|
البربتوس والكزاك بقلم شوقي بدرى
|
الدكتورة آمنة الصادق بدري زوجة العميد قاسم بدري قامت مشكورة بأنزال كثير من صور اسرة آل بدري في الانترنت. و أكتشفت أنني لا أعرف الكثير منهم . ثم نشرت آمنة بدري ما عرف بالوصايا العشرة , و ما كتبة بابكر بدري قديماً , كقاعدة لأطفال الأسر السودانية . و استوقفني شيئان , الأول عدم اللعب مع أولاد الشارع , و الوصية الثانية هي عدم شتم أو معاملة الخدم بطريقة غير جيده ، ما معناه انه من المفروض ان يكون هنالك دائماً خدم و سادة في مجتمعنا السوداني . و هذا امتداد للرق القديم .
ابن عمتي و استاذنا في الثانوي الطيب ميرغني شكاك الذي كان شيوعياً, ذكر هذه الوصايا في كتابة الحوش والمقصود هو حوش بابكر بدري . و لأنه ولد بعد وفاة والده و ابن عم والدته , تربى في حوش بابكر بدري . و الطيب ميرغني قام بأرسال الكتاب لي قبل نشره . فأثنيت في خطاب علي الكتاب و علقت على موضوع اولاد الشارع و قلت له مازحاً : ( أولاد الشوارع الكانوا بمنعوكم تلعبوا معاهم ديل ما نحنا ) . و توقفت المراسلة عند هذه النقطة والحقيقة هي انني لم اتعرف وادخل بيوت آل بدري قبل رجوعي من اوربا .
و بدأت أفكر في جدنا الكبير محمد بدري قال , و هذا ما اورده بابكر بدري في تاريخ حياته , أنه كان يتعب و يشقى في الساقية و هو صبي صغير . و كان من تعبه عندما تحضر له والدته طعام العشاء , ينام من التعب و يده في القصعة . و عندما يستيقظ يواصل الأكل . فقال له بابكر بدري: ( لكن يا ابوي ما بتكون خايف يكون جا كلب و دخل قدومه في الاكل ) . فقال محمد بدري الكبير : ( كلب شنو البجي الرباطاب ، يسوي شنو ؟) . فقال بابكر بدري لوالده : ( المقعدكم يا ابوي في بلد الكلب ما بجيها شنو ؟
و الحقيقة ان من طرد اسرتنا من الرباطاب هو الجوع و شظف العيش . بعد اغتراب جدنا الكبير محمد بدري الى الصعيد تبعه ابنه بابكر بدري راكباً في الدرجة الاولى , و هو في الرابعة من عمره . و كان هذا خلف عمه محمد علي ود بدري على حماره . و حتى بعد ان وصل بابكر بدري الى الصعيد مرت بهم ظروف لم يكن عندهم من الطعام سوى بعض الدقيق . و كان اخوه سعيد يحضر الصمغ لكي يخلطوه بالدقيق . و كان بابكر بدري من جوعه الشديد يقوم بلعق الصمغ الذي يلتصق بثوب اخيه . و لكم ان تتصوروا حالة الثوب , لأنه قديماً كان للسودانيين ثوب واحد عبارة عن قطعة قماش . و هذا الثوب يلف على وسط الانسان عندما يعمل في الحقل . و يستعمل كغطاء في الليل . و هكذا كان حال اغلب السودانيين .
الأخ عبد الرحمن عبد الماجد من حلة عبد الماجد خارج المناقل , كان يقول لي ان البعض كان يأتي من خلف الترعة , و هذا في الخمسينات , و يقول له : ( قول لأبوك اديني السروال , انا ماشي المناقل ) . و السروال لم يكن متوفرا لكل السودانيين .
. أذكر أن البروفيسور فاروق كدودة كان يقول و نحن في القاهرة في نهاية التسعينات : ( كل سوداني يقول ليك انا ابوي و انا جدي ... و انا ابوي ... , أي سوداني جدو كان يا راعي يا تربال ( مزارع) , مافي حاجة تاني ) . فقال احد الأخوة بأن جده كان ارستقراطياً و بالسؤال وضح ان جده كان نواتياً ( عامل في مركب ) . فضحكنا .
