبادئه- إن وُجدت المبادئ- كانت غير واضحة تماماً يوم استمسك البشير بإيران بدعوي أن أمريكا هي الشيطان الأكبر.. فترنم:- " أمريكا روسيا قد دنا عذابها.." و امتد شهر العسل عقدين و نيف.. و فجأة بدأ الفتور فالطلاق بدون مؤخر الصداق..
و الحقيقة الأكيدة هي أن النظام في السودان لا تعنيه المبادئ.. لكن تعنيه مصلحته، و لا شيئ غير مصلحته فحسب.. و لا مصلحة للسودان في أجندته، ما لم تتماشى مع مصلحته في المقام الأول..
كثرت تحركات الحسينيات الشيعية في السودان، ذي الموقع الاستراتيجي الذي منه يتمكن التشيع من الانتشار في جميع أنحاء أفريقيا، ما أثار غضب السلفيين السودانيين و كثير من المواطنين.. بل و أخافت تلك الحسينيات دول الخليج.. و توالت الضغوطات منها على النظام من عدة اتجاهات.. فقام بطرد الملحق الثقافي الإيراني الذي كان يدير شأن الحسينيات، و كان قبلها قد أغلق المراكز الثقافية الإيرانية التي كانت تنشر المذهب الشيعي بين السودانيين على مرآى من النظام.. و قالت وزارة الخارجية السودانية أن المراكز تجاوزت التصديق الممنوح لها، و صارت تشكل تهديدًا على الأمن الفكري والاجتماعي في السودان!
و في تبرير لما قام به، قال الرئيس البشير لصحيفة ( الشرق الأوسط)، أن قرار إغلاق المراكز الثقافية هو خطوة استراتيجية وليس تمويهًا على الخليجيين". و أضاف:-: "إذا كان هناك شيعة في العراق وفي لبنان وفي اليمن وفي سوريا وغيرها، لا يمكن أن نسمح بأن يكون لهم وجود في السودان، لندخل دوامة جديدة من الصراع، الذي فيه ما يكفيه من المشاكل، وتبقى الحكاية أكثر من مزعجة بكل المقاييس"،
ضغوط كثيرة كانت دول الخليج توجهها ضد النظام.. اقتصادياً و سياسياً و دبلوماسياً، و ما منع طائرة الرئيس من زيارة إيران عبر السعودية إلا أحد تلك الضغوط الممارسة ضده.. فالسعودية كانت تتخوف من محاولات إيران الدؤوبة لنشر المذهب الشيعي بالخليج، و ربما اتخذت السودان منصة لنشر التشيع في غرب السعودية التي تعاني من الحركات الشيعية في شرقها..
و سافر البشير- شخصياً- إلى السعودية لشرح ما جرى بعد طرد الملحق الثقافي الإيراني.. و في ذلك الصدد قال البشير: ”شرحنا رؤيتنا للسعوديين، حيث بدأت تتضح الرؤية الفعلية لحقيقة علاقاتنا مع طهران، حيث أن كل المعلومات التي كانت ترد للقيادة السعودية في هذا الإطار، كانت مغلوطة ومصطنعة ومهولة ومضخمة، انهارت بإصدار القرار الأخير بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية".
كان أول مركز ثقافي إيراني تأسس بالسودان في عام 1988 ، إبان الديمقراطية الثالثة، و فتح لها نظام الانقاذ جميع الأبواب لتدخل بشكل سافر أغضب العديد من السودانيين- سلفيين و غير سلفيين- في الداخل.. و جعل الخليجيين يرتابون في أمر حكومة البشير.. و في مخططاتها الاستراتيجية..
و ازداد قلق الخليجيين بعد ما ظهر للعيان تعاون مريب بين السودان و إيران في المجال الأمني والعسكري، لدرجة رسوّ السفن الإيرانية بانتظام في ميناء بورتسودان، المواجه للشواطئ السعودية، محملة بالأسلحة لتهريبها إلى الحركة المقاومة الإسلامية حماس.
و كانت إيران وعدت السودان بتعبيد طريق يربط السودان بأقرب مدينة رئيسية في دولة جنوب السودان التي انفصلت عن الخرطوم في 2011، لكنها تأخرت في إنجاز ذاك الطريق، و الأدهى من التأخير أنها كانت ترسل مقابل كل حاوية تضم مواد وتجهيزات لتعبيد الطريق حاويتين مليئتين بالكتب الشيعة..
و لأن مصالح إيران الاستراتيجية هي التي تتحكم في تعاطيها مع السودان، فقد انتهزت الفرصة، عقب الضربة الاسرائيلية لمصنع اليرموك لإنتاج الأسلحة في عام 2012 بالخرطوم، فتقدمت بعرضً إلى السودان لبناء منصات صواريخ غرب البحر الأحمر و رفض السودان العرض، حيث حامت الشكوك و التأويلات حول فيما إذا كانت السعودية هي المستهدفة بتلك المنصات أم اسرائيل.. و بدأ تدهور العلاقات بين البلدين.. خاصة و أن إيران لم تكن تتعاطى مع السودان اقتصادياً سوى في حدود ضيقة للغاية.. و المعروف أن السعودية هي ثاني أكبر دولة من حيث الاستثمار في السودان بعد الصين..
و فتح التدهور بين السودان و إيران أبواب الخليج واسعة أمام البشير.. حيث وقَّع السودان و السعودية اتفاقيات تتعلق بمشاريع بناء السدود وقطاع الكهرباء وحفر آبار وقنوات للري.. و استثمارات زراعية ضخمة..
و السعودية كانت تقوم- قبل هذا الاتفاق- بتمويل صادراتها إلى السودان من خلال برنامج الصادرات السعودي التابع للصندوق السعودي للتنمية الذي قدم تمويلا بنحو 2.5 مليار ريال من الصادرات السعودية للسودان، وهي مستمرة في هذا النوع من التمويل.
و الملاحظ أن المساعدات السعودية ( الحكومية) التي تقدم للسودان مساعدات عينية أو في شكل استثمار مباشر، و ربما مخافة الفساد المالي و الاداري السائد في نظام الانقاذ.. و تبذل السلطات السعودية، حالياً، جهوداً مقدرة لتشجيع الشركات الخاصة السعودية للاستثمار في للسودان..
أثمر التقارب في العلاقات بين السودان والسعودية في عدة مجالات مجزية للنظام و للسعودية.. فإضافة إلى اتفاقيات تمويل السدود سابقة الذكر، هناك اتفاقية أخرى تقضي بزراعة نحو مليون فدان من الأراضي على ضفاف نهري عطبرة و ستيت في شرق السودان. و كل العادة، الشعب السوداني لا يعلم شيئاً عن بنود الاتفاقيات التي تتم مع الدول الأخرى.. لكننا نجزم بأن النظام قد باع السودان بثمن بخس، و هو مضطر.. و " ذهب المضطر نحاس!"، كما قال الفيتوري..
نعم، إن العلاقات مع إيران أضرت بمصالح السودان مع دول الخليج التي تعتبر من أكبر الدول استيرادا للحوم السودانية و أكثر الدول استثمارا في القطاع الزراعي بالسودان. استدرك البشير ذلك، بعد مراجعات مع النفس.. فذهب إلى السعودية لتوضيح الأمر.. و يقال أن السعودية استدعته لتعرض عليه نيتها في الحرب ضد الحوثيين و تطلب منه المشاركة في تلك الحرب- حسب إمكانياته المادية و البشرية- و لم يتوانى البشير في قبول مشاركة السودان في عملية “عاصفة الحزم” ضد الحوثيين في اليمن على الفور.. بل و قطع العلاقات بين السودان و إيران، و أبلغ السعودية أنه أدى المهمة في انتظار المكافأة!
و نسأل: هل السدود المعنية ذات جدوى للسودان؟ و هل الأراضي الزراعية المباعة للسعودية لا تعني نقصاً في مساحة السودان المتبقية بعد انفصال الجنوب؟ و هل تحركات مواطني دال و الشريك تعني شيئاً للنظام؟ و ماذا سوف يكون رد فعل الأجيال القادمة حين تجد أن لا أراضي خصبة لها في بلدها؟
إننا من الذين يرون أن التقارب مع السعودية هو التقارب الصائب.. و نتمنى أن يكون ذلك وفق نظرية ( الكل يكسب) كأساس للتعاطي بين البلدين..
في تقديري، لا الانحياز للسعودية صائب، خاصة في الحرب ضد اليمن، وتمكين تنظيمات الوهابية، ولا الانحياز مع إيران كان صائبا وتمكين المذهب الشيعي من الانتشار. كان ينبغي للسودان أن يتعلم من الدور العماني الغير منحاز، ولكن كما قال الكاتب فإن النظام تدفعه المصلحة والطمع في المساعدات الاقتصادية..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة