|
الإبداع في توظيف الحواس في العمل الإذاعي زين العابدين صالح عبد الرحمن
|
يعتمد العمل الإذاعي في أداء رسالته علي المتخيل، أي تعتمد الرسالة الإذاعية كما ذكرت في مقالات سابقة، علي إثارة الخيال عند المتلقي، لكي يستقبل الرسالة الإذاعية بأفق واسع، حتى يستطيع أن يترجم الرسالة لواقع، أي أن تؤدي الرسالة أهدافها، و هذا لم يحصل، إلا إذا كان المرسل لديه القدرة العالية في توظيف كل إمكانياته الإبداعية لتحضير الرسالة من جانب، و من جانب أخري تخيل المستقبل في كيفية التعامل مع هذه الرسالة، و الرسالة الإذاعية لا تختلف عن الرواية و القصيدة، في أنها تستخدم الصور الجمالية التعبيرية، و إيجاد فواصل بين منقولاتها، و إن كان الشعر و القصة و الرواية تتعامل مع فئة من الناس، إلا إن الرسالة الإذاعية تتعامل مع جميع قطاعات المجتمع، بكل مكوناته الثقافية و التعليمية، و هذه تصعب مهمة المرسل في كيفية تقدم رسالته في باقة تجد الاستحسان من الجميع. في هذا المبحث أحاول إن ألقي الضوء علي إبداعات إذاعية، في كيفية التعامل مع الحواس و توظيفها في تلقي الرسالة الإذاعية، أو تربية و تطوير الملكات الحسية و تدريبها علي التخيل عند فئة في المجتمع، و الحواس تعتبر عماد عملية التخيل و تركيب الصور الجمالية، و هي عملية تحتاج إلي جهد مضني و لكنه جهد في لذة و الحلاوة لصاحبه، و تحتاج إلي قدر عالي جدا من التركيز، لأنه يقوم علي إثارة الأخر و يجعله يتفاعل مع ما هو مطلوب منه، هذا الضرب من الإبداع أشتغل عليه عدد من الإخوة في الإذاعة كان في مقدمتهم الأستاذ المخرج معتصم فضل، و الأستاذ المخرج صلاح الدين التوم و الأستاذ المخرج عبود سيف الدين، هؤلاء بقدر ما أخرجوا برامج إذاعية وجدت القبول عند المستمع، و لكنهم أيضا حاولوا إن يقدموا مدرسة جديدة في عملية الإخراج الإذاعي، تركز علي توظيف الحواس علي التخيل، اعتمد معتصم فضل علي ذلك عند قطاع الأطفال بينما اعتمده التوم في البرامج الترفيهية الثقافية، و سيف الدين في البرامج الترفيهية الفنية، و كل واحد منهم يأخذ مسارا مختلفا عن الأخر. أول من فطن لعملية الحواس و توظيفها في بناء القدرات الإبداعية الطبيبة الإيطالية ماريا ممنتسوري، و التي استطاعت من خلال عملها رصد ظاهرة الحواس عند الأطفال، بأن الحواس هي المدخل للعملية الإبداعية، لذلك أسست مدرسة للأطفال من سن سنتين إلي ست سنوات، لتطبيق نظرية تربوية، باعتبار إن الحواس تشكل أساسا لتنمية القدرات العقلية و بناء الشخصية السوية، و بالفعل نجحت المدرسة في تلك المهمة، ثم انتقلت بعد الحرب العالمية الثانية للولايات المتحدة الأمريكية " مدرسة و كلية منتسوري" و هذه المدرسة تنقل خبراتها لعدد كبير من دول العالم. و في جانب أخر من ضروب الإبداع، نجد القاصة و الروائية الجزائرية، أحلام مستغانمي، قد اشتغلت من خلال صورها و تعبيراتها الجمالية في كتابة الرواية علي إثارة الحواس. و روايتها " فوضي الحواس" تقول في أحدي مقاطعها التخيلية و التي تحاول أن تستجمع كل حواس القارئ لكي تفرض عليه عملية التخيل تقول (كان الطريق بعيدا بعض الشيء، و رغبة لم تفارقني أثناءه. بالجلوس أخيرا إلي هذا الرجل أن أكون جواره أو مقابلة له، لا خلفه كما أنا الآن يصلني منه بعض عطره، تحمله نحوي نسمات سيارة مسرعة. فأتقاسم معه مجري الهواء .. و كثيرا من صمت الأسئلة.) هذا التنقل في الخيال بين العين و السمع و الشم و حتى لمس، في مقطع قصير، تقوم الرواية جلها في بناء المتخيل عبر الحواس، و يقول عنها الناقد العراقي حميد حسن جعفر في مقال بعنوان " أحلام و تجميع الحواس" يقول ( إن فوضي الحواس عند مستغنامي، تدفع القارئ إلي لملمة حواسه بعيدا عن الخيبة، و وقوفا إلي جانب المبدع و إسناده حالة تصل إلي التداعي، و من آجل أن لا يحيل الآخرون الواقفون في المنطقة المظلمة، إلي شيء يشبه المجزرة، و فضاء الجغرافيا المدينة إلي مقبرة، يحتم علينا و جوب زيارة الموتى قبل الأحياء، أو نمنحهم بعض وقتنا قبل الأحياء كلمة حب) إي أنه يقول إن أحلام تصنع فوضي حواسها علي السطح، من دون أن تفرط بوحدة الحواس، و هذا ما يعتمد عليه الإبداع الإذاعي في إن إثارة واحدة من الحواس بقوة تثير جميع بقية الحواس في تخيل الصورة التعبيرية. ركز الأستاذ معتصم فضل في عملية الإخراج في تثبيت رؤيته الإذاعية علي برنامج الأطفال، فكان هو المشرف علي برامج الأطفال في الإذاعة، هذا الإشراف و الإخراج، جعله يتبصر طريقه في إن يخط له خطا واضحا، و رؤية إذاعية من خلال تنمية القدرات عند الأطفال، و محاولة خلق الصور التعبيرية التي تلاءم القدرات الحسية عند الأطفال، و كان يعتقد إن كتابة برامج الأطفال ليس بالشيء السهل، باعتبار أنها برامج تتداخل فيها الكثير من الرسائل التربوية و التعليمية، إضافة إلي كيفية توظيف الحواس عند الأطفال في تنمية القدرات التخيلية، لذلك كان يعتمد علي الدراما في تقديم رسالته، باعتبار إن الدراما فيها مساحة من الحوار يقوم علي التخيل، و بالإضافة لقدر عالي من التركيز. إن الهدوء و قلة الحديث و التأمل التي تعتبر من مقومات شخصية معتصم فضل، كان أداءه الإذاعي بذات الهدوء، و لا يثير الكثير من الضوضاء، لأنه يعتمد علي تأسيس الرؤية علي بناء يقوم علي أساسيات و متطلبات الشخصية السوية، فكان في رسالته يطمح في بناء الشخصية النموذجية، و هذا هو الذي جعله يعتمد علي قطاع الأطفال في تطبيق رسالته، ذات الأبعاد المستقبلية و بناء الشخصية الوطنية، و إذا كان صلاح الدين الفاضل قد أسس مدرسة بناء المبدع الإذاعي، أخذ معتصم فضل منحي أخر في كيفية بناء الشخصية السودانية اعتمادا علي قطاع الأطفال. تركز رؤية معتصم الفاضل علي حواس الأطفال، و محاولة تجميع هذه الحواس في كل متخيل من الصورة التعبيرية، إلي جانب طرح أسئلة علي الأطفال، يعطي فيها مساحات لمعرفة الإجابات، و جعلهم أن يستخدموا قدراتهم الخيالية في الإجابة علي هذه الأسئلة، و تقديم الإجابة أيضا علي صور جمالية فيها توظيف عالي للحواس، لكي يتسع المتخيل عندهم، هذا المشوار بين الأسئلة و تقديم الإجابة، تتم فيه نشر و نثر من المؤثرات المصاحبة المختارة بعناية خاصة، و يختار فيها الموسيقي الكلاسيكية و هي موسيقي تهدي الأعصاب و تفتح باب التخيل تدريجيا، و في نفس الوقت يؤدي إلي تجميع الحواس و توظيفها، الهدف من ذلك، كيف يستطيع الأطفال أن يوظفوا حواسهم عبر كثير من التعبيرات و اللوحات الجميلة، في بناء تخيلاتهم، لخلق صور تعبيرية جمالية خاصة بعالمهم. و إذا استطاع الأطفال في هذه الرحلة الإبداعية أن يسيطروا علي حواسهم، و توظيفها. يستطيع أن يخلق عندهم شخصية متوازنة. شخصية غير منفعلة بل متروية في اتخاذ قراراتها. و مدركة للعالم الذي حولها, هذا الإدراك هو الذي يخلق بدايات الوعي، لآن الإدراك بالواقع و العالم الذي حولك من خلال الوعي، يجعل الشخص يعرف كيف يؤثر في هذا الواقع و كيف يتعامل معه، و الوعي و الإدراك دائما لغته هي الحوار، باعتبار إن الحوار يزيد الوعي و يفتح أفاق الحلول. و إذا تتبعنا مسيرة معتصم الإذاعية في إخراج برامج الأطفال نجده، لا يميل للموسيقي الصاخبة و لا المؤثرات المثيرة، باعتبارها استخدامات لا تفيد في رسالته خاصة عند الأطفال، و دائما يميل للموسيقي الهادئة، لأنها تساعد علي هدوء الأعصاب، و تعطي قدرة علي التأمل و التبصر في العالم الذي حولهم. و لكن هذا العالم يجب النظر إليه من زوايا مختلفة, كل طفل ينظر إليه و يقيمه بقدر تجربته، و يحوله لمتخيل أخر من خلال الصور الجمالية و التعبيرية التي يضفها له، لكن هذا العالم الذي حول الأطفال يكتشف فيه قدرات الأطفال في الذكاء، و في نفس الوقت، في كيفية عملية الخلق و الإبداع، و رصد الأطفال لمعرفة من يتفاعل مع هذا الواقع، و يستطيع توظيف قدراته الحسية، و من يفعل ذلك نجده يعشق هذا الواقع، هذا هو الذي يشكل الدافع لكل الأطفال الذين يشاركوا هذه التجربة، في أن يرتبطوا بالإذاعة، و تصبح هي المبتغي في مستقبل حياتهم. و في ذات الرؤية التي حاول معتصم تعميمها، في عملية تجميع الحواس، نجد الأستاذ صلاح التوم يحاول أن يطبقها في البرامج الترفيهية و الدراما، و صلاح التوم لديه قدرة عجيبة في التكيف مع العالم الذي يتعامل معه، و لكنه يحاول أن يؤثر في هذا الواقع من خلال وضع ملامحه الشخصية، و لا يثير صلاح التوم في العملية الإخراجية الحواس من خلال مؤثرات قوية، و لكنه يتدرج في تجميعها لخلق صوره التعبيرية، و يتدرج في هذا التجميع و يبدأ بالكلاسيكي و ينتقل إلي الصاخب مع الرجوع تدريجيا، و مثل الشخص الذي يصعد إلي أعلي، كأنه يتصاعد للسماء، ثم يبدأ في النزول إلي أسفل، و بين السفرين هناك عملية للتجميع للحواس ثم تفكيك هذا التجميع تدريجيا، و لكل واحدة من عملية الصعود و الهبوط لها جمالها و خاصيتها في صناعة الجمال، حيث يحاول تشكل باقة من الزهور الندية تدهش المستمع، و يبدأ بالتفاعل مع المادة المقدمة في سياحة يمتلك فيها التجوال بخيال المستمع، إن كان ذلك في البناء البرمجي للمادة الترفيهية أو في الدراما، لذلك هو يختار مواده بعناية فائقة جدا، و تنقيحها، لا يميل للوعظ باعتبار إن الوعظ مادة منفرة للمستمع، فالمللوج و الدراما هما العنصران اللذان يجذبان المستمعين، و لكن كل مخرج له مدرسته الخاصة المميزة. أخرج صلاح الدين التوم العديد من السهرات الإذاعية، و برامج ترفيهية " اليوم المفتوح" و صباح الخير يا وطني و عدد من المسلسلات الإذاعية، منها عشاق تحت التمرين و دموع فاطمة و العيون و الرماد و غيرها، و هي تأخذ رؤية صلاح في العملية الإخراجية، لا يحاول إبهار المستمع في بداية المشوار حتى لا يفقده وعي المضمون بالتركيز علي المؤثرات، أنما يجعل الإبهار جزء من عملية الوعي، و ثم يبدأ بعد ذلك بالإبهار في تشكيل لقطات متنوعة تساعده في ذلك اختياراته الجيدة للمؤثرات الصوتية، و الخلفية التي تظل مصاحبة لعملية الرسالة الإعلامية حتى النهاية، و مثل هذا العمل يتطلب قدرة عالية من التكنيك، و وضوح الصور الجمالية كل واحدة علي حدي، كما إن الانتقال من مادة إلي أخري، يحددها بالفواصل الموسيقية، و في كل ذلك همه تجميع الحواس ثم البدء في تفكيكها بصورة تدريجية، و تركيز الحواس تبدأ عندما يبدأ المستمع في التخيل و السرحان مع المادة الإذاعية حتى تعتقد إن الزمن قد توقف في ذلك الوقت تماما، فلا ينشغل المستمع بالعالم الذي حوله، باعتبار كل الحواس مشغولة في بناء الصورة الجمالية في متخيله، و هذا سحر الإبداع و الإبهار. و في ذات المدرسة يمثل الأستاذ عبود سيف الدين عمودا أساسيا، و لكن عبود يختلف عن معتصم فضل و صلاح الدين التوم، حيث إن عبود يفاجئ المستمع من الوهلة الأولي بعملية الاندهاش، و نثر العديد من الصور التعبيرية و الجمالية، يبدأ بعنصر الإبهار في محاولة لسرقة أذن المستمع لأطول فترة ممكنة، و يستمر بالإبهار مع الانتقال بين عدد من المقطوعات الموسيقية، و التي تعبر عن لقطات متنوعة، هذا العمل يجذب جميع الحواس من الوهلة الأولي، و يحتفظ بهذا التجميع، و لكن يحاول أن يتلاعب بالخيال عند المستمع، من خلال كمية الصور المتناثرة، و التنقل بين الفواصل الموسيقية، سياحة و تجوال عبر فضاءات مختلفة و متنوعة، ثم يبدأ بالهبوط عند قربه من نهاية المادة المقدمة. كان عبود سيف الدين في بداية مشواره متأثر بابن خاله الأستاذ صلاح الدين الفاضل، حيث درس الإخراج علي يديه في مدرسة صناعة المبدعين، ثم بدأ يتلمس عبود طريقه الخاص مقلدا في البداية، و لكن عبود استطاع إن يكون أحد رواد مدرسة توظيف الحواس في العملية الإبداعية، عندما انتقل إلي إذاعة الجزيرة في " ود مدني" حيث أصبح عبود يميز ذاته كمبدع، يمتلك كل القدرات و الإمكانيات، التي تجعله يكون أحد رواد مدرسة الإبداع في توظيف الحواس، من خلال البرامج التي كان يخرجها، و البرنامج الذي أظهر قدرات عبود سيف الدين الإذاعية "صباح الخير يا وطني" هذا البرنامج قد أظهر قدرات كثير من المخرجين الإذاعيين، باعتبار إن البرنامج فيه العديد من الفقرات المتنوعة، و كل مخرج يحاول أن يقدم شيئا مميزا عن الأخر، رغم إن الجميع يحتفظ بالإطار العام للبرنامج، و لكن من خلال مساحات البرنامج و التنوع في توظيف المؤثرات يظهر الإختلاف في مجال الإبداع. كما إن عبود سيف الدين في إشرافه الفني العام علي برامج إذاعة الجزيرة، أعطاها طابعه و نكهته الخاصة، حيث اعتمد علي البرامج الخفيفة الشيقة التي تجعل المستمع لا يصاب بالملل، بل يكون لديه الاستعداد الكامل أن يبعد يده من مؤشر الراديو، و كل هذا يعود لفضل عبود سيف الدين، كما إن عبود و صلاح طه استطاعوا أن يشكلوا ثنائي مميز في تبادل الأفكار، و إن كان عبود قد حافظ علي طابعه في الإخراج، الذي يعتمد علي التأثير القوي علي الحواس و تجميعها لدي المستمع من الوهلة الأولي من خلال عنصر الإبهار، و هذا النوع من الإخراج رغم إيجابياته الكثيرة المميزة و لكنه إذا لم يصاب المستمع من الوهلة الأولي بحالة الإبهار و الاندهاش، لا يستطيع المتابعة المتواصلة مع فقرات البرنامج. و في الختام إن مدرس تجميع الحواس تشبه حالة الحوار أو الدرويش في حلقة الذكر، تبقي كل حواسه مشدودة في دائرة الذكر و يغيب عن العالم الذي حوله، و لكن في المدرسة الإذاعية مع الإبقاء علي عنصر الوعي، و هي مدرسة في الأساس كما ذكرت، حاول معتصم أن ينمي بها و يطور القدرات الإبداعية عن الأطفال، و الهدف هو كيفية خلق الذات السليمة المعافاة، و حاول الأخوة صلاح الدين التوم، و عبود سيف الدين تطويرها و التعامل بها مع المستمع في نقل رسالتهم الإعلامية، إن كان من خلال البرامج الترفيهية و الثقافية و الدراما، و هي مدرسة تعتمد علي الإبهار و الدهشة دون تغيب الوعي. لهؤلاء المبدعين لهم كل تحية و تقدير في تشكيل وجداننا، مع خالص التقدير.و الله الموفق. نشر في جريدة الخرطوم في سلسلة مقالات " الإبداع في العمل الإذاعي"
|
|
|
|
|
|