ليس هنالك ما اكرهه اكثر من تشدق البعض بأنهم اولاد قبائل أو اولاد عوائل . و كنت ارد بحده على كل من استعمل هذا التعبير . و كنت اضع بيني و بينه حاجزاً و لا أسمح لنفسي ابداً بان اقيم معه اي علاقة . فعندما يتحدث الانسان عن نفسه بأنه ابن عائلة او ابن قبيله , فهذا اقصاء للآخرين . و هذا يعني انا و انت ابناء عوائل و الآخرون شماسة لا يستحقون العيش .
بعد هزيمة ود النجومي , اسر بابكر بدري . و قتلت القنبلة التي سقطت في وسطهم شقيقه و شقيقته الصغيرة و أمتلأت جبته بدم و مخ شقيقته . و ماتت شقيقته الآخري بالعطش ودفنوها بدون غسل او كفن . و مات اهله من حوله . وكتب في مذكراته . تعرض بابكر بدري للصفع و الضرب و الأهانة في اول ايام الاسر .الى ان كان الدم يخرج من الأذن. واجبر علي حمل سلة مليئة بالبليلة الساخنة علي راسه , والعسكري المصري يوزعها علي المساجين . و اغتصب بعض المصريين النساء الي ان حماهم وود هاوس. و عمل بابكر بدري في أعمال السخرة . و اضطر لأن يغرف البراز بيديه عندما سخر لنظافة المراحيض في السجن . ثم قسم الأسرى على المصريين و كان من نصيب اسرة ، كانت حتى لا تطعمه الا قليلاً . لدرجة انه فكر ان يخرج في الليل لكي يتسول الطعام . إلا انه صبر حتى لا يوصف ابناءه و لم يكن قد ولدهم بأولاد الشحاذ .
بعد سنين الأسر و زواجه من جدتنا حفصه أتى ماشياً مع شقيقاته و والدته و زوجة ابيه كل الطريق الى امدرمان .
لماذا طالب بابكر بدري ابنائه و اسرته بأن يبتعدوا من اولاد الشوارع . ما يؤلمني جداً ان أغلبية آل بدري قد صاروا نخبويين , إلا من رحم ربي . و صار كثيرُ من الاسر الامدرمانية الذين كانوا يسكنون بيوت الجالوص و يأكلون الويكة و الكسرة ، وقد لا يجدونها دائما. و يتحدثون عن المحشي الذي اكلوه في عرس فلان أو فرتكان كحدث . هذه الأسر صار ابنائها ينسون ان اباؤهم و جدودهم كانوا ينامون على حبال العنقريب بدون لحاف . وهذا في امدرمان . و لم يكن هذا بعيداً ، ونذكره. و صاروا يترفعون و يحتقرون ابناء الطبقة الوسطى . ناهيك من الشماسة الذين من المفترض ان يعتبروا مرتبة أعلى قليلاً من الصراصير .
فما يهم البشر الآن حتى في العالم الثالث هو الحدائق الواسعة و النوافير و الملاهي . و ليس هنالك ملاجئ للمشردين أو منازل للعجزة . هذه التغيير بدأ في الأربعينات و الخمسينات . و قديماً كان الفرح هو فرح كل الناس و يشارك الجميع .بدون دعوة , و في الخمسينات صار الناس يأتوا بالبوليس و السواري لمنع ( الآخرين ) . عمي موسى بدري رحمة الله عليه , كان أول طيار سوداني . و كان طيار الملك السنوسي في ليبيا . و عندما اشادت طالبة الطب وقتها عزيزة موسي بدري بوالدها في تشسلوفاكيا عندما حضر لزيارتها, قلت لها بأن والدها قد تصرف تصرفاً مشيناً عندما اشهر مسدسه في حفل و طلب من أولاد الزرقاء مغادرة الحفل .. انت و انت و انت و ... يلا برة . و كنت عادةً أقول لنفسي كيف يسمح حفيد محمد ود بدري الذي طرده الجوع من بلاد الرباطاب بأن يترفع عن الآخرين .
لفترة سكن موسى بدري خلف منزلنا في السردارية , و كان يفصلنا زقاق ضيق . و كان يسكن في ذلك المنزل مع زوجته المصرية . و كان هو و زوجته و أولاده يتحدثون باللهجة المصرية , ولا يختلطون بأي انسان . و كان أولاد العباسية يسألونني مراراً لكي أؤكد لهم بأن هذا عمي . و لم أدخل داره إلا مرة واحدة في حياتي , و هذا عندما احضرت جارتنا الخالة حليمة حسين زوجة العم الطيب جبارة الله عصيدة بملاح شرموط و سمن بلدي , لوالدتي قبل فطور رمضان . كالعادة الامدرمانية القديمة . فطلبت مني والدتي ان آخذ العصيدة لعمي موسى بدري ( لأنه بيكون مشتاق لأكلة سودانية ). وقتها كنا نستأجر منزل القائم مقام مصطفى الكمالي . و نستأجر كذلك منزل عديله و قريبه الاستاذ عز الدين أبو القاسم . و هنالك نفاج مفتوح بين المنزلين . و كان هنالك نفاج مفتوح كذلك على منزل العم محمود جبارة الله والد زميلنا في مدرسة الأحفاد مزمل . و منزل العم محمود جبارة الله مفتوح على منزل شقيقه الطيب جبارة الله . و كان أبنه جعفر اخي وصديقي يرافقني في كل مكان . و كانت ابنته صديقة لصيقة بشقيقتي ابتسام . و كن في المدرسة الثانوية يتناقشن و يتشاجرن في بعض الاوقات كشقيقتين . و كانت المنازل الاربعة مفتوحة على بعضها . و كنا كأسرة واحدة . العم جبارة الله كان أحد الدينكا و كان من قدامى الظباط . و لهذا كنت استغرب لماذا لم يذهب ابي ابداً لمنزل اخيه موسى بدري و هو على بعد خطوات . و كيف صرنا نحن و آل جبارة الله اسرة واحدة . و ربما لهذا اشهر عمي موسى بدري مسدسه في وجه من يختلفون عنه . و الغريب ان موسي كان انصاريا متشددا وتربطه صداقة قوية مع الامام الهادي . كما تربط يوسف بدري علاقة قوية بالامام الصديق لانهم سكنوا سويا في رفاعة ودرسوا في منزل بابكر بدري . موسي سمي علي عمه موسي الذي مات بعد شقاء طويل بعداصابته في غزوة ود النجومي . ودفن بدون كفن في الرمال . وتغير الحال وصار بابكر بدري غنيا في المهدية . وتزوج كالكثيرين من الاغنياء بمصرية . وهي الجدة نفيسة احمد المليجي . وكانت يتيمة بعد ان قتل اشقائها الاربعة ووالدها ورفعوا علي حراب الانصار الذين فتحوا الخرطوم . وكان الانصار يقتلون الشايقية ويتعرفون عليهم بشلوخهم والمصريين بسبب لونهم الفاتح . وكانوا يقولون احمر اضان . او الحمرة الاباها المهدي . ولكن صار اللون الفاتح يعني مقاما عاليا في المجتمع . وكان من لم يضع قدمه في مصر يجبر نفسه علي الكلام باللهجة المصرية ليعطي نفسه صفة المتحضر ، او المثقف . وبدا المجتمع السوداني في الانقسام والتقسم . وبدات الطفرة الاقصائية . انا وانت والآخرون . والآخرون لا يساوون اي شئ . اذكر ان تشكيلية كينية قد قالت لي انه قد ظهرت لعنة قبلية اكبر في افريقيا . فلقد ظهرت قبيلة جديدة اسمها مرسيدس بنز . وهم الاغنياء الذين يزورون نفس النوادي والكنائس والجوامع . ولا يختلطون بافراد قبائلهم القديمة . و أبراهيم بدري لم يكن نخبوياً عاش كدينكاوي و منفتحاً يتقبل الجميع . والدتي رحمة الله عليها عاشت كل حياتها قبل زواجها في جبال النوبة و في تلودي . و الاثنان كانا يعطيانا مساحة كبيرة و حريات واسعة , بل يطالبانا بأحترام الآخرين و حب البسطاء , و عدم اقصاء اي انسا ن . وكانوا يلزموننا بالاكل مع موسي الفلاتي وجون الجنوبي الخدم ومحمد السائق والثلاته يشاركونا السكن وكنت وقتها في العاشرة . وفي احد الايام رفضت احدي الزائرات ان تدعنا نذهب للاكل مع الخدم ، ونحن ابناء المفتش . واظن انني تكاسلت في الذهاب لان موسي كان سريعا ويفتك بالطعام بسرعة . وفي المساء استدعانا والدي وقال لنا ان الانسان الذي يعمل هو الاشرف والاحسن . وان جون وموسي من الشرفاء . واذكر ان الخالة صافي النية كانت تأتي من فريق اربعطاشر في سنجة لعواسة الكسرة في منزلنا . وكان ابراهيم بدري يعاملها باهتمام ويسالها عن حالها وحال اسرتها . وكنت اشاهد الجميع يقفون لتحيته بوصفة المفتش . وكان يقول ,, قد تجبرنا الدنيا علي العمل مثل جون او موسي ,, . ولقد صدق كلامه فلقد عملت في نقل الزبالة وغسل الاطباق ونظافة الشبابيك في اوربا. عندما كنت مطلوبا في السودان في بداية عهد نميري والشيوعيين . ثم انتظمت كعتالي في ميناء مالمو . وبعض مواني اوربا . ولم يكن العمل قاسيا بالنسبة لي . فلقد مارست اعمالا شاقة كالعتالة في المشاريع بطريقة تطوعية . وعندما كنت في الثامنة عشر كنت اساعد الريس ميرغني في معدية توتي . وكنت في بعض الاحيان ادير المعدية لوحدي . وكنت اشارك في جر المعدية المحملة بالناس والدواب الي منطقة البرلمان الحالية بواسطة ,,اللبان ,, وهو حبل طويل . ثم التجديف السريع لكي نصل المشرع عندما يبلط الريح . وكنت اساعد استاذي مبارك بسطاوي في زراعة الجروف في الجزيرة بين الموردة وتوتي . وكنت ارجع عائما في المساء في بعض الاحيان ، عندما تتوقف المعدية في المغرب . لقد تعلمت البناء والنجارة . وشيدت اكشاك مرطبات في امدرمان وكثير من الاثاث البسيط مثل الطاولات وحمير الملابس وبيوت الدجاج والحمام . وعملت مع اصدقائي العجلاتية . وكنت اساعد رفيق الدرب عثمان ناصر في اصلاح السيارت . وكدت افقد احد اصابعي ، ولكن قاموا بخياطته في المستشفي . وكانت لدي عدة نجارة كامله وعدة بناء وعدة عجلاتية . وكنت قد تعلمت ان افتح فرويل العجلة وانا في العاشرة . وعملت كنقاش بعد ان نعلمت من اخي كاريل او محمد فضل تيه . وتركت بصماتي في كثير من منازل امدرمان . وكانت لي معدات كاملة للنقاشة. عندما يقرر زملائنا الذهاب لصيد الطيور بالقلوبية والشبكة او النبل ، او الذهاب خارج امدرمان او لصيد السمك والعوم، لم يسألونني ابدا . وعندما سأل احدهم لماذا لا اسأل ؟ كان الرد ,, ده اهلو قنعانين منو . يمشي اي حتة عاوزها ,, ومنذ ان كنت في السادسة كنا نذهب الي النيل . وكان نساء حي الملازمين يمنعون اطفالهم من الخروج . ويلمن والدتي لتركنا نذهب . ولكن والدتي التي نشأت في جبال النوبة كانت تعرف ان الاطفال في الجبال يرعون الاغنام وهم في السادسة . وكان ابناء الجنوب ينطلقون في الاحراش منذ نعومة اظافرهم . ووالدتي تقول ,, اليمشو حتي كان غرقوا اخيرمن احرمهم المرقة . وكنت احضر بعد مغيب الشمس وانا احمل شبكة السمك وصريمة . وهي خيط قوي باكثر من مئه سنارة بحجر ضخم اعوم بالصريمة واتركها الي الفجر. او آ خذ الطالوش والمحارة والقدة واذهب لبناء او تبليط مطبخ . ولم تكن والدتي تستغرب ، او تعترض . بل كان بعض قريباتها يطلبن منها ارسالي لبناء او تصليح غرض . وكنت امشي مع الصبية الذين يقومون ببعض المهن الهامشية . فنذهب الي كوشة الجبل خارج امدرمان ونجمع السلوك المحروقة ونصنع وقايات المناقد المهتوكة . ونجمع الرصاص في الدروة بعد توقف اطلاق الرصاص . وهذه الاشياء تعطي الصبي شعورا بالثقة بالنفس ودراية بالدنيا . الصبية الذين لم يتركهم اهلهم للخروج من الدار صارو ا حاقدين . فلقد تحرش بهم بقية الصبية وصاروا لا يقدرون علي الخروج الي الشارع . وعندما حصلوا علي مناصب عليا كمعتمد امدرمان الذي لم يعرف شيئا عن الشارع الامدرماني وهم مولود في امدرمان. وكان يعامل الآخرين كاتباع ويتعالي علي الناس . ظباط البلدية قبله ومن تخرج من كليات الادارة كانوا متواضعين يخدمون الناس . منهم محمد صالح عبد اللطيف ،مكاوي سليمان اكرت ومامون الامين .. من اتي اخيرا ، كان يطلق عليهم اولاد البربتوس . والبربتوس هه رداء او شورت بحمالات . لكي يوضح الحالة الاجتماعية الخاصة لحاملة وثراء والديه . وانه نت اولاد المصارين البيض . وكان الفتيات الصغيرات من الاسر الميسورة ،يرتدين بما عرف بالكزاك . وهو الاسكيرت او الجوب . والي الخمسينات وليس بعيدا عن المدن كان الفتيات يلبسن الرحط وهو سيور من الجلد . تغطي وسط الجسم فقط . وترثه الفتاة من اختها الكبيرة . وتكون عالمان عالم البربتوت والكزاك . وعالم السروال والعراقي من الدمور والفستان البسيط او جلابية البنات للآخرين . والآن يبالغ الاثرياء الجدد في اظهار تميزهم ومظاهر نعمتهم . وينعكس هذا في السيارات والملابس والملافح ، نتيجة اللفح . لم يكن هنالك اسركثيرة تغتني سيارة ولها سائق . ولقد اطلق الصحفي رئيس تحرير وصاحب الصراحة عبد الله رجب اسم اللورد علي الوالد ابراهيم بدري . وكانو يقولون اللورد الراكب الفورد . ولكن ارتباطنا باهل والدتنا في بيت المال جعلنا مرتبطين بالحياة السودانية بشدة . وكان والدي ووالدتي يدفعانا للالتصاق بالحياة السودانية . وقاموا بارسالي لوحدي الي ملكال , وارسل الشنقيطي وشقيقي الآخر ايمان الي مدرسة المسلمية للعيش في الداخلية .وارسل بابكر بدري الي كمال بدري في تفتيش العديت . لدراسة المدرسة الاولية . ولبعد المدرسة ذهب الي مدرسة البنات . وعندما رجع كان يحتج لان الاولاد كانوا غايبين ولم يجد سوي البنات . ورفض المواصلة في مدرسة البنات . فارسله كمال الي المدرسة البعيدة وعقد صداقة مع طفل كانت امه ترسله للحواشة لاحضار اللوبيا لفطورهم . وكانوا يريدونا ان لا نكون من اصحاب البربتوت . وانا في الثالثة عشر من عمري تأخر القطار وفاتتنا الباخرة فشودة . وقضيت اربعة ايام علي رصيف الباخرة في كوستي. وكان معي ربيع مكي ومحمد نور بابكر نميري وعلي عيسي . كانت عمتي حرم بدري وزوجها المهندس المشهور عبد الرحيم الطيارويسكنانن في كوستي وكثير من اهلنا . ولم اذهب اليهم . وكنا نقتات بالجبن والطحنية التي حملناها معنا . ورفض احد كبار الموظفين ان اشاركه القمرة , وهو رجل مهم . وكان اسمي مكتوبا علي الباب و احمل تزكرة سارية للدرجة الاولي. ولم اهتم وذهبت الي الدرجة الثالثة . وعندما عرف الموظف انني ابن ماريل او ابراهيم بدري الذي يعتبره الدينكا احدهم . حاول ترضيتي . وقال ان الجنوبيين يعاملونهم معاملة حسنة بسبب سمعة والدي . ولم ارجع الي القمرة والصالون الانيق يالرغم من الحافه. وفتح الله علينا برجل فاضل من سودان التكافل ، كان يطبخ طعاما كثيرا كل يوم يكفي الجميع . كان رجلا كريما يعرف الكثير عن السودان والامثال والحكم والحكاوي . وكنت استمتع بالسمر مع الكبار الي بعد منتصف الليل . وعرفت وقتها انني . لن اكن من النخبة وانني لن اجد نفسي ابدا مع من يحسبون انفسهم خيرا من الآخرين . وعرفت لماذا كان والدي يرسلنا الي اخي كمال في شع الدين والخشيم وسعد الله واسترحنا من تفاتيش الجزيرة في الاجازات لنشرب ماء الترع . وانتهي بي الامر مريضا بالبلهارسيا . عندما فاز زوج خالتي فديت او محمد عبد اله عبد السلام بعطاء ترحيل بالقندرانيات لاكوبو والبيبور والناصر وفشلا قضيت جزءا كبيرا من الاجازة علي راس القندران , وكان يحدث ان نقضي كل اليوم بدون اكل فقط قليل من ماء الزمزمية . وكنت سعيدا جدا بالنوم علي شوالات الاسمنت . وبعد تلك الفترة بايام كنت علي ظهر اللوري في طريقنا الي امدرمان وكان عبد المتعال وزكي المساعد عندما يدعوني للطعام اكون قد شبعت من العيش في الشوالات . الذي كنت افركه قليلا واقوم بقرشه . وكان اتيم وهو من بلدة اتل علي نهر السوباط يصفني بالغنماية . وعندما توقفنا لان خالي اسماعيل كان يريد ان يبعث رسالة وبعض الاشياء بالبنطون للدويم . . وتقدم مني صبي في عمري وهو يرتدي ملابس جميلة وشبط ربل كان يساوي 179 قرشا في باتا . ومن العادة ان يرتدي الصبية جزمة باتا من القماش وتساوي 20 قرشا او جزمة قماش ، جلد سمك وتساوي 35 قرشا . وانا كالعادة كنت حافيا . وتحدث الصبي عن منزلنا في امدرمان واحوال الجميع . واضطررت لان اسأله عن اسمه . وعرفت انه بدر الدين احمد الحاج ووالده ابن خال والدي وكان وشقيقه معتصم يسكنان معنا . لان والدة كان مساعد الحكيم في الهشابة . وتبعهم اثنين من اشقائهم .ولم يكونوا الوحيدين اللذين يسكنون معنا . وتواصل توافد الكثيرين بعدهم بالرغم من ان الله قد فتح علي والدتي بخمسة عشر من الاطفال . وتعلمنا العيش في الحيشان . وكان عدد سكان المنزل دائما يقارب الثلاثين . واحببت والدي لارسالنا خارج العاصمة لنتعلم. عندما كنت امنع الاخ خالد عبد الكريم وشقيقه من المرور بحينا ، وانا في الحادية عشر من عمري و ضاق خالد واتي مستعدا في يوم من الايام وقام بطعني . واخذني جارنا في الهجرة ميرغني الحاج علي دراجته . وخيط الجرح بعد الحصول علي اورنيك 8 . وعندما حضرت الي المنزل قالت لي والدتي وبدون ان تجزع ,, ود الناس الطعنك ده بتكون غلطان عليه انتا ,,.فمن العادة ان يكون الطاعن مغلوبا علي امرة . وكان الناس يحسون انهم اسرة واحدة . وانا في الخامسة عشر كنت ارجع من نادي المريخ ووجهي مليئ بالكدمات وانفي مهشم بسبب تمارين وماتشات الملاكمة وكان اغلب الملاكمين من الجنود الشرسين الذين يريدون ان يحصلوا علي ترقيات عن طريق بطولات الملاكمة . ولم تكن والدتي او والدي يعترضان . وعندما بلغت ا لثامنة عشر اردت ان اذهب مشيا علي الاقدام الي اعالي النيل . ولم تمانع والدتي . وبدأت في تجهيز الاغراض . ولكن توافد علي الناس ولم يتركوني الي ان اقلعت عن الفكرة . وكان اكبر المعارضين فتوة امدرمان ورفيق كبس الجبة قدوم زعلان او احمد عبد الفراج ، وكنت احترمه . وكمال بدري قد قام بهذه الرحلة في الاربعينات . وكنا وقتها في اعالي النيل . وكنت صغيرا لا اذكر حضورة ولكن شاهدت له صورة وهو يحمل اغراضه علي ظهرة ولم يكن كمال ضخم الجسم بل كان نحيلا . بعض النسوة ابدين استغرابا لاختي لانني كتبت عن ترددي علي المقاهي والانادي . ولقد ترددت علي الانادي ولم اتذوق المريسة او الخمر . وكنت اعرف كل المخنجية او بائعي البنقو وادخل بيوتهم ولم ادخن حتي السجاير ولم اشرب حتي الشاي . وعرفت اغلب الفتوات والنشالين ورجال الكسر المنزلي ومترددي السجون . وجالست المجزمين ومن عمل في نقل المخلفات البشرية في الليل . ويتواجدون في المقاهي في النهار في ملابس جميلة. وكان والدي يتعامل معنا بثقة . وكنا نحضر اصدقائنا وهم يكبرونا سنا للسكن والتواجد معنا . وبعضهم اصحاب مهن مختلفة . وكان والدي يقول لي ,, انا يا ولدي عارف انك واخوك ما بتسكروا وما بتشربوا بنقو وانا متأكد . لكن اخوانكم ديل انا ما بعرف اهلهم وهم بيشربو البنقو كل يوم . انا خايفهم ما ينجحوا في دراستهم . وانا باقي لي ايام واموت بعدين يقولو خسرهم بيت ابراهيم بدري . كلموهم يذاكروا .. ومات بعدها بشهور كما اخبره طبيبه في لندن . ولقد طبقت ما تعلمته من والدينا . ولقد انطلق ابنائي وبناتي وتعلموا اختبار الدنيا. مدير فندق الشرتون في مالمو شاهدني في العبارة واتي للجلوس بجانبي . واخبرني بانه وزوجته قد تبنيا طفلا اسودا . وكان يريد ان يعرف ماهي المشاكل التي ستواجه الطفل . فقلت له ان الطفل لن يواجه اي مشاكل اذا اعطاة مساحة للتحرك وتجربة الدنيا . وان المال والمركز لن يساعداه . وان اكثر ما يحتاج اليه هو الثقة بالنفس . لقد ترك البريطانيون بصماتهم في كل العالم . ولقد خاطر حتي ابناء اللوردات والاغنياء وجابوا كل العالم . والآن ابناء العاصمة لا يعرفون اي شئ عن بعض الاحياء ناهيك عن القري خارج الخرطوم . ولهذا تكون عالمان مختلفان . والعالمان يتصادمان ويتحطم الوطن. احد الاريتريين هنا في السويد . قال لي انه كان صاحب دخل في الخرطوم . لان اصدقائه ابناء العمارات لايذهبون الي الديوم او امدرمان لشراء البنقو او الخمور. يخافون من ارتياد تلك المناطق . وكان هو من يقوم باحضارها بالاجر الذي يتوفر عند ابناء المترفين. قديما كان كل الاطفال يذهبون لنفس المدارس . والآن صارت المدارس مختلفة . وحتي الجوامع وهي بيوت اللة لا تجمع كل الناس . ومنذ الثمانينات صارت هنالك جوامع يتهيب البسطاء دخولها.وجامع كافوري صار للمترفين والواصلين . وكان جامع امدرمان العتيق معهدا للتعليم ومسكنا للمساكين. قبل ان ينتقل التعليم الي المعهد العلمي ثم جامعة امدرمان الاسلامية . اخبرني احد الشيوعيين في براغ ان شقيقي الشنقيطي قد كتب في طلبه للانضمام الحزب الشيوعي السوداني ، انه يريد ان يري العدالة الاجتماعية مطبقة في السودان . لانه كان يلاحظ الفرق الشاسع بين منزلنا ومستوي معيشتنا ، ومنازل اصدقائنا . ونحن اطفتا صغار . وكان يتألم . ف سنة 1988 طلبت من شقيقي الشنقيطي ان يترك العمل في الامانة العامة للاستثمار في وزارة المالية . وان يتفرغ لشركتنا . لان المديرين الذين ياتي بهم يتقاضون اضعاف مرتبه. ويسرقون اموال الشركة . رفض قائلا انهم سيأتون باحد اللصوص، وسيجعل حياة المستثمرين جحيما . وانه هنالك لقطع الطريق علي اللصوص . وكان اول من طردته الانقاذ . بالرغم من انه كان مسئولا عن الانضباط في وزارة المالية . وحتي اصدقائه الذين ياتون بعد الثامنة يجبرون علي كتابة استيضاح . ويقدمون للعقاب . عندما انتقلت الامانة الي غرب الهيلتون ، اتي احد كبار الموظفين وترجي الشنقيطي قائلا .... كلم صاحبك لمن يمشي الدكان يجيب لي معاه سجاير . وكان الشنقيطي قد منع الموظفين من ارسال المراسلة الجنوبي خارج المكتب وان يخاطبوه باحترام . وكان الدكان بعيدا . وكان الجنوبي جاك الفراش والشنقيطي من الاصدقاء . قبل عيد الاضحي في 1988انتظرنا الشنقيطي امام الامانة . وتأخر كثيرا . وعندما حضر اخيرا هرع خلفه بعض زملائه . وكانوا يقولون .... تعال .. الجماعة وافقوا . انحنا قلنا ليهم الشنقيطي حيشتكيكم .. ورجعوا جميعا الي الداخل . وفي الطريق سألت عن المشكلة . وعرفت ان روساء الاقسام السبعة قد اتوا ب19 الف جنيه من الخزينة . وكانوا علي وشك تقاسمها ، وهو معهم . الا انه قال لهم . ان اخراج الفلوس بتلك الطريقة نقدا يخالف اللوائح . وانه لا يريد مليما . ولكن في امكانهم ان يأخذوا الف جنيه لكل رئيس قسم . وان توزع بقية الفلوس علي العاملين .لان الفلوس هي كتعويض للعمل الاضافي الذي كان من المفروض ان يؤدوه في وقت الدوام . ولكنهم يجرجرون ارجلهم لكي يحسب لهم عمل اضافي . وهم عندما يؤدون العمل الاضافي يكون معهم الفراشين والبواب والكتبة .... الخ ويمكن ان تقسم ال12 الف علي البقية . واذا كانوا يتحججون بالاضحية . فالبقية كذالك ملزمة بالاضحية . واذا لم يوافقوا ، فسيصعد الامر . وسيحاسبون وسيحاسب الذي دفع الفلوس بطريقة غير قانونية . انا لا اريد ان اشهرباي انسان ولا اريد ان اصنع بطولات . ولكن يجب ان نواجه انفسنا بشجاعة . لكي يكون هنالك سودان غير مريض . وان تتوفر العدالة الاجتماعية . وان يتوقف الناس من احتقار بعضها . ولا يكن عمل العجة بدون ان نكسر البيض . كركاسة لقد كتبت عند الحكم علي ملازم الشرطة بالاعدام لقتل الشهيدة عوضية عجبنا ، ان المدان حامد علي حامد لن يشنق . لان المجتمع في الخرطوم قد انقسم الي ناس الديم وناس نمرة اتنين . وفي ناس ، وفي كناس . وليمت كل من لا يؤمن بالعدالة الاجتماعيبة بغيظة . و العدالة الاجتماعية من اسباب بعث سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم .
الشنقيطي بدري يقف . واجلس انا امامه ، وشقيقتان ابناء طبقة الكومبرادور
الطيار حفيد التربال موسي بدري
مكتبة شوقى بدرى(shawgi badri)
|
|
|
|
|
|