لم يكن العالم القديم لينتهي حتى يبدأ بحمل كل أفكاره ومفرداته وأنظمته الاجتماعية أو السياسية ومن ثم مغادرته هذا العالم، لم يكن هذا العالم يتوافق وطبيعته مع العالم الحديث الذي بدأ يتأسس وفق مقولات الاقتصاد والسياسة، وليس وفق مقولات الدين والقيم الاولى. لكنه أنشأ قيمه الخاصة التي تتأسس وفق مفهوم الربح بصيغته الرأسمالية وتوظيفات السياسة والاقتصاد باتجاهه، وتحول الصراع الذي يخوضه هذا العالم الى غاية الكسب الرأسمالي الذي عبرت عنه صيغ المصالح العليا للدول الكبرى لاسيما الولايات المتحدة الأميركية. وقد ترافق هذا الصراع وبهذا التصور أو الأيديولوجيا الرأسمالية مع تحولاتنا نحو العالم الحديث مما أدى الى إرباك مسارات التحول لدينا، لاسيما وان مبرر الصراع لدينا هو صراع القيم وصدام الثقافات، لكن الغرب الرأسمالي منحه بعدا أكثر خطورة في تصنيفه لهذا الصدام بأنه صدام الحضارات الذي يقود الى نتيجة الحرب حين يكون التهديد حضاريا، وليس مجرد كونه ثقافيا، وهنا تم طرح مفهوم صراع الهويات باعتبارها تعبيرا عن إرادات سياسية مما استدعى مفهوم صراع الإرادات. وبالقدر الذي نشهد فيه تلك الصيغ المستمرة والمنتجة والمتعددة للصراعات، فإنها للتعتيم على هوية الصراع وطبيعته الذي تخوضه الرأسمالية والذي يرتهن الى حسابات الربح الرأسمالي وانجاز المصالح العليا للدول الرأسمالية. ومن اجل ديمومة أوسع للصراع وأيديولوجيته الرأسمالية سعت وسائل الإعلام الغربية لاسيما الأميركية وهي تدخل في حركة المال والربح الرأسمالي، سعت بقوة الى التعتيم على هوية الصراع المناط بالمصالح الرأسمالية وهيمنة الغرب الاقتصادية على العالم وتوجيه الأفكار حول هذا الصراع تعتمد ترويج المتخيل الكلاسيكي للغرب تجاه الشرق بصيغته الإسلامية التي تستند الى عدوانية هذا الشرق وجموده وتكلس منظومة العقل لديه، وارتهان الإسلام بالإرهاب والأصولية التي أنتجته وكرسته، ومن ثم ترسيخ مقولة فوبيا الإسلام، وقد أدى هذا النشاط الإعلامي المتزايد الى إحياء النزعات اليمينية في الغرب وصعود الأصولية الأوربية بصيغتها الدينية المسيحية أو القومية الى واجهة الحدث وهو ما يرشح ترامب وبقوة الى الفوز بمنصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية. وإذا كان تطور مفهوم الصراع في الغرب بهذا الشكل، فانه في عالمنا قد أكد على أو تبنى مفهوم صراع الهويات وليس صراع المصالح في تقويمه لما يحدث من صراع نشكل نحن قطبه أو محوره الأول، وبردة فعل غير منضبطة وغير مدروسة فان عالمنا قد أعاد صياغة الهوية الدينية والمذهبية والطائفية وبارتداد زائف ومتطرف نحو الطائفية وتجاوز الحالة المذهبية والدينية القائمة على الجدل الكلامي والفقهي–العلمي، وشهدنا ظهور الأصولية في مجتمعاتنا وهي تصادر حقوق النص والتاريخ ومصالح مجتمعاتنا في تسيدها الموقف السياسي والاجتماعي والديني لصالح الطائفية والنزعة الدينية المتطرفة. وفي الوقت الذي تضع فيه الأصولية الأوربية والأميركية مصالح مجتمعاتها ودولها العليا في صدارة سياساتها واداراتها الانتخابية، فان الأصولية في بلداننا لا تقيم وزنا لمصالح مجتمعاتنا، بل لا نجد لفكرة المصالح العليا شيئا في أدبياتها وخطاباتها، ناهيك عن إمكانات الربح وتصوراته باعتباره مفهوما أساسيا وأوليا في مفاهيم عالمنا الحديث، بل هي لا تعبأ بمأساتنا وأثار الحروب التي دمرت دولنا والبنى التحتية فيها في العراق وسوريا وليبيا واليمن، ومنطلقها في ذلك هو الوعي الزائف لمفهوم الشريعة وانحرافات الوعي لديها في فهم الصراع في العالم الحديث. فالصراع الذي تتقن لعبته والقناعة الساذجة به هو مفهوم الصراع المستوحى من كتب الملل والعقائد التاريخية وذات النزعة الأيديولوجية - الدينية الضيقة والسياسية التي تكلس فيها الدين الى مصالح السلطة السياسية والرؤية المعرفية العابرة، مثل كتابات ابن حزم وتصنيفات ابن تيمية وابن كثير وتلك اللغة العابثة بوحدة الأمة وعلاقة الدين بالنص الأول، مما يكرس عودتنا غير المنطقية الى العالم القديم ونقل الصراعات فيه الى عالمنا الحديث، وتكرار سيناريوهات الخليفة ووجوب الطاعة والأمة بمفهومها الضيق في الجماعة وصونها بوجه الفئة الباغية والخارجة عليها ولحسابات السلطة وليس الدين. ولذلك أول ما تصنعه تلك الحركات الأصولية والمتطرفة هي البيعة لأميرها وحتى قبل قيام دولها لغرض تكريس مفهوم السلطة لديها، وهو المفهوم الجذري في قاعدتها الفكرية والعقدية وينضاف إليه أو يتفرع عنه مفهوم الشريعة وتطبيق أحكامها الذي ترفعه شعارا لها تلك الحركات الأصولية، لكنه ووفق ضوابط الفهم لديها للشريعة فأنها تهدف الى تكريس السلطة وبناءها الذي يتقوم بالخوف والرعب وهي تذكرنا بحادثة السوط بيد صاحب السلطة الذي أرعب امرأة حاملا فأجهضت لخوفها، ولم يكن مبرر الشريعة في نظرها هو العدل والحكم بالقسط الذي عبر عنه أو رسخه النص الأول في الاسلام "واذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل فالعدل تتأخر أولويته في الفكر الأصولي والمتطرف لصالح الخوف والرعب في تمكين السلطة وبناءها، ولذلك ما تركز عليه تلك الحركات في تطبيقاتها للشريعة هي الحدود والعقوبات والجبايات. وهي ما تتقوم به الأصولية الإسلامية وتعبير عن التوحش الذي انتاب هذه الأصولية في استنفاد أيام سلطتها وقوتها في دورات لا تنتهي من تطبيقات القصاص والعقوبات الدموية والتي لم يحدث مثلها أو حتى بنسبة ضئيلة منها في عصر صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله، وهي تأتي في قبالة ما تتقوم به الأصولية الغربية في إيمانها بحتمية الصراع الثقافي وحتمية الصدام الحضاري –هنتغتون- الذي صار يهدد عالمنا بمواجهة خاسرة بين الأصوليتين الإسلامية والأوربية، وكذلك ازدواجية التهديد له من جانب كلا الاصوليتين، فهو من جهة الأصولية الغربية عالم مسلم -إرهابي ومن جهة الأصولية الاسلامية عالم مرتد- عن الإسلام. وبذات الوقت هو تكريس للصراع بين العالم القديم والعالم الحديث ولكن بأسوأ صوره... * باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث http://shrsc.comhttp://shrsc.com
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة