|
الانتفاضة الثورة اندلعت....! الفاضل عباس محمد علي
|
الانتفاضة الثورة اندلعت....! الفاضل عباس محمد علي
وجاهل مده فى جهله ضحكي حتي أتته يدٌ فرّاسةٌ وفم إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم
التاريخ لا يكتبه السلبيون والأذناب والمنكسرون والمتعهّرات وأنصاف الرجال الذين يقبلون الأوضاع المحيطة بهم علي عواهنها...ولا يحرّكون ساكناً إزاءها...ولا يسعون فى مناكب الأرض إلا ابتغاء متعهم الحسية وغاياتهم الأنانية النرجسية...كالحيوانات التى لا هم لها سوي الأكل والتكاثر...بغض النظر عما يسببه ذلك من خراب للمجتمع وللبيئة المحيطة...أو ما ينطوي عليه من أنانية مفرطة وظلم فادح فى توزيع الثروة........هؤلاء السلبيون الذين يعيشون كالطفيليات علي هوامش التاريخ هم الوقود الجاهز لنيران الفتنة...التي تضعهم فى خندق واحد مع أمثالهم من السلبيين والأنانيين وعديمي الأخلاق والشهامة وضامري الوطنية...ضد باقي الشعب...وهم العضد المضمون أبداً للأباطرة والمستبدين الذين يفرزهم التاريخ بين الفينة والأخري ويجلسهم علي دست الحكم...ليبطشوا بشعوبهم ويمتصوا رحيقها... لمصلحة الزمرة السلبية الأنانية الحليفة. ولكن التاريخ يكتبه المتمردون والمتقحّمون والفرسان...الذين يغشون الوغي ويعفّوّن عند المغنم...منذ عنترة بن شداد...حتي شباب الانتفاضة الحالية فى حواري أمدرمان وغيرها من المدن السودانية......وهم علي مر التاريخ السوداني ينطلقون من نقطة الصفر...: ثلة بسيطة...وفئة قليلة...أمام سلطان الدولة القمعية ذات العدة والعتاد...ثم يتدحرجون مثل كرة الثلج التي سرعان ما تصبح جبلاً من الجليدٍ لا يبقي و لا يذر...فيستقطبون الاخرين...ويستحيلون إلي جيش عرمرم من الكادحين الأشاوس...لا يرضون بديلاً غير النصر التام.......وهذا ما تم لهم بنهاية الأمر فى مرات عديدة...غض النظر عن الانتكاسات التى تعرضت لها تلك الحركات بعد بلوغ المرام...وهو التحرر او تغيير النظام...وغض النظر عن ظاهرة سرقة الثورات. وأول تلك الملاحم التى سطرت سيرتها بمداد من نور علي صفحات التاريخ ...كانت الثورة المهدية فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر...وتحديداً منذ عام 1881 بالجزيرة أبا قرب الدويم علي النيل الأبيض...حتى انتصارها فى يناير 1885 بدخول الخرطوم عاصمة الحكم الإستعماري التركي المصري المتحالف مع بريطانيا...ومقتل الجنرال شارلس غردون الحاكم العام، ووضع نهاية لتلك الحقبة الكالحة من تاريخ السودان ...منذ دخول جيش محمد علي باشا الغازي عام 1822...حيث تحولت بلادنا طوال ستين عاماً إلي مستعمرة تركية عثمانية، تم استحلاب خراجها لمصلحة المستعمر...واستباحة شعوبها الإفريقية بالجنوب والتخوم كمصدر لتجارة الرقيق الرائجة فى ذلك الزمن...والتى مارسها السماسرة والمغامرون السودانيون والأتراك والأوروبيون لمصلحة الغرب... خاصة أمريكا المتعطشة للأيدي العاملة فى حقول القطن بالولايات الجنوبية...ولمصلحة العديد من بلدان الشرق الأوسط. وعندما بدأ الثائر محمد أحمد المهدي نضاله بالجزيرة أبا...رفع شعارات دينية ما كان يهدف من ورائها لإقامة دولة ثيوقراطية قمعية كتلك التى أسسها الخليفة عبد الله بعد موت المهدي المبكر...(أو كتلك التى افتعلها الإخوان المسلمون بعد ذلك بمائة عام فى السودان)...ولكنه أراد أن يشحذ همم الثوار السودانيين بمناقب المناضلين المسلمين الأوائل...آل ياسر وصهيب الرومي وبلال الحبشي والصحابة المؤسسين...الذين التفوا حول المصطفي عليه الصلاة والسلام...وما فتّ في عضدهم أنهم فئة قليلة...فهاجروا للمدينة...ثم عادوا لمكة فاتحين وداحرين لجيوش التجار والطبقة القرشية المهيمنة.......وبنفس الطريقة هاجر المهدي لقدير بجبال النوبة، جنوب كردفان، ومن هناك بدأ مسيرة الألف ميل (التى قلدها ماوتسي تونج فيما بعد)، مروراً ببارا ثم الأبيض ثم شيكان...التى قضي فيها علي جيش الجنرال وليام هكس باشا بأكمله عن طريق حرب عصابات نموذجية، محققاً سبقاً لا مثيل له فى تاريخ البشرية....وانتهي المطاف بالثوار المهدويين بدخول الخرطوم ظافرين، رافعين بيارق ثاني دولة إفريقية مستقلة... (بعد ليبريا التى اقتطعها الرئيس الأمريكي جيمس مونرو -1817/1825- فى غرب إفريقيا لتكون دولة للعبيد الأمريكان المحررين الذين أعادهم لقارتهم الأم). ولكن الدول الإستعمارية الغربية كانت تهيمن علي كل العالم فى ذلك القرن...وما كانت لتسمح بظاهرة كالثورة المهدية...أو بدولة إفريقية مستقلة، بعد أن تقاسمت القارة بأكملها فى مؤتمر فينا 1815 ثم مؤتمر برلين 1885... وفي عام 1882، والثورة المهدية فى عنفوانها بكردفان وفى طريقها للنصر المحتوم، دخلت القوات البريطانية مصر واحتلتها (حتي عام 1954)...ومن هناك بدأت ترتيباتها لإعادة احتلال السودان...وبالفعل تم ذلك فى عام 1898 بقيادة الجنرال هربرت كتشنر الذى جاء ليستعمر السودان بطريقة أكثر صرامة وديمومة وكفاءة عسكرية...ولتأديب السودانيين علي مقتل شارلس غردون الضابط العريق بالمخابرات البريطانية...ولكن الشعب السوداني لم يستكن تماماً للحكم الأجنبي الغاصب، واستمرت مقاومته طوال نصف قرن كامل من الزمان...ومن تجليات المقاومة الدؤوبة: حركة ود حبوبة بالجزيرة عام 1908... وثورات الدينكا والزاندي والنوير بالجنوب حتي 1916...وأول إضراب لعمال مناشير الغابات 1908...وثورة 1924...وإنشاء الأندية العمالية بالعاصمة المثلثة 1934... ثم نهوض الحركة الوطنية الحديثة...منذ مؤتمر الخريجين 1938، مروراً بمذكرته الشهيرة للحاكم العام 1942 التى طالب فيها بحق تقرير المصير بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية...وقيام الحركة النقابية، بدءاً بهيئة شؤون العمال 1947 ثم نقابة السكة حديد، فاتحاد عام نقابات عمال السودان 1949/50...وقيام الإتحادات الطلابية واتحادات المزارعين فى نفس تلك الفترة.... وانتهاءاً بتأسيس الأحزاب عام 1945...الأمة والجبهة المعادية للاستعمار (الشيوعيون) وبعدهما الأشقاء ثم الحزب الوطني الإتحادي......ولقد تصاعد النضال ضد المستعمر الأجنبي إلي أن غادر البلاد عام 1955، ليتم رفع علم الدولة السودانية الجديدة فى أول يناير 1956. ولم يتوقف نضال السودانيين ببلوغ الإستقلال؛... فقد وجدوا أنفسهم فى حالة مقاومة مستمرة للأنظمة العسكرية الاستبدادية التي قفزت للسلطة ثلاث مرات: 1958....ثم 1969...وأخيراً النظام الإخواني الذى اختطف السلطة بانقلاب عسكري فى 30 يونيو 1989، و لا زال جاثماً علي صدر الشعب. ولقد أدخل النظام الراهن بلاده فى دوامة من الفتن والإحن والفقر المستوطن والتخلف الإقتصادي والاجتماعي وعدم الاستقرار والحروب الإثنية والقبلية والمناطقية، كان من نتيجتها انفصال ثلث البلاد الممثل فى الجنوب قبل عامين...وستكون من نتيجتها انفصال أجزاء أخري من الوطن، كجبال النوبة بجنوب كردفان وجبال الإنقسنا بجنوب النيل الأزرق...إذا استمر هذا النظام فى السلطة.......وفي الحقيقة، ظل الشعب يقاوم هذا النظام الباطش طوال ربع القرن المنصرم...ولكن مكر سدنته وجبروتهم الذى لا يعرف الرحمة...ودعم بعض الدول النفطية الغنية له...مثل قطر...واستناده علي التنظيم العالمي للإخوان المسلمين...جعله مثل دولة إسرائيل التى ظلت تستعمر الأراضي الفلسطينية منذ عام 1949، وهي لا تساوي نقطة فى محيط الدول العربية الملتفة حولها،... وتعداد سكانها اليهود لا يبلغ ثلث المواطنين الفلسطينيين...كما أنها مخالفة لجميع قرارات مجلس الأمن، بفضل الفيتو الأمريكي منذ قيامها،... وناقضة لجميع قرارات الأسرة الدولية ممثلة فى الجمعية العمومية للأمم المتحدة...ومخالفة لمنطق الأشياء......ولكنها باقية، رغم ذلك، وإرادتها هي النافذة بالشرق الأوسط، ولا تساوي مجمل الدول العربية شروي نقير إزاءها.........وبنفس المنطق، فرض النظام الإخواني وجوده فى السودان، واستمر لربع قرن كامل يبطش بأهل السودان المساكين ويمزق بلادهم كما يحلو له ولزبانيته في المافيا الدولية المسماة بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين. ولكن، مهما طال الزمن...ومهما استطال الظلم...فهناك شعب السودان الذى يستند علي إرث عميق من نضال وطني تكلل عدة مرات بنصر ساحق علي قوي البطش والعدوان...و لا بد أن الشعب سيستدعي تلك الروح المتوثبة والمتقحّمة فى اللحظات الحاسمة التى بدت فى الأفق هذه الأيام....ولقد انطلقت الثورة بلا أدني شك، ...وما هي إلا بضع أيام حتي يذهب نظام البشير إلي مقبرة التاريخ....فلحسن الحظ، تمر الحركة الإخوانية علي نطاق العالم بمحنة وجودية تبشر بنهايتها الأبدية...ولحسن الحظ، فنحن قريبون جداً من مصر...إذا أصابها شر ينالنا طرف منه...وإذا هبت عليها رياح الحرية، فهي تتناهي إلينا عاجلاً وليس آجلاً....فلقد احتلها الجيش البريطاني فى النصف الأول من القرن التاسع عشر...وسرعان ما امتد ذلك الغزو ليشمل بلادنا مع نهاية القرن....وبعد ثورة يوليو 1952 تحرر السودان ومصر فى وقت واحد من النفوذ الإستعماري البريطاني...والأحزاب التي قامت فى السودان كانت دائماً امتداداً لرصيفاتها المصرية...خاصة حركة حستو (الشيوعية) المتفرعة من حدتو المصرية...وجماعة الإخوان المسلمين التى كانت و لا زالت مربوطة بالحبل السُرّي مع تنظيم الأخوان المسلمين المصري...وعبره بما يسمي بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.......وبموت الجماعة المصرية الذي أعلنته "محكمة القاهرة للأمور المستعجلة" الأسبوع الماضي...سيختفي الظل الموجود بالسودان بإسم "المؤتمر الوطني"....تماماً كما اختفت الشيوعية من شرق أوروبا بين عشية وضحاها بنهاية القرن العشرين...فتبارك الذي بيده الملك... وهو علي كل شيء قدير! ومن حسن الطالع كذلك، أن العالم أخذ يهتم بما يجري فى بلاد السودان...انظر للقنوات الفضائية: سكاي نيوز... والبي بي سي... والحرية... والسي إن إن... والعربية... (ودع عنك الجزيرة المضروبة)...وانظر للوبيات المؤيدة لشعب السودان وسط المثقفين والفنانين الغربيين... (ودع عنك العرب المشغولين بسوريا وما أدراك ما سوريا)!...ومن حسن الحظ كذلك، أن معظم القادة المعارضين لنظام البشير موجودون فى حرز أمين بالخارج...فليس هنالك قادة بالداخل يستطيع النظام أن يدخلهم السجون ويحسب أنه قد وضع حداً للحراك الراهن...والكوادر الحزبية التى اعتقلتها شراذم الأمن بالمئات الأسبوع الماضي يعبرون عن هواجس النظام وميقالومانيته...أكثر مما يعكسونه من أثر علي الشارع....والملايين التي خرجت بكل مدن السودان ودساكره وقراه....لم تسمع بتلك الاعتقالات بعد...و لا تفرق معها كثيراً... فهي انتفاضة شارعية عفوية لحمتها وسدايتها الطلاب والشباب وربات المنازل وآباء الأسر المطحونون بالغلاء والصعوبات الإقتصادية اليومية...ولن يستكينوا حتى تزول تلك الظروف القاهرة....ولن تزول تلك الظروف إلا بزوال النظام...فالسياسات الإقتصادية الرعناء التى فجرت الإنتفاضة الراهنة...هي فلسفة دائمة لهذه الطغمة طوال ربع القرن المنصرم:... فحواها استحلاب الكادحين من أجل إثراء المقربين ..ومن أجل الصرف علي ماكينة الحروب المستمرة بلا توقف لعقدين ونصف...وعلي الأجهزة الأمنية الحارسة للنظام...علي حساب التقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي...(فكما قال الإمام الخميني لم تقم الثورة الإسلامية لتحديد سعر البطيخ)، والإسلاميون ظلوا يبيعون لنا الشعارات الجوفاء..ليسرقوا بلادنا في الخفاء. فلا يجدي فتيلاً ما تتحزّم وتتلزّم به السلطة من جبروت ونبوت وقهر وضرب بالرصاص الحي...فبقدر ما تسيل الدماء فى الشوارع...بقدر ما تتسع دائرة العداء ضد النظام...وتتجذر الرغبة فى الانتقام من المسؤولين عن ذلك العنف المنفلت الذى راح ضحيته بضع مئات فى ثلاثة أيام فقط...وما هي إلا أيام معدودات حتي يظهر سيسي سوداني ينحاز لجانب الشعب...فالذين يصرعهم رصاص الحكومة هم أبناء خؤولة وعمومة هؤلاء الجند الممتثلين حتي الآن لأوامر حكومة البشير. ولكي يكتب لهذه الإنتفاضة الاستمرارية هذه المرة... وعدم الإنكسار...، لا بد من وحدة الهدف وتماسك الصف...والتخطيط والتكتيكات المرنة...وهذا فيما يبدو ما اهتدت له الجماهير بصورة تلقائية وعشوائية...ومن أهم ألوان المرونة التحرك ليلاً وفي عدة أماكن فى نفس الوقت...ولكن أهم من ذلك فى هذه اللحظات، كما فعلت الثورة المصرية، هو الإقتراب من القوات النظامية الموجودة بالشوارع وإدارة حوارات صبورة معها...ومحاولة اكتسابها لصفوف الشعب...وإيجاد لغة مشتركة معها....واليقظة التامة ضد الطابور الخامس والذين يريدون أن يقفزوا من السفينة الغارقة...فقد يتحولون إلي غواصات فى أي لحظة! وكذلك، لا بد من وضوح الرؤية بالنسبة للبديل...وليس هنالك أبدع مما توصلت إليه الأحزاب المعارضة والحركات الحاملة للسلاح فى كمبالا قبل بضعة شهور...ذلك السيناريو الذي يتضمن الدستور الإنتقالي والترتيبات التي ستوضع فى مكان النظام الراهن بمجرد زواله، لتستمر طوال الفترة الانتقالية ذات الثلاث سنوات...فلا بد من إشهار هذه الخطط لكي يدرك الشارع أنه يمشي علي بصيرة وصراط مستقيم...وأن الضوء واضح فى نهاية النفق...وأن ردوده جاهزة لفزّاعات النظام التى أكل عليها الدهر وشرب: (ما هو البديل؟).....البديل هو برنامج أحزاب المعارضة والحركة الثورية...علي أرضية موثقة ومدسترة من الحرية والشفافية والديمقراطية...فوق رمس النظام الراهن...بعد طهارة الأرض من رجسه ونجاسته التى استمرت لأربع وعشرين سنة كاملة. إن النصر معقود لواؤه بشعب السودان. ولن ترتاح أيها السفاح اللص! والسلام.
|
|
|
|
|
|