في الدانمارك حالة إسلامية جديدة. ولكن في اتجاه مختلف عما عهدناه من تجليات الإسلام في اتجاه راديكالي. العكس هو الذي يحدث:
حالة من إسلام يفصل الدين عن الدولة وتقوده امرأةٌ من أب سوري وأم كاثوليكيّة فنلندية. هي السيدة شيرين خانكان الكاتبة وعالمة الاجتماع الديني والفلسفة والرئيسة المشاركة لحركة "المسلمات النقديّات" وهي منظمة تدفع نحو تطوير كفاءات قيادية نسائية (أم لأربعة أولاد). وقد أسّست شيرين خانكان اخيرا مسجدا مخصّصاً للنساء في العاصمة الدانماركية كوبنهاغن وسَمّتهُ "مسجد مريم".
إنه تجديد لا يقتصر على فكرة الفصل التي هي بحد ذاتها ليست جديدة في التاريخ المسلم المعاصر. فأهم ما في الأهداف الصريحة للسيدة خانكان ورفيقاتها هو تحدي ما تعتبره البنى البطريركية الذكورية للمؤسسات الدينية وإقامة حوار بين الدين والسياسة، حسب ما ينقل الباحث والصحافي فرهاد ميرزا على موقع "العربي الجديد" الناطق باللغة الانكليزية. وحسب تقرير في "الواشنطن بوست" في آب المنصرم بعد أيام على إقامة أول صلاة جمعة في المسجد الجديد (افتتح في آذار) فإن "أقدم مسجد للنساء مستمر إلى اليوم يعود تاريخه إلى العام 1820 في الصين والباحثة والناشطة النسائية أمينة ودود أمّت المصلين في أوكسفورد عام 2008 كما افتٌتِح "مسجد نساء أميركا" في لوس إنجلوس للمصليات العام المنصرم" وتتولى فيه الخطابة يوم الجمعة داعيات مسلمات.
ليست السيدة خانكان الإمام السيدة الوحيدة في عالم الأمس واليوم بل حتى في مسجد مريم. فهناك في عدد من الدول الغربية سيدات يحاولْن القيام بهذ الدور الذي تميل مدارس الفقه الإسلامي إلى عدم تشجيعه بل رفضه حين يتعلّق الأمر بإمامة السيدة على الصلاة المختلطة بين الجنسيْن ولو كان هناك بعض الاستثناءات أترك للمختصين الغوص فيها بالاستناد إلى سابقة تكليف النبي محمد للسيدة الأنصارية أم ورقة بإمامة الصلاة في "أهل دارها". حتى أنه لا كلمة لتأنيث مفرد الإمام في معاجم اللغة العربية. بل هناك كلمة الإمامة كمصدر فلا يقال امرأة إمامة، بل امرأة إمام.
أحد أئمة مسجد آخر في كوبنهاغن كان تعليقه ذا دلالة على نوع رد الفعل المحافظ بل المعارض للخطوة إذْ قال لموقع "ذي لوكال" الدانماركي في تشرين الأول المنصرم أن إنشاء مسجد خاص للنساء "عمل لا حاجة له. فهل نُنْشِئ مسجدا خاصا للرجال !".
السيدة خانكان التي هي عضو في الحزب الاجتماعي الليبرالي الدانماركي (يسار الوسط) هي المبادِرة إلى تأسيس المسجد وناشطة في حركة نسائية واضحة التطلّع إلى المساواة بين الجنسين وباحثة وكاتبة. هذا يجعلها ظاهرة مميزة.
ولكن في الواقع يمكن اعتبار حركة السيدة خانكان خطوة في سياق بدأته حتى قبلها وبأشكال مختلفة نساء أُخريات في دول غربية ولكنّ المضمون النسَوي النضالي الصريح لحركتها كما التشديد العلماني غير الملتبس على فصل الدين عن الدولة وارتباط كل ذلك بكونها ناشطة في حزب سياسي علماني... هو الذي يميزها.
السؤال الجوهري الكبير هنا الذي يعنينا هل كان يمكن لهذا النوع من المبادَرات أن ينشأ خارج الغرب ؟ أو ربما بسؤال آخر هل بدأنا نشهد عبر هذه الحركات إسلاما أوروبيا وغربيا أكثر انشداداً إلى نمط القِيَم الليبرالية الغربية في مواجهة التشدد الجهادي؟ لا يبدو العالم المسلم الواقع تحت هيمنة الثقافة السلفية الدينية السنية والشيعية حتى لو كانت حكومات بعض البلدان تقاتل عسكريا وسياسيا المتطرفين... لا يبدو مهيَّأً لتوليد حركات اجتهادية فاعلة لتجديد علاقة الإسلام بالحداثة خصوصا في ظل السقوط المريع للنموذج التركي ومحاولات الدمَقْرَطة في دول مسلمة كبيرة أخرى، مع أن الأتراك فتحوا المجال لتخريج داعيات.
هل يولَد إسلام غربي؟
في فرنسا هناك تجربة بادئة منذ العام 2007 وهي تولّي المعهد الكاثوليكي في باريس تخريج أئمة مسلمين عبر تدريس الإسلام وتعزيز قيم العلمانية ضمن حلم ما يسمّيه الفرنسيون "الإسلام الفرنسي".
أين ستصل هذه المحاولات التجديدية؟ من المبكر التقييم لكن كل هذه الاستفهامات تفتح على احتمال ديناميكية عميقة وهي انتقال مركز التجديد في الفكر الإسلامي إلى المسرح الغربي بسبب جِدّة التفاعل بين الإسلام والثقافة الغربية داخل الغرب وبمستويات ديموغرافية وحياتية لا سابقة لها. فهل يمكن للمشروع التعايشي بين المسلمين وبيئاتهم الجديدة أن لا ينتِج اجتهادات خلاقة بما يتجاوز المرحلة الراهنة، مرحلة أولوية مواجهة حركات الإسلام التكفيري والمنغلق؟
هل تتشكّل مع هذه الظواهر الليبرالية الغربية حالةٌ تستطيع "الضغط الإيجابي" إذا جاز التعبير على المؤسسات التقليدية في العالم المسلم "القديم" كالأزهر في مصر والنجف في العراق والوهابية في السعودية وغيرها تتجاوز مجرّد تلبية حاجة التجربة الجديدة للمسلمين في أرض الغرب إلى نوع من إنتاج قراءة أكثر انفتاحا للإسلام... كما تفعل بأشكال متعددة حركات مسلمة ليبرالية غير قابلة بالفكر المتطرف سواء المحلي في أوروبا أو الآتي من جغرافيا المسلمين التقليدية؟
باختصار هل "يتحرّر" الإسلام الغربي من تبعيته السياسية للدول المسلمة التي توقّفت قدرتُها، بسبب الفكر السلفي المتشدد، على التجديد الاجتهادي لأنها باتت في موقع دفاعي ثقافيا أمام الأصولية وهي مشغولة بإنتاج اجتهادات ذات طبيعة محافظة وخائفة أمام أولوية الهوية التقليدية التي فرضها التيار التكفيري... خلافا لما كانت عليه في أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين من الأفغاني ومحمد عبدو إلى الهيكلية التعددية التي نتجت عن صعود التجارب السياسية الليبرالية العربية والمسلمة قبل انهيار معظمها لأسباب مختلفة وآخرها المشروع التركي الديموقراطي!
لو لم يكن هناك إسلام غربي لوجب إيجاده لضخ دماء حداثية في شرايين هذا الدين - الحضارة العظيمة. ولماذا نخجل من انتقال تجديد الفقه الإسلامي إلى الغرب فيما أصبح التراث الثقافي الإسلامي كله في يد العلماء بل المستشرقين الغربيين منذ حوالي قرن ونصف القرن إلى اليوم.
وأتمنى كمتابع ولو غير مختص لهذا الموضوع أن يعطيني باحث عربي جدي رقما بل إحصاءً عن عدد هذه الكتب التراثية التي أعاد العلماء الغربيون، بمن فيهم أكاديميون مسلمون هم جزء من المؤسسات الغربية، اكتشافَها أو أعادوا تحقيقها (يعني إنتاجها). الأرجح معظمها بل أكثريتها الساحقة، حتى مخطوطاتُنا الأصلية أصبحت في جامعات ومكتبات ومتاحف الغرب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة