لو أعتبر علماء السياسة وهواة علمها خبرة الحزب الشيوعي مع الانقلاب فكراً وممارسة لاهتدوا إلى تحليل أفضل مما هم فيه الآن. ولكن عقيدة كتابنا من مفصحي البرجوازية الصغيرة أن الحزب الشيوعي حالة ل"رمي الجمار" الفكرية لا حالة سياسية مستحقة للدرس. تتكلم مع الواحد يقول ليك: "اسكت انتو ماركسيتكم ما شاله الدودو في موسكو". وتسكت وتسقط. فلو اعتبروا تجربة الحزب في صراع التكتيك الرسمي الجماهيري للحزب مع التكتيك الانقلابي (الذي غلب في معظم الأحوال في أدائه) لتخلصوا من النفايات الفكرية الآتية: 1-إن الانقلاب هي عقوبة "السماء" لنا لابتذالنا الديمقراطية. وقد رأينا في الحلقات الماضية أن للانقلاب ديناميكية طبقية لجماعة الانقلاب هو سبيلها الوحيد للحكم. فالبرجوازية الصغيرة الحداثية في عداء مع الديمقراطية من جهة المبدأ الرئيس فيها وهو حق الاقتراع العام. وهو حق، متى جرت ممارسته، جاء بالطبقة التقليدية وأحزابها وترك بلالبيط البرجوازية الصغيرة برة. 2-إن الانقلاب مما توحي به الأحزاب للجيش. وفي هذا افتراض غير ذكي بأن الجيش خلو من السياسة ومنصرف عن مساسها الكبير بمعاش أهله وحربهم وسلاحهم. فقد كانت أول خصومة بين الجيش والحكومة الوطنية هو عدم ترقية الفريق أحمد محمد في 1955 أو نحوها إلى فريق فاستقال وتناقلت الصحف خبر استقالته. وأقرأ أيضاً الفصول الأولى من كتاب الرائد زين العابدين في ذكرياته لتقف على كثافة السياسة في بؤرة ضباط مايو لاحقاً. وأعرض هنا لتجربة الحزب الشيوعي مع التكتيك الانقلابي للبرجوازية الصغيرة وسطه مع التكتيك المقرر وهو العمل الجماهيري الصبور الدؤوب نحو التغيير.
الحزب الشيوعي: طريقان شتى للاشتراكية أخصص هذه الجزء من المقال لخبرة الحزب الشيوعي في الديمقراطية الليبرالية يخوض في هذه الحرب العوان بين الأغلبيات التقليدية والصفوات. وأردت بهذا العرض الكشف عن التجربة المتفردة لحزب ماركسي أخذ بالممارسة للطريق البرلماني للاشتراكية صعوداً وهبوطاً. ولن تجد إلا بصعوبة هذا الحزب على رادر الجذرية الأفريقية إلا أن دعواه للطريق البرلماني مما لفت الأنظار أحياناً. فوصف بن تورك، الأكاديمي من جنوب أفريقيا، ممارسة الحزب السوداني ليعقد في حلال النظرية بين الاشتراكية والديمقراطية بأنها غاية في الشذوذ عن المعتاد لما تميز الحزب به من نهج عملي براقماتي اتسم بالمبدئية. وقال إن مثل هذه الفراسة هي مما لم يطرأ لكثيرين في أفريقيا (1987: 153). لم يطعن الحزب الشيوعي أبداً في مبدأ الاقتراع العام كحجر الزاوية في الديمقراطية الليبرالية مع أنه نشط طويلاً في حيل اقتطاع مقاعد برلمانية خاصة للقوى الحديثة على حساب أحزاب الأغلبية التقليدية. فكان يناوش ليعطي تلك القوى في المدينة ثقلاً في البرلمان بدعوة جماهيرية مأمول أن تحمل القوى التقليدية نفسها لتقتنع بضرورة ذلك لبناء ديمقراطية مستدامة. وثمة فكاهة تروى عن قبول الحزب الشيوعي بحكم الأحزاب التقليدية كأمر واقع. فيقال إن عبد الخالق محجوب، السكرتير الأخاذ للحزب الشيوعي من 1949 إلى 1971، ركب سيارة لأحد أقطاب الأحزاب التقليدية الذي كان في عجلة القيادة. فسئل من هاذر كيف اتفق له أن يركب عربة يقودها ذلك "الرجعي". فقيل إنه قال: "لم نطعن مطلقاً في حقهم في القيادة ولكننا لن نترك لهم احتكار خارطة الطريق". فهذا قبول بحقيقة ديمغرافيا الأحزاب التقليدية التي تؤمن لهم الفوز الكبير في الانتخابات مع الاحتفاظ بحقهم في تحديد خارطة طريق المستقبل عن طريق برلمانية ضاغطة. لقد اختار الحزب الطريق البرلماني للاشتراكية منذ مؤتمره الثالث في 1956. وشدد في هذا الخيار على نفع الديمقراطية البرجوازية في إحداث تحولات ثورية في المجتمع. فالجماهير الكادحة تستقوى في فضاء حقوقها للتنظيم والتعبير آمنة من مغامرات حرق المراحل البرجوازية الصغيرة. ولم يتطرق الشك (التشوش، نعم) لعقيدته في الديمقراطية الليبرالية حتى حين وقع في 1965 ضحية لبرلمان منتخب متوحش أمر بحله وطرد نوابه في خرق صريح للدستور. بل عدّل البرلمان الدستور للغاية. وساور الحزب من فرط جرحه السياسي الأليم تشوش من الليبرالية عبر عنه في مؤتمره الرابع (1967) بقوله إن الديمقراطية الليبرالية ربما لم تكن طريقاً صالحاً للاشتراكية. ولكن كانت تلك ومضات عابرة من الخيبة سرعان ما عاد سيرته الأولى إلى عقيدته في الديمقراطية الليبرالية في دورة من دورات لجنته المركزية في 1968 . جرى اختبار عقيدة الحزب الليبرالية عبر انقلابين تقدميين في 1969 و1971. وزبدة الأمر أن الحزب بعد الحالين تمسك بموقفه من أن التغيير لن يقع إلا بالعمل الجماهيري وبين الجماهير كلما اتصل به الانقلابيون يريدون منه تأييدهم في مراحل تحضيراتهم للقيام بالانقلاب. ونمّى الحزب حساً دقيقاً ومسؤولا بالديمقراطية الليبرالية من خلال الجدل الواسع الذي دار في وسطه، وبين القطاعات المتقدمة من الجماهير حول صلاحية الانقلاب كأداة للتغيير (مطر 1971). ودفع الحزب ثمن التزامه بهذه الديمقراطية بانقسام داو عام 1970 غادره فيها نخبة من قياديه والعضوية ممن اختاروا الوقوف مع انقلاب مايو 1969 بغير تحفظ. كما سقط رموزه لعقدين من الزمان ضحايا المحاكمات التي أعقبت فشل الانقلاب المنسوب له في 1971. وشعت عقيدته بالديمقراطية الليبرالية في أول بيان أصدره في ليلة 25 مايو 1969 يقيم الانقلاب الذي وقع في ذلك اليوم: وللمرء أن يعتبر ثلاث خصال في الحزب ليقف على عقيدته المبتكرة في الديمقراطية البرلمانية. أولهما: أنه الحزب الذي دارت فيه أحمي المعارك حول سداد التكتيك الانقلابي طريقاً للتغيير السياسي والاجتماعي الحداثي التقدمي. وقل أن تجادلت جماعة سياسية مثله جدلاً مؤسسياً موثقاً حول الانقلاب استثار وعي عضويتها وفئات متقدمة من الجماهير نظرياً، وخلال الممارسة، في تعاطيها المباشر مع انقلاب مايو 1969. وهو الجدل والممارسة اللذان انتهيا إلى انقسام الحزب الشيوعي في 1971، وانقلاب 1971 الذي نسبوه للشيوعيين، وذيوله الكارثية التي ذهبت بزبدة جيل الخمسينات اليساري. وثانيهما: خبرته النقابية الطويلة دلته على أن الأحزاب التقليدية ليست عصية على الهزيمة متى ما أحسن الثوري ايقاظ جمهورها إلى مصالحها الحقيقة. فرأى عن تجربة أن جماهير هذه الأحزاب قد انتخبت الشيوعيين على طول النقابات وعرضها لما لمستهم همتهم في هذه الناحية. ولكنها متى جاءت الانتخابات البرلمانية تمسكت ما تزال بمرشح حزبها التقليدي. ليس بعد. وقيّم الحزب هذه الواقعة السياسة كبشير لما سيأتي من الأيام. فاتفق له أن بين انتقال جمهور تلك الأحزاب من التصويت لحزبهم في النقابة إلى انتقالهم للتصويت لغيره في البرلمان مسافة ليست بعيدة متى ما أحسن الشيوعيون عملهم. وهنا مصدر تصالح الحزب الشيوعي مع الديمقراطية البرلمانية. فهو لا يريدها أن تذهب أدراج الرياح لأنه بيت النية على استصحابها هي ذاتها لتجريد الأحزاب التقليدية انتخابياً من غزارتها العددية.
وثالثهما: مع صغر حجم الحزب الشيوعي إلا أنه لم ينتابه أبداً الحس بأنه طرفي أو مما لا يؤبه به في السياسة السودانية. فلم تجر انتخابات لم يأت فيها إلى البرلمان بدائرة او دوائر جغرافية، أو مما جرى تخصيصه لقطاع المثقفين. فحصل الحزب في انتخابات 1965 على 20516 صوتاً من جملة 82876 صوتاً في مديرية الخرطوم. وتسابق محجوب، سكرتير الحزب، مع الزعيم الأزهري، محقق الاستقلال، عنقاً بعنق في منافسة الدائرة الجنوبية بأمدرمان من اعمال مديرية الخرطوم وفاز الزعيم عليه بالنذر. وصار اسم الدائرة "موسكو" من يومها. وتأخر نصر الحزب بها إلى انتخابات 1968 فاز بها محجوب ضد مرشح الزعيم. لقد علم الحزب من الممارسة أن الديمقراطية الليبرالية ليست فكرة رديئة من قبل ومن بعد. من حق الظان السوء (أو بالخير حتى) بالشيوعية أن يعد احتضان الشيوعيين السودانيين للديمقراطية الليبرالية من واقع تصريحاتهم البرنامجية قلدة دب. ولكن ذوقهم لهذه الديمقراطية لا يتجلى في الممارسة الانتخابية في قواعد منظمات المجتمع المدني النقابي والمهني فحسب، بل في البصيرة من وراء هذه الممارسة. فتجد في أدبهم لتربية العضوية في مدارج هذه الديمقراطية شيئاً قريباً من هضم النفس الصوفي دون الشره السياسي. ففي أدب القيادة للقاعدة شكماً للنفس الحداثية في غالب عضويته لضبط إيقاعها ضبطاً دقيقاً لتستصحب القطاع التقليدي، مغزر الأحزاب التقليدية، بأناة وشفقة ووعي في طريق البرلمانية. فتريد هذه التربية لأهل هذا القطاع أن يسلك هذا الطريق بسرعته الخاصة، ومن فوق منابره الخاصة، وفي توقيته الخاص لا يزفه الشيوعيون زفاً بفروض حداثية لا مكان لها من الإعراب. فقال عبد الخالق محجوب في "قضايا ما بعد المؤتمر الرابع (1967)”، تقرير لدروة اللجنة المركزية الاستثنائية المنعقدة في يونيو 1968، إن الماركسية، التي اقتصرت في ما سبق على القطاع الحديث بشكل رئيس، تواجه امتحاناً صعباً في بناء جسرها إلى القطاع التقليدي التاريخي. وستكون الماركسية نداءً في صحراء متى ما انعزلت عن المؤسسات والخطط التي يتبعها ذلك القطاع ما وسعه للتحرر من القوي الوصائية الأبوية والتقليدية، أي طوائف أحزاب فنبه عبد الخالق بقوة إلى إن جماهير هذا القطاع تستيقظ على الحياة الاجتماعية بطريقة غير طريقتنا. هذا أمر واقعي لا يمكن ان نبتعد عنه بتصورات ذاتية، بل علينا ان نعتبر هذا الطريق وان نقر أنه للآن ليس طريقنا، ولكن علينا ان نعمل حتى تصبح