لندن (1) اخيراً حسم الشعب البريطانى جدل العلاقة مع الاتحاد الأُوروبى بعد ارهاصات كثيرة وشعارات سياسية ومرافعات دستورية وقانونية عديدة تدواولتها الاوساط السياسية البريطانية لازمان متطاولة حتى غدت فى قلب السياسة البريطانية. شغلت نتيجة الاستفتاء ربما كل الدنيا علاوة على السياسيين والاقتصاديين والاكاديميين والمهتمين بالشأن الدولى نتيجة للأوضاع الاقتصادية والامنية المعقدة التى تواجه العالم. والصدمة التى صاحبت خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبى ربما لارتباط هذا الخروج بملفات داخلية واقليمية وعالمية ذات طبيعة حساسة. انحصرت تساؤلات الناس فى عموميتها حول آثار وانعكاسات هذا الخروج على المواطن البريطانى والمقيمين بها من مواطنى الدول الأعضاء والمهاجرين من خارج دول الأتحاد. أما سؤال السيادة البريطانية، والاستقلال من بروكسل ومن المحكمة الاوروبية، والصيغة التى يمكن أن تكون عليها العلاقة مع الأتحاد الأوروبى، تبقى أسئلة نخبوية نتيجة للتعقيدات الفنية الكثيرة التى تنطوى عليها. وعلى الرغم من أن هذه القضية، هى موضوع الساعة وقضية المواطن الأولى، الا أن الأمر جله، يقع فى دائرة الوعى النخبوى، وقليله فى دائرة الوعى العام للمواطن العادى. وهذا يرجع لحقيقة جهل السواد الأعظم من المواطنين بماهية الاتحاد الأوروبى وكيف يعمل وكيف يدار وحدود سلطته على الدول الأعضاء واختصاص مؤسساته، وكذلك فشل الأحزاب فى توضيح الحقائق بصورة أمينه يستوعبها المواطن. من هنا تأتى حساسية الخطاب السياسى والتعبوى فى موضوع شائك ومعقد، يحال فيه القرار للشعب عبر الاستفتاء كملاذ أخير، من غير توافرالمعرفة الكافية لديه بالموضوع. فيا ترى لماذا لعب حزب المحافظين هذه اللعبة الخطرة؟ وماهى الدوافع الحقيقية لطرح كرت الأستفتاء على الطاولة؟ وكيف نجحت حكومة المحافظين بقيادة ديفيد كاميرون فى هندسة واخراج هذا السيناريو؟ خصوصا اذا عرفنا ان الموقف المبدئى لحزبى العمال هو البقاء فى الاتحاد الأوروبى، واذ لا يمكن لبريطانيا أن تخرج من الاتحاد الاوروبى تحت قيادة عمالية كما صرح بذلك ايد ميليباند فى 2014. والحال ينطبق على حزب الديمقراطيين اليبراليين. والسؤال الجوهرى هنا، هل السياسات التى تبناها حزب المحافظين سياسات متعجلة وغير مدروسة؟ وهل هذه السياسات ذات طابع انكفائى وانفصالى على مستوى المملكة المتحدة والأتحاد الاوروبى؟ وهل سينجح الجدل الدستورى الدائر الآن، فى الحد من قدرة رئيسة الوزراء الجديدة، تريزا مي، من اثارة وتحريك المادة 50 من اتفاقية الاتحاد لمباشرة اجراءات الخروج الا تشريع برلمانى جديد يخول لها هذه الصلاحية، أم ستنجح السيدة فى اثارة المادة 50 من غير الحاجة لتشريع برلمانى، باعتبار ذلك من صلاحياتها بموجب سلطة الامتياز الملكى؟ (2) السيادة البريطانية وقوانين الاتحاد الأُوروبى المعروف ان الديمقراطية البريطانية واحدة من أعرق الديمقراطيات فى العالم، وذات خصائص فريدة ومميزة، تقوم على التمثيل النيابى، مع دستور جاء نتاج تطور تاريخى بدلا من كونه مصمما. تقوم الديمقراطية البريطانية على سيادة البرلمان كمبدأ أساسى. ونتيجة لغياب الدستور المكتوب لبريطانيا، يعد البرلمان أو مجلس العموم البريطانى هو السلطة التشريعية العليا، والوحيدة التى لها الحق المطلق فى الغاء أو سن أى تشريعات قانونية بلا أى قيود قانونية، وحتى المحكمة العليا البريطانية، ليس لها سلطة المراجعة الدستورية، باعتبارها جهة غير منتخبة. يتكون البرلمان من مجلس اللوردات - أغلبية معينة واقلية بالوراثة - ومجلس العموم المنتخب. ولأن المملكة المتحدة دولة ثنائية، ففى الدولة الثنائية، وعلى عكس الدولة الاحادية، ان المعاهدة التى تصادق عليها الحكومة، لا تُغير قوانين الدولة، مالم وحتى يتم تضمين بنود هذه المعاهدة فى القانون الوطنى بتشريعات برلمانية، وتصبح سارية المفعول، وهذه تعتبر مطلوبات دستورية. نشأ الاتحاد الأوروبى ابتداءا من معاهدة روما، تحت اسم المجموعة الاوروبية، ومن معاهدات لاحقة، أهمها معاهدة لشبونة 2007. بالاضافة الى بروتوكولات واعلانات اضافية. وقعت بريطانيا على معاهدة المجموعة الأوروبية فى عام 1973، وصارت هذه المعاهدة ملزمة لبريطانيا بموجب قانون المجموعة الأوروبية لسنة 1972، الذى أصدره البرلمان البريطانى. بموجب هذا القانون قدتم ت ضمين قوانين الاتحاد الأوروبى فى القوانين البريطانية، ليكون لها صفة الالزامية ولمحكمة العدل الاوروبية فى لوكسمبورج الولاية علي المحاكم البريطانية. عدلت معاهدة لشبونة الاصلاحية 2007 معاهدة المجموعة الاوروبية 1973 ليصبح اسم المجموعة الأتحاد الاوروبى بدلا من المجموعة الأوروبية. اتفاقية لشبونة ضمنت فى القانون البريطانى بموجب قانون الاتحاد الأوروبى المعدل لسنة 2008، الذى لم يلغى قانون المجموعة الأوروبية لسنة 1972 وانما عدله، لانفاذ ولاية القانون الاُوروبى على القانون البريطانى. بالتالى قانون الاتحاد الاوروبى لسنة 2008 هو الوسيلة التى أعطت الولاية لقانون الاتحاد الاوروبى. وتطورت هذه الولاية بمحكمة العدل الأوروبية التى قوﱠمت مفهوم السيادة البرلمانية، كمبدأ قانونى بشكل جوهرى. هناك جدل دستورى وقانونى وأكاديمى كثيف، حول مبدأ سيادة البرلمان التى تسيطر على الدستور البريطانى والتى لم تعد موجودة، واذا ما كانت بالفعل موجودة، وفعلا مطلقة، باعتبار أن البرلمان حُرٌ فيما يشرع أو لا يُشرع. لذلك يقول بعض أساتذة القانون، أن المصطلح الأكثر دقة، لهذا المبدأ القانونى فى العرف الدستورى، هو سيادة السلطة التشريعية للبرلمان – وليس سيادة البرلمان حتى يمكن مقارنتها بسيادة القانون الاوروبى– الذى وفقا له تكون سلطات البرلمان التشريعية لا تخضع لاى قيود قانونية، والمحاكم لا تملك سلطة اعادة النظر فى صلاحية القوانين والتشريعات التى يسنها البرلمان، القيد الوحيد الذى يخضع له هذا المبدأ القانونى، هو عدم قدرة البرلمان على تققيد البرلمانات التى تليه. والمؤكد أن هذا المبدأ، قد تم تعديله أو تقويمه تدريجيا على غير ما جاء به “Dicey”. وهذا التقويم فى الحقيقة تم بتدابير وتشريعات برلمانية. ومثال لذلك، قانون المجموعة الأوروبية لسنة 1972، والقسم 2(1) من هذا القانون يوجه، بأن بنود قانون الأتحاد الأوروبى تطبق مباشرة، ويكون لها التاثير المباشر تلقائياً ومن غير الحاجة لسن المزيد من القوانين. وهذه هى الطريقة التى نُفذ بها قانون الاتحاد الاُوروبى، وقد اُعطيت الكلمة الاخيرة فى هذا الخصوص للقضاء. والقسم 2(4) مقروءاً مع القسم 3(1) يُفعل مبدأ سيادة القانون الاُوروبى، كما تفسرها محكمة العدل الأوروبية، والتى تضيف ايضا، اذا كان القانون الأوروبى فى محل شك، فهذا يتطلب من المحاكم البريطانية احالة السؤال الى محكمة العدل الُاوروبية. ينحصر دور محكمة العدل الاوروبية فى: 1- التأكد من أن قوانين الاتحاد الأوروبى قد روعيت عند التطبيق والترجمة 2- معالجة النزاعات بين المؤسسات، وبين الدول الأعضاء، وبين الأفراد 3- حماية الحقوق الفردية. اذ اعطت الاتفاقية، الحق للفرد أن يقاضى أى جهة حكومية للمحكمة الاوروبية، أذا تعرض لمصادرة حقوقه المكفولة بموجب الاتفاقية. الدستور البريطانى متميز بكونه متغير باستمرار، والدليل على ذلك، الاصلاحات التى حدثت فى الفترة الأخيرة. وعلى سبيل المثال: اتفاقات نقل السلطات لأسكتلندا وأيرلندا وويلز، وقانون حقوق الانسان لسنة 1998، وقانون الاصلاح الدستورى لسنة 2005، الذى أدرج سيادة حكم القانون الأساسى لأول مرة، وأكد على مبادئ فصل السلطات وسحب السلطات القضائية من وزير العدل وانشاء المحكمة العليا. (3) كيف نجح ديفيد كاميرون فى رسم وهندسة سيناريو الخروج من الأتحاد الاوروبى من أهم التعهدات السياسية التى احتوى عليها البيان الرسمى لحزب المحافظين، قبل الأنتخابات العامة 2010 الآتى: (1) تعديل قانون المجموعة الاوروبية لسنة 1972. (2) الغاء قانون حقوق الانسان لسنة 1998، وابداله بالوثيقة البريطانية لحقوق الانسان. فى الانتخابات العامة 2010 لم ينجح أى حزب فى الحصول على أغلبية برلمانية تمكنه من تشكيل الحكومة. اتفق حزب المحافظين وحزب الديمقراطيين اللبراليين على تشكيل حكومة ائتلافية مكونة من عضوية الحزبين بالبرلمان، وكذلك على برنامج الحكومة. بخصوص قانون الأتحاد قانون الاتحاد الأوروبى، تم الاتفاق على التسوية بين حزب المحافظين المشككين فى الاتحاد الاوروبى وحزب الديمقراطيين اليبراليين المؤيد للاتحاد الأوروبى، من جهة أكدوا على المشاركة الفاعلة مع شركائهم فى الاتحاد. ومن الجهة الأخرى، اتفقوا على تعديل قانون الاتحاد الأوروبى ونقل السيادة ولكن بعد الانتخابات العامة 2015. احتوى الاتفاق على بحث موضوع مسودة للسيادة البريطانية، لتؤكد على بقاء السلطات المطلقة وبشكل واضح مع البرلمان. فى نوفمبر 2010 تقدم حزبا الائتلاف، بمسودة الاتحاد الاُوروبى الى البرلمان، أظهرت هذه الوثيقة الخلاف الكبير ليس فقط بين الحزبين، بل حتى داخل حزب المحافظين. وما شاهدناه من توترات قبيل الاستفتاء، ما كان الا انعكاسا لتلك الأجواء البرلمانية. نزعت هذه المسودة الى ارسال رسائل واشارات، واضحة سياسياً وجريئة دستورياً، ومبتكرة من الناحية القانونية. مثل، ادخال ما أسموه "قفل الاستفتاء" كشرطاً أجرائياً جديداً مضافاً الى التشريع البرلمانى. وهذا يعنى أى مشروع معاهدة مقترح مستقبلا، يهدف الى نقل السلطة والاختصاص الى الاتحاد الاُوروبى، لا يتم الا عن طريق الاستفتاء، ليقول الشعب الكلمة الأخيرة. تمت الموافقة الملكية علي هذه المسودة فى يوليو2011، وبالتالى صار قانون الاتحاد الاوروبى فى حيز الوجود. اللافت للنظر فى هذا القانون، أن التعهد السياسى قد تُرجم الى أجندة قانونية، تتمثل فى: 1- أن يعدل هذا القانون فكرة كون الاتحاد الأوروبى نظاماً قانونياً أعلى ومستقلاً، من خلال التأكيد، على أن قانون الاتحاد الأوروبى ساري المفعول على القانون البريطانى، فقط بموجب قانون المجموعة الاوربية لسنة 1972. 2- أن يعدل هذا القانون، قانون الاتحاد الأوروبى عن طريق الاستفتاء. وهذا الاجراء، يطرح سؤالين جوهريين، الأول هو، الم يكن شرط الاستفاء، كاجراء مضاف للتشريع البرلمانى، قبل المصادقة او التطبيق لاى معاهدة فى المستقبل، مخالفاً لمبدأ سيادة البرلمان؟ اذ ليس باستطاعة البرلمان تقييد البرلمان الذى يليه؟! السؤال الثانى، هو، هل يعد هذا تحولاً جديداً فى الديمقراطية البريطانية، من كونها ديمقراطية تمثيل نيابى” الى ديمقراطية مباشرة؟ 3- أراد قانون الاتحاد الاوروبى لسنة 2011، أن يحد ايضاً من صلاحيات المحاكم. على الرغم من الاشارة الى سحب السلطات الوزارية التقديرية من خلال المراجعة القضائية. قال كاميرون معللاً، أنه تعهد بتعزيز البرلمان ليكون فى قلب الديمقراطية، وتقويته على مؤسسات غير مساءلة من الشعب. والاشارة هنا، الى القضاء – المحاكم والقضاة - كونه جهة غير منتخبة، والى الحكم الصادر من لجنة الاستئناف بمجلس اللوردات فى قضية “Factortame” التى أعطت الفعالية والسيادة للقانون الأوروبى على القانون البريطانى، عندما لم تطبيق جزء من مواد لتشريع برلمانى، على أساس عدم التوافق مع قانون الاتحاد الأوروبى. الملاحظ أن حزب المحافظين قد نجح فى هندسة سياساته واخراجها بشكل قانونى، مع نسيان أن تلك الاجراءات ليست بالضرورة ضماناً كافياً، لنهايات سعيدة، وصماماً لدرء مخاطر ردات الفعل والانتكاسات اللاحقة! ويا ترى بذلك نجح ديفيد كاميرون أيضاً، فى تضليل الشعب البريطانى ومخادعة نفسه بوضع مستقبله السياسى على المحك، وجنى على نفسه، كما جنت على نفسها براقش؟! * بقلم: نجم الدين موسى عبد الكريم لندن - يوليو 2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة