|
الأمير أبوقرجة وإخوته الشهداء أو صولة بني عثمان السبعة (كتاب قيد الإعداد والطبع) (3 – 3) أبوقرجة أ
|
الأمير أبوقرجة وإخوته الشهداء أو صولة بني عثمان السبعة (كتاب قيد الإعداد والطبع)
(1 – 3) أبوقرجة أمير البرين والبحرين حصار وتحرير الخرطوم مكي أبوقرجة [email protected]
جات أنصــــاراً ما بتتــكلم وجيت أبقرجة صالح سلم "من أهازيج الأنصار"
كان مشهداً تاريخياً مدهشاً ومؤثراً. يجسد القوة والاقتدار والثقة بالنفس ودور المرأة السودانية في الثورة المهدية. فقد وقفت سيدة تحمل سيفاً على كتفها - أمام خيمة صغيرة نصبت لها - ورسالة مطوية وملفوفة بالجلد في يدها اليمنى. توسطت الخيمة جيشين متقابلين أحدهما يضم ألفين من الفرسان وهم على صهوات الجياد. والآخر جيش يقف وراء استحكامات. برز رجل ضخم الجثة، طويل القامة، يرتدي زي كبار الضباط الأتراك، وحوله ثلة من الجند. تقدم نحو السيدة وتسلم منها الرسالة وسلمها رسالة أخرى. فض رسالته رجل كان يقف إلى جانبها وقرأها ثم أشار للضابط العظيم أن يتقدم معه نحو الفرسان الذين كان يقف أمامهم الأمير أبوقرجة في كامل هيئته العسكرية. جبة الأنصار المرقعة والدرع من فوقها والخوذة على رأسه. ممسكاً ببندقيته على يمينه والسيف يتدلى على جانب الحصان. ترجل الأمير أبوقرجة وسلم على اللواء صالح ود المك بحرارة وابتسم في وجهه وأمنه. هكذا سلم صالح ود المك حامية فداسي التي ظل يحاصرها الأنصار. وكان قد رفض تسليمها لغير الإمام المهدي. ولكن الإمام أوفد أبوقرجة ليقوم بهذه المهمة وليفتح فصلاً جديداً في الثورة المهدية بالتوجه نحو الخرطوم وحصارها. كانت السيدة التي حملت الرسالة هي الحاجة ست البنات أم سيف. المجاهدة الأنصارية التي دأبت على مساندة الثورة منذ اندلاعها. كانت تصنع الزاد للأنصار وتشارك في المعارك ما وسعها ذلك. تتقلد سيفها على الدوام. ولقد لقيت مصرعها شهيدة في معركة الجريف أثناء حصار الخرطوم في أغسطس 1884م هي وعدد من إمائها الفتيات اللائي كن يحطن بها. أصابتهن دانة فقضت عليهن. وقد نعاها المؤرخ محمد عبد الرحيم في مخطوطه. وأشارت المصادر إلى أنها امرأة دنقلاوية من القطينة. وقد وردت سيرتها في كتاب للمؤلف بعنوان "أصوات في الثقافة السودانية". تضاربت الأقوال في الأسباب التي جعلت أبوقرجة يأمرها بتسليم الرسالة لصالح ود المك. وقالت أرجح الروايات أن الأتراك دأبوا على قتل رسل الإمام المهدي. الأمر الذي يتنافى مع الأعراف والتقاليد في الحروب. لذا رأى أبوقرجة أن يكلف امرأة بهذه المهمة. ولربما أنه كان يرى أن امرأة من الأنصار تستطيع القيام بالمهمات الجسام دع عنك الرجال. وربما كان نوعاً من التكريم للدور الذي تلعبه في الثورة. وظلت المصادر تنوه على الدوام بثبات رسل الإمام المهدي أمام الموت واستهانتهم به الأمر الذي كان يؤثر سلباً على معنويات العدو. شهدت منطقة الجزيرة عبر تاريخها الموغل في القدم خيلاً ورجلاً وجيوشاً لا تحصى. فقد غزاها الإمبراطور الأثيوبي عيزانا يقاتل "النوبة الحمر". ودخل العرب في أطرافها أفواجاً وتحالف عرب القواسمة والفونج ودمروا دولة علوة. وحشد سلاطين الفونج خلال عشرات السنين جيوشاً فحاربوا العبدلاب والمسبعات والمتمردين على سلطانهم من القبائل حتى شمال السودان والحدود الأثيوبية. واندلعت الحروب القبلية في أنحائها (حرب القيمان) حتى دخل الأتراك السودان. والكثير هو ما جهلناه عن تاريخها. إلا أن هذا الجيش الذي قدم إليها هذه المرة أمره مختلف. كانوا لا يتجاوز عددهم الألفي مقاتل ولكنهم كانوا فرساناً يمتطون صهوات الخيل. تميزوا بالضبط والربط والتصميم. لا جلبة ولا ضوضاء. لا يسمع منهم الناس سوى وقع الحوافر على الأرض. كانوا "خرساً صامتين يتلمظون تلمظ الحيات" كما عبر ابن الأثير في وصفه لزحف الأنصار في موقعة بدر وقد أجمل وصف هؤلاء الأنصار الأواخر قائل مجهول: جاءت أنصــــــــــــاراً ما بتتكلم وجيت أبوقرجة صـــــــالح سلم كان صالح ود المك ضابطاً عظيماً في صفوف الجيش التركي. وقد رقاه غردون إلى رتبة اللواء بعد أن خاض معارك عنيفة ضد الثوار الأنصار في الجزيرة. كان عائداً من فازوغلي في مهمة رسمية عندما الفى المنطقة وهي تمور وتضطرب. فقد أفلح مخطط المهدي بإشعال الحرائق حول الخرطوم (رب شرارة أحرقت السهل). وكان يتزعم القبائل التي انخرطت في تلك الدعوة المهدية ونهضت تقاتل من أجل دينها وحريتها الشيخ محمد الطيب البصير. وهو من أبكار الدعوة المهدية. وقد استطاع أن يضيق على صالح ود المك ويحاصره بجيشه في فداسي التي اختارها منطقة دفاعية. فانشأ الاستحكامات وحفر خندقاً. وقوات ود البصير تحيط به. فحاول أن يستخدم الحيلة ويستقطب عدداً من زعماء الجزيرة وأعيانها ليدخلهم معه – ربما كرهائن – إلا أن سعيه باء بالفشل. وكان من بينهم الشيخ العبيد ود بدر الذي عبر بسخريته المفعمة بالحكمة عن الموقف بقوله:- أنا ود ريا الـــــــــما بربطـــــ النية أنا تـــــــــــــرن ترن في القيف حرن أنا ما فار بدخــــــــــل الجحـــــــــار وأنا ما صــــــــــــبر بدخل الققــــر بجيـــــــــــــــــــكم ابقـــــــــــــــــــرجة وبتعـــــــــــــــــلب الهرجــــــــــــــــــة كانت الخلافات قد عصفت بجيش ود البصير الذي يتكون من عدد من القبائل حديثة العهد بالدعوة المهدية. وحتى ذلك الحين لم تلتق بالإمام المهدي. وقد فشل ود البصير في ترويضها والحيلولة دون تطور نزاعاتها بتربيتها معنوياً حسب القيم التي طرحتها الدعوة. وفي الوقت نفسه أحسَ صالح ود المك بأن لا أمل له في كسب هذه المعركة وهو محاصر بهذا المستوى العنيف. فالأمور لا تفتأ تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. ولما كان يعلم بأن هناك بحراً من الدماء بينه وبين ود البصير خشي مآلات تسليمه الحامية. فكتب إلى الإمام المهدي يطلب منه مبعوثاً يقوم مقامه في التسليم. ولما كان الإمام المهدي حريصاً على عدم إراقة الدماء وميالاً إلى حقنها فقد قرر ندب الأمير أبوقرجة ليقوم بهذه المهمة. وبعد الفراغ منها يزحف نحو الخرطوم لبدء حصارها بصورة كاملة وجدية. كتب الإمام المهدي إلى ود البصير يطلب منه التنحي لأبوقرجة والتنازل عن القيادة العامة في الجزيرة ودمج جيشه في قوات أبوقرجة. وقد جاء في رسالة المهدي أن بعض الأهالي ما زالوا يجهلون حقيقة الدعوى فتباطأوا بالانضمام إليها. وقال إنه لا يفضل استخدام القوة ضدهم لذا بعث بالأمير أبوقرجة ليجادلهم باللتي هي احسن. الأمر الذي ربما يتعذر على ود البصير بسبب ما سبق من وقوع اشتباكات بينه وبينهم( ). لم يتقبل ود البصير هذه الإقالة بصدر رحب وغضب، إلا أن المهدي هدَأ من روعه وذكره بما كان يحدث للصحابة وخاصة تجربة خالد بن الوليد. وقرر المهدي تعيين أبو قرجة أميراً للبرين والبحرين على رأس قوات حصار الخرطوم. استبشر أهل الجزيرة خيراً بدخول أبو قرجة إلى منطقتهم وأطلقوا قولتهم المشهورة "بلاقيهم وبكفيهم". وعندما كتب ود البصير للإمام المهدي متهماً أبو قرجة بالتساهل مع اللواء صالح في التسليم ردَ عليه الإمام معلناً ترحيبه بهذا السلوك الذي يؤلف القلوب ويحقن الدماء. تسلم أبوقرجة عدة وعتاد الحامية ومن بينها الباخرة "محمد علي" وأرسل ود المك مخفوراً إلى كردفان ليقابل الإمام المهدي.. فالتقى به في الرهد وهو يتهيأ للزحف على الخرطوم. وتضاربت الأقوال بعد ذلك حول مصيره. فقيل أنه حاول أن يكاتب غردون فضبطه الأنصار وضاعفوا عليه القيد والمراقبة. وقد توفاه الله "عليه الرحمة" في القطينة في عام 1890م. ولم ندرك الأسباب التي جعلته يقيم في بلدة الأمير أبوقرجة آخر غرمائه. تحرك أبوقرجة لحصار الخرطوم يقود جيشه في وسط منطقة الجزيرة حيث نادى بالجهاد ودعا الرجال للانضمام إليه فهرعوا إليه وفي مقدمتهم عشيرته في القطينة الذين اقبلوا عليه زرافات ووحداناً. لم تكن الدعوة جديدة عليهم فقد بايع الإمام المهدي الكثيرين منهم قبل إعلان الدعوة. وقد لحق به بعضهم فأدركوا معارك كردفان. في ذلك الوقت كان غردون قد أدرك فشل سياسته بإخماد الثورة بصورة سلمية وإرضاء المهدي بتنصيبه سلطاناً على كردفان. كان وعيه حتى ذلك الوقت بطبيعة الثورة ضعيفاً يغذيه بعض المستشارين السذج بأفكار تنطلق من عقول مغلقة تقيدها منطلقات عصبية قبلية ومصالح ذاتية محدودة. فلم يمحضوه نصحاً يمكنه من تفادي تلك القارعة التي أحاطت به وهو غارق في أوهامه. وقد انهارت آخر آماله في تنفيذ خططه عندما وصلته رسالة الإمام المهدي التي حملت رفضه لسلطنة كردفان، وأنه في سبيله للزحف على الخرطوم. وجاء في الرسالة "وإلا فإن حزب الله واصل إليك ومزيل لك عما شاركت به خالقك فاستدعيت ملك عباده وأرضه مع إن الأرض لله يورثها عباده الصالحين." وختمها بقوله "وبعد هذا البيان فإن اهتديت وسلمت واتبعتني حزت شرف الدنيا والآخرة وفزت بأجرك وأجر جميع من اتبعك. وإلا هلكت فكان عليك اثمك وآثام جميع من اتبعك". كان الإمام المهدي قد بدأ اتصالاته في وقت سابق بأعيان القبائل القاطنين حول الخرطوم بضرورة القيام لنصرة الدين. وقد ركز في رسائله للشيخ العبيد ود بدر وأبنائه بالوقوف في وجه حكومة الترك. كما كتب لزعماء الشكرية الذين انقسموا بين مؤيد للدعوة ومعارض. وقد تمكن النشطاء الذين هبوا مسرعين من عزل الخرطوم عن المنطقة الجنوبية بقطع أسلاك التلغراف ونزع أعمدتها نهائياً. واتضح الانحياز الكامل لشيوخ القبائل في القرى الواقعة ما بين الخرطوم وسنار إلى الإمام المهدي. وبات الخطر يهدد الخرطوم بانقطاع المواد الغذائية عنها. كان المهدي حريصاً على نشوء بؤر ثورية في أنحاء متفرقة حول الخرطوم. وقد أثمرت رسائله باقتناع الشيخ مصطفى الأمين أم حقين بجزيرة اسلانج بالانضمام إليه كما قام الشيخ أحمد أبو ضفيرة بجمع قبائل الجموعية والفتيحاب وعسكر في ديم أبو سعد، جنوب الخرطوم. أما من الجهة الشرقية فقد استنفر الشيخ المضوي عبد الرحمن المحسي أتباعه فحشد حوله عشرة آلاف مجند وأوكل قيادتها لأحد أبناء الشيخ العبيد. وقاد الشكرية القدوراب أحمد ود عمارة والمغاربة محمد عبد السلام والبطاحين طه عبد الباقي، والحسانية سليمان ود كاسر. واتسع نطاق التأهب للمقاومة وامتد شمالاً فتمكن الأنصار من قطع الاتصال التلغرافي ببربر. وفي الوقت الذي وقعت فيه المنطقة الجنوبية في قبضة الأنصار كانت معسكراتهم قد امتدت من شلال السبلوقة حتى مشارف الخرطوم. كما أخذت تلك المعسكرات في الانتشار شمالاً وجنوباً من بربر منذ أواخر مارس 1884 فشمل نشاطهم كل المنطقة الواقعة ما بين شندي وبربر حتى قطعوا الاتصال التلغرافي بين المدينتين. وأضحت المنطقة شمال بربر تحت سيطرتهم تماماً. ولما حسم الشيخ محمد الخير أمره وهاجر إلى الإمام المهدي عاد منه يقود جيشاً قوامه أربعون ألفاً من الجعليين والرباطاب والبشاريين فسقطت بربر في قبضته وتلاشت آمال غردون في إجراء أي اتصالات تلغرافية مع مصر. وقعت أولى معارك حصار الخرطوم قبل وصول الأمير أبوقرجة في الحلفاية في منتصف مارس 1884م بقيادة أبراهيم بن الشيخ العبيد وأخوه العباس والشيخ المضوي عبد الرحمن وألحقوا بعساكر الباشبوزق الشايقية هزيمة منكرة وأسروا منهم مائة وخمسين جندياً وغنموا أسلحة وذخيرة. وحاول غردون استعادة الحلفاية بحملة قادها إبراهيم فوزي فانهزم وعاد مثخناً بجراحه. وحاول غردون مرة أخرى استعادة الحلفاية الإستراتيجية الموقع بإرسال قوة كبيرة منيت بهزيمة أشد نكراً. في الوقت الذي استمرت فيه المناوشات بين الفريقين وصل الفوج الأول من جيش الأمير أبوقرجة في مايو 1884م الذي اصطحب معه أربع فرق من جنود كردفان بأسلحتهم النارية بالإضافة إلى حملة الأسلحة التقليدية الذين تزايدت أعدادهم في شواطئ النيل الأبيض. حين رأى غردون بنظارته المكبرة جحافل الثوار يقودها الأمير أبوقرجة تتقدم نحو الخرطوم انتابه الغيظ والغضب. كان يتمنى رؤية جيش آخر قادم من الشمال، إلا أن آماله خابت. فتجاهل رسالة أبوقرجة الداعية للتسليم.. والتي جاء فيها: "إني حضرت من قبل المهدي أميراً على البرين والبحرين. وقد أخذت فداسي وجئت إلى الخرطوم أنصح اهلها بالتسليم. فإذا سلَموا سلموا وأمنوا على أموالهم وأرواحهم. وإلا فلا بد لي من محاربتهم وأخذ المدينة منهم عنوة والسلام". ولكنه في وقت لاحق أفصح غردون عن هذا الغيظ في رسالة للأمير عبد الرحمن النجومي كشفت عن المزيد من جهله وعدم معرفته بطبيعة الثورة المهدية وعن السودان. ظن البلاد كما كانت عليه حينما عمل فيها خلال السبعينات. كانت كسيرة الخاطر مهانة ذليلة تحت حكم الأتراك الذي استمر حتى ذلك الوقت أكثر من خمسين عاماً. لم يدرك ما طرأ عليها بهذه الدعوة الجديدة. فقد انتفضت وألقت ما ران عليها خلال العقود ونهضت تنتزع حقوقها وحريتها بالسيوف. قال في رسالته أنه لا يراسل العبيد وقطاع الطرق السكارى. فات على مستشاريه أن الرجال الذين يحاصرونه من معادن أخرى.. أمثال الشيخ العبيد ود بدر والشيخ المضوي عبد الرحمن والشيخ مصطفى ود الأمين ود أم حقين. وهاهو الأمير أبوقرجة – بإرثه الصوفي السماني – القادم لتوه من بيت الله الحرام لا يستطيع غردون أن يقدح في شخصه المعروف لدى القاصي والداني في معظم أنحاء السودان. غردون كان غير مؤهل ليسب قيادات الثورة المهدية، العبَاد، الزهَاد، رهبان الليل، فرسان النهار. ففي الوقت الذي كان يسب فيه الناس كان غارقاً في دنان البراندي تلاحقه سمعته كقائد لجيش من المرتزقة جندهم التجار الأوربيون لحماية مصالحهم في الصين. ولكن الزمان كان زمان العهد الفيكتوري وعصمة الرجل الأبيض وقداسته وهو ينشر المدنية في أنحاء الأرض! كان الدفاع عن الإمبراطورية البريطانية واجباً على الصحافة والرأي العام. رفعوا غردون إلى مصاف القديسين ولا أحد يستطيع أن يقول غير ذلك، حتى بعد مرور وقت طويل. وحينما لم يعد الصمت ممكناً أمام ذلك المزاج العام العارم أخذت بعض الحقائق تتكشف عن شخصية ذلك البطل الفيكتوري المزيف. وذلك بعد أن ظل لأكثر من ثلاثين عاماً أشهر بطل قومي في بريطانيا. وقد قرأ يومياته التي كتبها في الخرطوم كل من يعرف الإنجليزية تقريباً.
الأمير أبوقرجة وإخوته الشهداء أو صولة بني عثمان السبعة (كتاب قيد الإعداد والطبع)
(2 – 3) أبوقرجة أمير البرين والبحرين حصار وتحرير الخرطوم مكي أبوقرجة [email protected]
غردون سلــَم ما ترجى دي حرابة الحاج أبقرجة "من أهازيج الأنصار"
لم يكن المشهد في لندن خالياً من الأصوات المعارضة لسياسة بريطانيا في السودان وقد طالب بعضهم قبل مقتل غردون بضرورة جلاء الحاميات المصرية من السودان، وترحيل الإداريين المدنيين. وحذروا من الوقوف في وجه المهدي الذي وصفوه ب "حاكم البلاد الإسلامي الشرعي"، وأعربوا عن توقعاتهم بوقوع الكارثة( ). أما اليسار البريطاني وأنصار السلام الذين حاولوا منع غزو واحتلال بريطانيا لمصر في عام 1882م اعتبروا غردون مجرد حصان في لعبة التدخل الإمبريالي في العالم. وعقب سقوط الخرطوم ابتهج الاشتراكيون البريطانيون "بعودة البلاد إلى أهلها الحقيقيين". وعبروا عن رؤيتهم السياسية بقولهم "إن طبقة الرأسمالية هي التي أشعلت الحرب في السودان. وذلك من أجل زيادة رقعة الاستغلال، وإن النصر الذي احرزه السودانيون هو انتصار للحق على الباطل حققه شعب يناضل من أجل حريته"( ). أصدر استراخي كتابه "فيكتوريون متألقون" الذي استمد كل معلوماته عن غردون من تشالي لونج الذي رافق غردون في مهمته الأولى وكشف بصورة جلية عن النقائص في شخصيته. قال إنه كان كاذباً تعتريه حالات نفسية تصل إلى حد الجنون. واتصف بالسرقة والقسوة التي تصل إلى درجة الوحشية أحياناً. ذلك بالإضافة إلى صفات أخرى تتجاوز تلك الصفات من ميول استعراضية وأفكار صبيانية وتصرفات خرقاء وانتهازية وتحوير للحقائق لدرجة الكذب بلا مواربة أحياناً. وتعتبر مثالاً حياً على مقدرة العقل على تحريف الحقائق وخداع نفسه( ). وكشف استراخي عن أن حكمدار الخرطوم أقام حفل استقبال بمناسبة وصول غردون في زيارته الأولى إلى الاستوائية. وقال أنه عقب مأدبة العشاء أُقيم حفل راقص ماجن اختلط فيه الجنود براقصات شابات عاريات تماماً( ).كما كتب آخرون لم يسايروا موجة تمجيده "كبطل مسيحي وقف وحيداً في وجه البرابرة القساة في قلب أفريقيا!!" فكشفوا عن شذوذه ومقارفاته غير السوية. وليت عالمنا الراحل البروفيسور التجاني الماحي لم يقدم رسائل "البطل الأسطوري!" هدية للملكة اليزابيث لدى زيارتها للسودان في عام 1965م. ففي بعض تلك الرسائل ما يفضح بجلاء سلوكه الأخلاقي. لم تكن جموع الأنصار غائبة عما يجري ويدور من محاولات لإقناع غردون بالتسليم فجادت قرائحها بالأهازيج التي ارتجلتها على الفور. وقد ظل بعضها حياً إلى وقتنا هذا يتداوله السودانيون جيلاً بعد جيل. ظلت تردد والحماس يملؤها طيلة أيام الحصار وحتى بعد تحرير الخرطوم. غردون سلـــــــــــــــم ما ترجــــــــــــــــــــى ودي حـــــــــــــــــرابة الحـــاج أبقرجـــــــــــة *** أمــــــــــــــــــــــــــانة في عينيـــــــــــــــــــــــــك قلبـــــــــــــــــــــــــــك شن قايـل ليـــــــــــــــك ضـــــــــــــــــــــوق الويكــــــــــــــــاب والويكة وأمـــــــــــــلأ أب رفــــــــــــــــاس تمليكة *** غــــــــــــــــــــــــــردون ســـــــــــــــــلم ما ترجى ودي حــــــــــــــــــــــــــرابة الحــــــــــاج أبقرجة *** أمانـــــــــــــــــــــة في بني عمـــــــــــــــــــــــــــــك والمــــــــــــــــــــــــــــولى زايــــــــــــــــــد همــك وكــــــــــــــــــــت الأنصــــــــــــــــــار اتلمــت الجـــــــــــــــــــــــــــــلة في قلــــــــــــــــب أمك *** غــــــــــــــــــــــــــردون سلـــــــــــم ما ترجى دي حــــــــــــــــــــــــــرابة الحـــــاج أبقرجة *** أم الغــــــــــــــــــــــــردون لا تنومـــــــــــــــــي جايــــــــــــــــــيك ود النجــــــــــــــــــــومي والمهـــــــــــــــــدي الســــــــــــــــايق القومي يخـــــــــــــــــــلو ديارك رومـــــــــــــــــــــــي *** غـــــــــــــــــــــــــردون سلــــــــــم ما ترجى ودي حــــــــــــــــــــرابة الحاج أبقرجــــــــة بعد أن رفض غردون الرد على رسالة أبوقرجة أدرك الأخير أن الرجل سادر في غيه غارق في أوهامه. فأقام معسكره في منطقة الجريف إلا أن مستشاريه نصحوه بأن بري أكثر إستراتيجية فارتحل إليها. وكان أول من شيد الطوابي المضادة لحصون الخرطوم. ثم وضع عليها المدافع وأقام الأبراج فأصبحت مراكب غردون هدفاً لقذائف الأنصار يطلقونها عليها من وراء الحصون وهي في طريقها إلى سنار. باتت المعارك بين الجانبين محدودة ولكنها أكثر عنفاً. فالفريقان بانتظار التعزيزات في سبيل المعركة الفاصلة. والواضح أن تعليمات المهدي لأبوقرجة هي تشديد الحصار حول المدينة والانتظار خارج بواباتها حتى وصول جيوشه المتمركزة في الرهد. ظلت معارك محدودة تدور بين الأنصار وعساكر غردون الذين يخرجون أحياناً من الطوابي أو يستقلون البواخر لمواجهة قوات أبوقرجة التي ركزت على تشديد الحصار والرقابة على المواد الغذائية وعدم دخولها إلى الخرطوم. تمركزت قوات الأمير شيخ فضلو أحمد في الزاوية الجنوبية الغربية فشيد طابية يعاونه الشيخ عبد القادر إبراهيم. وأخذا يقذفان المدينة بالنيران فيصيبان فيها أهدافاً. عندما تأكد لغردون أن أياماً عصيبة بانتظاره بعد أن توحد الثوار المحاصرون الخرطوم تحت قيادة الأمير أبوقرجة ظل بانتظار ارتفاع منسوب النيل الأزرق ليتمكن من استخدام الوابورات في معاركه المقبلة لفك الحصار. وفي 27/يوليو 1884م جرد جيشاً بقيادة الأميرالاي محمد علي باشا( ) وجيشاً من البازبوزق بقيادة خشم الموس بك لحصر ابوقرجة بين نيران القوتين ليتمكن من إخراجه من طابية بري التي تقدما إليها ودمراها ودمرا المنازل التي بجوارها. إلا أن الأنصار صمدوا لمدة ثلاثة أيام أبدوا فيها ضروباً من البسالة واحتقار الموت فاستشهد منهم ثمانمائة رجل وانسحبوا إلى الجريف. لم تفت انتكاسة بري في عضد الأمير أبوقرجة فكتب إلى الإمام المهدي يطلب المدد واستنفر الناس فلبوا نداءه وهرعوا إليه زرافات ووحداناً من كل فج. فشرع في بناء الحصون والقلاع لمنع البواخر من المرور إلى سنار فانتاب غردون قلق عظيم وقرر تجديد الهجوم على قوات أبوقرجة( ). أعد غردون قوة بحرية بقيادة محمد علي باشا وأخرى برية بقيادة خشم الموس بك. تقدما عبر بوابة المسلمية نحو الجريف مصممين على حرمان الأمير شيخ فضلو من نجدة أبوقرجة مثلما فعلا في معركة بري. ودارت المعركة يوم الثلاثاء 12/ أغسطس عام 1884م. وقال نعوم شقير( ) (ولا ننكر بأن أباقرجة وأنصاره هزموا في معركة الجريف غرب هزيمة نكراء على الرغم من استماتتهم التي شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء. وأجبر أبوقرجة إلى التراجع إلى قرية ود شكر الله. وبدأت فلول الأنصار المنهزمين تتجمع في تلك القرية. ثم أخطر المهدي بما حدث لهم في تلك الواقعة). وقال الدكتور علي عمر علي "أن المصادر أجمعت على أن أباقرجة عندما تراجع بقواته إلى النيل الأبيض كتب رسالة إلى الإمام المهدي يخبره بما حدث غير أني لم أعثر على هذه الوثيقة بين وثائق الأمير أبوقرجة فضلاً عن دفاتر الصادر. ربما تعرض هذا الخطاب للضياع لأن المهدي كان في حالة حركة وانتقال من الأبيض إلى الخرطوم. وتتجلى مكانة الأمير أبوقرجة عند المهدي حينما يرد عليه يطيب خاطره ويواسيه في الهزائم التي مني بها في حصار الخرطوم "لا تبتئس بما حصل فإن الله تعالى أراد أن يميز الخبيث من الطيب( )". كان وقع الهزيمة قاسياً على الأنصار، خاصة وقد ابلوا بلاء شديداً وفقدوا أعز الرجال وأشجع الفرسان. ولكن كلمات الإمام المهدي التي بعث بها إلى الأمير أبوقرجة في رسالته حملت كثيراً من المواساة وجبر الخاطر. في أثناء تلك المعركة الشرسة بلغ أبوقرجة أن دانة أصابت بيته في المعسكر وانطلق إلى هناك يمتطي جواداً ويقود آخر فتصايح الأنصار بأن هناك دانة تتجه صوبه فانقلب إلى ظهر الجواد الآخر فسقطت الدانة على جواده الأول فقتلته. وهكذا ظن الناس أنه قد قتل وسرت شائعة استشهاده فأضعفت معنويات الرجال. وفي الواقع كان قد أصيب إصابة خفيفة في فخذه. وعندما وصل إلى بيته – المبني من القش بالطبع – وجده حطاماً تلتهمه النيران. وقد قضت جارية له حبشية كانت حبلى بتوأمين خرجا من أحشائها حيين يتحركان.. ولكنهما توفيا في الحال.ونجت زوجته الحرم بنت حمزة التي كانت حبلى هي الأخرى، وعاشت حتى روت تفاصيل ذلك اليوم المشهود. كما عاشت أبنتهما آمنة التي كانت جنيناً لتصبح زوجة لوالدنا( ). قدم الشيخ محمد عبد الرحيم وصفاً للقوة التي أعدها غردون لدحر الأنصار وفك الحصار في الجريف. وقال إنها كانت تتألف من خمسة آلاف جندي بين نظاميين وباشبوزق بقيادة الأمير ألاي محمد علي بك حسين الشلالي، قائد اللواء السوداني الأول، يصحبه السر سواري خشم الموس بك الشايقي. تقدمت هذه القوة فجراً على خمس بواخر مدرعة بصفائح فولاذية، في كل منها بضعة مدافع. فهاجمت الأنصار بعد فراغهم من أداء الصلاة بإطلاق المدافع وأنزلت الجنود على الشاطئ ما عدا الطوبجية الذين يعززون هجوم المشاة بتسديد مقذوفاتهم من داخل البواخر وقد قابلهم الأنصار بثبات عجيب. واحتدمت الحرب وحمي ا########س. وما زالوا يتبادلون الكر والفر حتى أرخى الليل سدوله وتراجعت الجيوش إلى مواقعها. ولم يسفر ذلك اليوم عن نتيجة تذكر بل بات كل فريق منهما يراقب تحركات عدوه بعين الحذر. وما كادت الشمس تبرز حاجبها حتى بادر محمد علي بك بالهجوم على الأنصار الذين تصدعت طوابيهم بضرب المدافع المتوالي وسكتت مدافعهم وفتك بهم العدو واستشهد صفوة الرجال ومن بينهم نصر ومصطفى أخوا الأمير أبوقرجة وأصيب فرسه حتى سقط على الأرض فشاع في وسط الأنصار أن قائدهم قد قتل. فتراجعوا مخلفين نحو الفين وخمسمائة بين قتيل وجريح. وأشار محمد عبد الرحيم إلى سقوط الحاجة ست البنات أم سيف شهيدة ولا تزال تمسك سيفها بيدها. وقد غنم محمد علي باشا مقادير وافرة من الذرة بلغت ستمائة أردب والف بندقية و12 صندوقاً من الذخيرة وعدداً كبيراً من السيوف. (وتلك بالطبع كانت أسلحة الشهداء الذين تساقطوا على أرض المعركة). أثلج ذلك الانتصار صدر الجنرال المحاصر وانفتحت شهيته للمزيد. فبعد أربعة أيام بعث بقائد جيشه محمد علي بك لمهاجمة قوة الأنصار بالحلفايا التي كانت تتألف من أشياع الشيخ العبيد ود بدر بقيادة ابنه إبراهيم والشيخ المضوي عبد الرحمن فهزمها محمد علي بك. فتضاعفت بهجة الجنرال ومنحه رتبة اللواء. قدم يوسف ميخائيل القبطي( ) وصفاً شاعرياً لجماهير االشعب الزاحفة، التي صحبت الإمام المهدي من الرهد متوجهة إلى الخرطوم. هاجرت إليه من كل بقاع السودان بلا استثناء. وقال إنها أقوام لا تحصى ولا تعد. فكانت الجموع البشرية تتحرك بصعوبة بالغة لكثرتها. ولا يعرف لها أول ولا آخر. وكأنها قرعة تتأرجح على سطح الماء. رجالاً ونساءً.. منهم من يمشون راجلين وبعضهم يركبون الخيل والإبل، وآخرون يركبون الثيران والحمير. كانت تظاهرة مسلحة لم يشهد مثيلها التاريخ. وقال أن الحيوانات الوحشية كانت لا تجد لها مهرباً. فأينما تفر تجد أمامها الناس. فالغزلان ودجاج الوادي تلوذ بالأرجل وسرعان ما يتخطفها الرجال ذبحاً وتقطيعاً للأوصال. وقال إنه في كل مكان يتوقف فيه الناس عن المسير تقام الأسواق ويشرعون في البيع والشراء. وكان لا مناص من أن تفترق تلك الجموع فتسلك طرقاً ثلاثة. كان يوسف القبطي يحمل قربة للماء ليسقي مجموعته حين رأى الإمام المهدي يمتطي هجيناً وتحف به كوكبة من الأنصار يتناوبون حمل رجليه على الأكتاف حتى لا تتورم قدماه( ). ووصف الحماس الطاغي الذي بلغ بالأنصار حين وصلوا إلى النيل واختطف التمساح واحداً منهم فاستبشروا واخذوا يتصايحون في "شان الله.. في شان الله". وأخذوا في كل يوم يتعرضون عمداً للتماسيح المتربصة طلباً للشهادة فيجدون ما يبتغون، حتى علم الإمام المهدي بذلك فأصدر أمراً بمنع تلك البدعة القاتلة. ظل الإمام المهدي ثابتاً على منهجه. لم تبطره الجموع الزاحفة ولا الفرسان المدججين بالسلاح المستعدين للقاء الموت في كل لحظة كما لم يبطره الحماس الذي يفوق الوصف والإجماع الشعبي غير المسبوق. فأخذ يراسل غردون مجدداً وبإلحاح يدعوه للسلام. لم يكتف بتلك الخطابات التي بعث بها إليه هو وقيادات الحصار. كان يطلب منه التسليم لحقن دماء الناس وتجنب ويلات الحرب. وعرض عليه أن يعيده إلى وطنه سالماً إذا رغب في ذلك. ولكن غردون أصم بأذنيه. فقد كان قدره نافذاً. وفي الوقت نفسه بعث الإمام المهدي إلى قواته التي تحاصر الخرطوم ودعاهم إلى تشديد قبضتهم وأبلغهم أن وصوله إليهم بات وشيكاً. واتضح جلياً أن قوات المهدي أدركت تماماً أن لا محيد عن الحرب. كان عدد المحاربين الذين وصلوا في ركاب المهدي حوالي مائتي ألف مقاتل فضلاً عن زعماء القبائل الذي هرعوا إليه قبل مغادرة الرهد وانضموا إليه مع عائلاتهم. وصل ود النجومي إلى ضواحي الخرطوم واستنفر الناس لمساندة قوات الثورة وعسكر قبالة طابية الكلاكلة. وأقام الشيخ عبد القادر إبراهيم معسكره قبالة طابية المسلمية، بينما تمركزت قوات الأميرين عبد الله ود النور وعبد الحليم مساعد في منطقة بري للسيطرة على حركة الملاحة في النيل الأزرق ومنع تحركات بواخر غردون. وبعد استشهاد الأمير عبد الله ود النور وجه الإمام المهدي بانتقال النجومي إلى معسكر بري وحل ابوقرجة مكانه قبالة طابية الكلاكلة. وفي نداء الفرصة الأخيرة كتب الإمام المهدي لأهالي الخرطوم رسالة يحذرهم فيها ويدعوهم للنجاة بأرواحهم( ) "الم يأن لكم أن تميل قلوبكم إلى ما ينفعكم في آخرتكم ويجلب لكم الخير ويصرف عنكم الشر والضير. أو ترغبون النجدة والفرج عند الانكليز وتصرفون نظركم عن خالقكم الذي بيده أموركم وقوامكم وهو القوي العزيز. فما الانكليز وغيرهم أضعافاً مضاعفة بشيء في جنب قدرة الله التي يعجز عن وصف كنهها كل لبيب ونجيب. وما القوة إلا من عند الله القريب المجيب". أحكمت قوات الأنصار الحصار على الخرطوم وطوقتها من جميع الجهات. واستمر تبادل النيران بين الطرفين حتى سقطت حامية أمدرمان والتي بسقوطها بات موقف الخرطوم ضعيفاً حتى نضج القرار وصدر باقتحامها وتحريرها. وفي صبيحة الاثنين 9 ربيع ثاني 1302هـ (26 يناير 1885م) فوجئت قوات غردون بجحافل الأنصار تدك استحكاماتها وتلج مداخل العاصمة وتنتشر في شوارعها بين مهلل ومكبر. وانفتحت صفحة أول دولة وطنية في تاريخ السودان أقامتها الثورة الشعبية بحد السيف وبقيادة ملهمة ما زلنا لا ندرك لها كنهاً ولا نسبر لها غوراً.
الأمير أبوقرجة وإخوته الشهداء أو صولة بني عثمان السبعة (كتاب قيد الإعداد والطبع)
(3 – 3) أبوقرجة أمير البرين والبحرين حصــــار وتحـــرير الخرطوم مكي أبوقرجة [email protected]
غردون سلــَم ما ترجى دي حرابة الحاج أبقرجة "من أهازيج الأنصار" أدونا البكسمات يا بنية نتـغــــــــــدى والرصاص عوى وفوق العريب قجه يا رب كريم تخذل أب قرجـــــــــــــــة( ) حتى يوم الأحد 25/ يناير كانت الجارية المغنية فدلم بنت سليمان لا تكف عن ترديد هذه الأغنية المتفائلة. كانت تقلها سفينة تغص بالجواري حاملات الدفوف. تجوب عرض النيل الأزرق قبالة الخرطوم لرفع معنويات الجنود والسكان. وفي الوقت نفسه كان المجاهدون الأنصار المحاصرون للخرطوم ومن خلفهم نساء متحزمات يحملن العصي الغليظة يحمين ظهور الرجال ويرددون جميعهم غردون ســـــــلم ما ترجــــــــــــــى ودي حرابة الحاج أب قرجـــــــــة أما في ضحى اليوم التالي فقد أصبح الوضع مختلفاً حيث سقطت العاصمة في يد الثوار نهائياً وانتشروا في شوارعها مهللين مكبرين. كانت لا تزال أصوات الرصاص تئز ويتجاوب صداها وصيحات النصر تتردد وأهازيج الفرح يرددها الجنود المزهوون بنصرهم. وكان اسم أبوقرجة في السنة هؤلاء المتدفقين من بوابة بري. كان بعضهم قد انشغل فعلاً بالبحث عن الغنائم والبعض الآخر بدا وكأنه مكلف بمهمات محددة من بينها أسر شخصيات مسؤولة في الدولة التي هوت. وكان قد تأكد مقتل غردون عندما رفعت مجموعة رأسه على سنان رمح طويل ليتوقف جنوده عن المقاومة. بينما كانت جثته أمام القصر ملقاة عبارة عن كتلة من اللحم والدم بعد أن مزقتها رماح الثوار. في تلك اللحظات التي تعقب فتوح البلدان والدماء لا تزال تقطر من السيوف وغبار المعارك يحجب ضوء الشمس حيث يختلط الحابل بالنابل وترتخي قبضة القيادة وتعجز عن السيطرة على الجنود المندفعين في مدينة مستباحة اقتيد إبراهيم فوزي باشا محافظ الخرطوم ورئيس أركان حرب الحكمدارية والرجل الثاني في السلطة التي انهارت جريحاً مصفداً بالقيود ممزق الثياب يائساً من الحياة يدفعه جنود أشداء أبطرهم النصر والظفر بعدوهم بعد طول حصار. كان الأمير أبوقرجة القائد الفاتح في كامل عدته وزيه العسكري.. واقفاً بقامته الفارعة وسمته المهيب ولما يزل في عنفوان الرجولة حيث لم يكن قد تجاوز الخامسة والأربعين من عمره إلا بقليل.. كان يعتمر خوذة ويرتدي درعاً خفيفاً ويتمنطق سيفاً وينتعل نعلين خفيفين ويحيط به عدد من الأمراء وكبار ال######## عندما ادخل إليه الباشا مدير الخرطوم.. وكانت أنباء مقتل غردون ترددها الألسن، والأهازيج التي لا يخلو منها – اسم الأمير أبوقرجة تترامى إلى مسامع القائد ومن حوله.. والهرج والمرج يسودان المكان. دفع أحد الجنود بالأسير إبراهيم فوزي أمام القائد فوصف تلك اللحظات الحاسمة في تاريخ حياته في كتابه "السودان بين يدي غردون وكتشنر" الذي قام بتأليفه بعد عودته إلى القاهرة في أعقاب أسر طال واستغرق عمر الدولة المهدية بأكمله. قال الباشا الأسير أنه ابتدر الأمير الفاتح بالتحية فرد عليه بأحسن منها مما بعث الاطمئنان في نفسه. كما كانت لبشاشته البادية على محياه رغم تلك اللحظات النادرة في حياة القادة الفاتحين فعل السحر في نفس الأسير المضطربة والتي استيقنت دنو الأجل. التفت الأمير أبوقرجة إلى الجنود الحراس واستفسرهم عن شخصية الأسير. تقدم إليه رئيسهم وأسر إليه قولاًُ "فالتفت إلىَ في سكينة وحنان فأمر بفك وثاقي ففعلوا ثم أمرني بالجلوس على الأرض ففعلت وكنت في أشد حالات الظمأ وآلامه. فقلت له يا سيدي أأتجاسر بطلب شربة ماء قبل الممات. فرد عليَ قائلاً "أبشرك بكل خير". وأمر أحد الغلمان بإحضار شراب من العسل الممزوج بالماء" فقدمه إلىَ إلاَ أنه لم يطفئ ظمأي واشتدت حاجتي إلى الماء فأعدت إليه الرجاء بطلب الماء فأمر لي بشراب "الآبريه" الذي يغذي ويزيل الظمأ فتناولت منه قدر حاجتي.. وبعد برهة التفت إلىَ مخاطباً: أن الدنيا فانية وزمان المهدي ليس كما تقدمه من الأزمان والمال أصبح ملكاً له ومن أخفاه وقع في معصية الله". أنكر إبراهيم فوزي أن يكون لديه مال يؤخذ لبيت مال المسلمين فصدقه الأمير أبوقرجة وأطلق سراحه واستضافه في منزله ليلتين وبالغ في إكرامه إلا أنه لم يسمح له بمشاركتهم الطعام رغم أن مائدته كانت تضم ثلاثين رجلاً. قال إبراهيم فوزي أن الأمير أبوقرجة اعتذر إليه عن عدم تناول الطعام معه لأنه لم يبايع الإمام المهدي بعد ولم ينخرط في زمرة الأنصار. قبيل ساعات من أسره كان إبراهيم فوزي المرافق الوحيد للجنرال غردون باعتباره الرجل الثاني في السلطة الإدارية وكانت لا تزال أصوات المدافع التي وجهت قذائفها نحو الخرطوم من حامية أمدرمان بزعامة الأمير حمدان أبو عنجة ترن في أذنيه. وكان المهدي قد وجه بإطلاقها حتى يتسنى لجيشه عبور النيل الأبيض في تلك الليلة لأنه كان قد اتخذ قراره بفتح الخرطوم صبيحة الاثنين 8 ربيع ثاني والموافق 26 يناير. روي إبراهيم فوزي أنه في ليلة الفتح صحب غردون قناصل الدول الأوربية إلى سطح قصر الحكمدارية واخذوا يتطلعون بالنظارة المكبرة إلى أمدرمان لتقصي الأسباب التي دفعت الثوار إلى إطلاق القذائف نحو الخرطوم فلفت أنظارهم عبور حوالي 15 ألف فارس من معسكر أبو سعد. وكانت مقدمتهم قد وصلت بالفعل إلى معسكر الأمير عبد الرحمن النجومي على الجانب الشرقي من النيل الأبيض. تبادر إلى ذهن الجنرال غردون أن الإمام المهدي عبر النيل ليتولى القيادة العامة على جيوشه ليهاجم الخرطوم. امتطى غردون صهوة جواده وخرج إلى مواقع قواته يصحبه إبراهيم فوزي وأمضى أربع ساعات يحاول أن يبث الشجاعة والثبات في نفوسهم. لم تجد كلمات غردون صدى في نفوس جنوده اليائسين فأيقن بسقوط المدينة وطلب من القناصل أن يستقلوا باخرة كانت معدة للهروب إلاَ أن القناصل أحسوا باستحالة تنفيذ عملية الخروج من الخرطوم التي أحيط بها من كل جانب. وصف فوزي اللحظات الأخيرة للجنرال الذي تراجع عن فكرة الانتحار وبدأ متماسكاً رغم الإحساس بأن أمراً جللاً وشيك الحدوث ومن ثم أمر بإقامة عرض للألعاب النارية لتهدئة الخواطر وفي محاولة لإرهاب الثوار. وقد رأى المؤرخ محمد عبد الرحيم الذي كان من بين المحاصرين تلك الألعاب تبدو في الأفق في شكل بهيج بيضاء حمراء خضراء فظن هو ورفاقه أن ثمة مهرجاناً أقيم ابتهاجاً بقدوم حملة الإنقاذ البريطانية. أما في المعسكر الآخر فقد كان المهدي ماضياً في عزمه غير مكترث بما شاع عن قرب وصول الإنجليز فاستدعى خلفاءه الثلاثة ومائتين من أمراء الحصار وأبرزهم أبوقرجة والنجومي وشيخ فضلو أحمد وشايب ومكين ود النور. اجتمع بهم وارتجل خطبة قصيرة بين فيها فضل الجهاد وتحدث عن البشارة المحمدية بفتح الخرطوم صبيحة تلك الليلة، وجدد معهم البيعة ثم التفت إلى الخرطوم وكبر ثلاث مرات وأمرهم بالانصراف بعد أن حذرهم من قتل بعض الشخصيات وفي مقدمتهم غردون باشا والشيخ محمد السقا والشيخ الأمين الضرير. لم يلبث الإمام المهدي أن استدعى الأمير محمد ود نوباوي زعيم قبيلة بني جرار وأوصاه بقوله "لدى دخولك المدينة يجب أن تتوجه نحو سراي غردون على الفور وتبلغه تحيتي ثم تحافظ على حياته ولا تدع أحداً يعتدي عليه حتى توصله إلينا سالماً دون أن يصيبه مكروه. وقد رددت عدة مصادر ان المهدي كان يريد أن يفدي به أحمد عرابي الذي نفاه الانجليز إلى جزيرة سيلان بعد هزيمته في التل الكبير. كان الخلاف قد بلغ ذروته بين الأمير أبوقرجة من جهة وبقية القادة العسكريين الآخرين من جهة أخرى حول الهجوم على الخرطوم فكتب أبوقرجة رسالة إلى الإمام المهدي تتضمن استقالته وتنازله عن القيادة وذلك بعد أن رفض الجميع اقتراحه بمهاجمة الخرطوم. كان ذلك في يوم 24 يناير 1885 قبل يومين فقط من الفتح. كان أبوقرجة يرى ضرورة الهجوم الفوري على العاصمة التي أضناها الحصار، الذي كان هو مهندسه الأول بلا جدال. وضرب مثلاً بغزال أنهكه الصياد بالمطاردة حتى أوشك على الظفر به أيتركه ويطارد غيره أم يجهز عليه بعد أن هدَه التعب. نسب نعوم شقير هذا المثل لرجل من الحاضرين في المجلس من غير العسكريين ونقله عن مصدر مغمور. إلا أن اباءنا( ) كانوا يؤكدون أن أبوقرجة هو الذي ضرب هذا المثل. ولا غرو فهو الذي كان يمسك بخيوط الحصار الذي ظل يمارسه بجدارة كراً وفراً حتى تكاملت الجيوش. ولولا انضباطه العسكري الصارم لاقتحم الخرطوم في وقت جد باكر. وقد كان هناك رأيان آخران الأول هو رفع الحصار والانسحاب إلى كردفان لاستدراج حملة الإنقاذ القادمة وقد استبعد هذا الرأي من البداية الأولى. والرأي الثالث كان هو التقدم شمالاً لملاقاة الحملة قبل وصولها. رد الإمام المهدي على رسالة الأمير أبوقرجة التي لم يعثر عليها المؤرخون – في نفس اليوم. يرفض فيها استقالته بصورة ضمنية. ويذكره كما جاء في متن الرسالة بأن البلوى بألسنة الناس امتحان من الله لعباده الصالحين. ويشير إلى رفض طلبه بالتنازل عن القيادة والرئاسة للتفرغ للعبادة. ثم يخطره بأنه مرضي عنه وأن له مكانة عظيمة عنده وعند الخلفاء ويبلغه بأنه اختاره لقيادة القوات المرسلة لملاقاة الجردة الانجليزية وحصرها. وقد استحسنا مع الخليفة عبد الله والخليفة شريف وبقية الأصحاب من النواب وغيرهم توجهك إلى الجردة متولياً على من يسير من هنا ومن هناك تنظروا فيها إن لزم محاصرتها وتحاصرونها كهكس فتحصروها من التصرف في الحلال حتى تصل إلينا أو ما تروه فيها. فقد يرى الحاضر ما لا يراه الغائب، والسلام". إلاَ أن الإمام المهدي لم يلبث أن عاد إلى مقترح الأمير أبوقرجة بالهجوم على الخرطوم وفتحها عنوة. وذلك بعد أن وجه رسالة للخليفة عبد الله حول الخلاف بين أبوقرجة وبقية القادة بديم الهوى بالخرطوم. ويرجو منه أن يفض النزاع. ويبدو واضحاً أن الخليفة عبد الله كان يميل للرأي الذي يعارضه الأمير أبوقرجة. فأما الأمر الذي عزز رأي الأمير ابوقرجة هو فرار سنجق من الباشبوزق يدعي عمر بك ود الفقيه إبراهيم الملقب بغرة العينين( ) من أهل الخرطوم( ) الذي كان مطلعاً على أحوالها. فدل عليها وخاصة نقاط الضعف في استحكاماتها. فجمع المهدي مجلس الشورى في نفس اليوم - السبت 24 يناير - وأطلعهم على التطور الأخير ثم لم يلبث أن وصل أحد الهجانة من المتمة في يوم الأحد 25 يناير وأخبر المهدي بأن وابورات الإنجليز خرجت من القبة فجر السبت متجهة نحو الخرطوم فقرر المهدي الهجوم على الفور.
|
|
|
|
|
|