طريقنا طريقهم، أي حتى يصبح استيقاظ الجماهير على الحياة الاجتماعية في القطاع التقليدي جزءاً من الحركة الديمقراطية في البلاد. وشرط النجاح في هذا السبيل هو أن تستوفي هذه الحركة شروطها، وأن تستنزف جميع الصور التي ما زالت تراها معبرة عنها. فهي على يومنا مثلاً ترى في تقديم أحد أبنائها مرشحاً للبرلمان بدلاً عن مرشح مركز الحزب، غض النظر عن اتجاهه السياسي، سبيلها لإسماع الدولة صوتها. ولأن هذا منتهى التغيير عنده ليومنا وجب على الشيوعيين أن يتفهموا نازعها البرلماني، بغض النظر عن رأيهم في قصوره، بجدية. فهذا خروج بدرجة ما على المؤسسة الوصائية. ففي ذمتهم ألا ينعزلوا منه، ويتدرجوا به لا قفزاً فوق وعي اهله بل في أناة وصبر لا يكفون عن التوضيح لجماهير هذا القطاع "بان طريقها للنمو وللخروج من مشاكلها يعتمد على اشتراكها مع الحركة الديمقراطية في نضال عام من أجل برنامج للتنمية وللتطور في البلاد وفق الاتجاهات غير الرأسمالية". ويضيف أن تحدي عقيدتنا بأن تجديد الريف لن يتم إلا بخطة النمو غير الرأسمالي يكمن في اقناع جماهيره بها. وعاد عبد الخالق إلى مزيد من الشرح للتأدب بإزاء تدرج وعي جماهير الريف والهامش برلمانياً. فهذه "الجماهير تقتنع اليوم بشيء واحد وهو أنها، تعبيرا عن رغبتها في التغيير، تحاول ان تنتخب او تضع الثقة في أحد أبنائها. وهذا به جانب إيجابي: يعني أن الاحزاب التقليدية تعاني مرحلة تحلل، وأن هذه الجماهير فقدت الثقة في هذا التنظيم، ولكنها لم تصل بعد إلى الوعي بأن القضية ليست اختيار أحد أبنائها، بل القضية هي الاتجاه السياسي لذلك الابن، ونظرته لمشكلة التنمية في البلاد، هي قضية الحلف الذي يقيمه مع من؟ مع القوى الديمقراطية، أم مع الاحزاب التقليدية واليمينية في هذه البلاد؟ ولن تتعلم الجماهير وتصل الى هذا المستوى الا بتجربتها، وإلا إذا كنا معها داخل مؤسستها المتمردة على الاحزاب التقليدية، ولم نقف بعيدا متطهرين، نرفع الشعارات المتطهرة والتي لا يمكن إلا أن تكون نداءً وسط الصحراء. وتوقف التقرير عند المصاعب التي سيجدها الشيوعيين ف هضم النفس الحداثية ليبلغ ما تمناه الحزب دائماً وهو ما سماه "التطبيق الخلاق للماركسية على الواقع السوداني". وهي المصاعب المتأتية من عادة حزب استمر فترة طويلة يعمل وسط جماهير القطاع الحديث ويدعو للفكر الماركسي ولأفكار الصراع الطبقي مباشرة بينما تتخذ ترتبط مسائل هذا القطاع بالتكوينات غير الرأسمالية. وإيلاء هذا الفهم المستقل لتجديد الريف بالماركسية قضية جديرة باهتمام الحزب العميق "لأنه على مدى حلها نستطيع القول بأننا استطعنا أن نضع الماركسية في خدمة الاغلبية الساحقة لشعبنا، واستطعنا أن نطبق الماركسية تطبيقا خلاقا: فالقضية المهمة هي جذب الجماهير للنشاط السياسي (التشديد في الأصل). والقضية كيف يتم هذا؟ هل يتم هذا بمجرد الدعوة العامة أم يتم باكتشاف الطرق والوسائل العلمية لهذا؟ وهذه هي قضية لامتحان الماركسية، لا في النضال وسط الجماهير الحديثة، ولكن وسط التكوينات السابقة للرأسمالية".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة