الأسري في موازنات الصراع بين الحركات المسلحة والإنقاذ
شاهدنا في الإسبوع الماضي إطلاق سراح الأسري من جانب الحركة الشعبية والإنقاذ أدخلت الفرح والسرور علي أهاليهم فبعضهم وكأنهم قد بُعثوا من الموت بعد أن شاع كذبا ونفاقا وتضليلا أنهم إستشهدوا وماتوا. صفقة تبادل الأسري التى تتم بين الحركات والإنقاذ في ظاهرها إبداء للنوايا الحسنة و رمزية للرغبة في التفاوض لإيجاد حل للمشكلة وفي باطنها وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية في العملية التفاوضية. ما يصعب متابعته في ملف الأسري طيلة سنوات الإنقاذ هو علي ماذا بُنِيت مطالب إطلاق سراح الأسري وكيفية الإلتزام بما أُتفق عليه أو ما يترتب عليه عملية إطلاق سراح الأسر؟ تعامل نظام الإنقاذ مع الأسري تعامل يخالف الأعراف والقوانين الدولية وهو ما إعترفت به الإنقاذ صراحا بنهج "أكسح أمسح ما تجيبوا حي وما تعمل لينا عبء إداري" أو إنكار عدم وجود معتقلين وأسري. وفي ٢٠٠٣ وفي مدينة الإبيض أصدر البشير توجيهاته لمليشيات الدفاع الشعبي أنه لايريد أسيرا أو جريحا. علي النقيض من ذلك تماما التزمت الحركات المسلحة بالقانون الدولي في معاملة الأسري. تاريخيا أكبر عملية لأطلاق سراح الأسري أعلنها ونفذها الراحل جون قرنق عقب توقيع إتفاقية نيفاشا وبلغ تعداد المفرج عنهم أكثر من ألف أسير.
شاهدنا إعتقالات قوات حركة العدل والمساواة بعد فشل عملية الذراع الطويل التى إستهدفت معقل الإنقاذ. وهي عملية شجاعة وقوية وضّحت مدي إيمان وعزيمة المرحوم الشهيد خليل إبراهيم. فقد كانت تجسيدا فعليا لشعار حركة العدل والمساواة في مؤتمرها السابع والذي يقول " كل القوة الخرطوم جوة". وكانت كذلك فى عملية عسكرية قوامها أكثر من مائتي عربة تاتشر محملة بالاسلحة والرجال قطعت مسافة ألف وستمائة كيلومترا عبر طرقا صحراوية وعرة من غرب السودان حتى خارت قواها علي الضفة الغربية من النيل الأبيض في محاولة لعبور النهر للوصول إلي قلب الخرطوم. إعتقلت الإجهزة الأمنية للإنقاذ أكثر من مائة وخمسون فردا من قوات العدل والمساواة من بينهم عبد العزيز نور عشر والذي أطلق سراحه الأسبوع الماضي بعد فشل عملية الذراع الطويل في مايو ٢٠٠٨. منذ ذلك التاريخ، إذا إستثينا فترة ما قبل نايفاشا، وقع في يد الإنقاذ كرت هام جدا إسمه كرت الأسري إستخدمته لاحقا في شق وحدة الحركات المسلحة وورقة ضغط في جولاتها التفاوضية معها. معتقلي عملية الذراع الطويل بالإضافة لمعتقلي معركة قوز دنقو يمثل أكبر مجموعة من الأسري من الحركات المسلحة المعارضة للإنقاذ.
بعد إعلان حوار الوثبة والذي تحاول الإنقاذ من خلاله إحكام قبضتها وضمان إستمراريتها بتجريد الحركات العسكرية من سلاحها عبر الألية الإفريقية ورعاية المجتمع الدولي، تم عدد من التفاهمات السرية والعلنية ومناشدات لإطلاق سراح الأسري لدي الجانبيين. بإعتبار ان عملية إطلاق سراح الأسري يمكن أن يكون بادرة نوايا حسنة لتهيئة المناخ تجاه الوصول لحل سياسي عن طريق التفاوض. وعلي الرغم من أن واحدة من شروط نداء السودان والذي تنضوي تحته مجموعات الحركات العسكرية او ما يسمي بالجبهة الثورية، هو إطلاق سراح المعتقلين كشرط من شروط تهيئة المناخ إلا أنه لم يكن من بينهم دعوة صريحة لإطلاق سراح أسري الحرب. وفي كثير من الإحيان يتم الإشارة لولئك المعتقلين السياسيين بالإسم دون أن يذكر من بينهم أسم من أسماء أسري الحرب. فتحت بعض المجموعات التى تحسب علي النظام كمجموعة سائحون ومن يسمون أنفسهم بمجموعة إسناد الحوار وبعض قادة الصوفية نوافذ للتواصل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وحركة العدل والمساواة لفتح ملفات الأسري. مجموعة سائحون وإسناد الحوار كان دافعهم لإطلاق سراح الأسري لدي الحركة الشعبية هو عدم التخلي عن رفقائهم من مليشيات الدفاع الشعبي المخدوعين تحت مسمي الدبابين والمجاهدين. هؤلاء كانوا يرون أنهم قد خُدعوا بمشروع الإنقاذ الزائف والذي إنتهي بإحتكار إخوانهم في المؤتمر الوطني للسلطة والسكن في قصور كافوري والذين وجدوا أنهم كانوا وقودا لذلك ممثلا في زملائهم الأسري لدي الحركات المسلحة المعارضة. كان اول لقاء بخصوص إطلاق سراح الأسري جمع الحركة الشعبية وسائحون في اديس أبابا في الفندق الذي ضم قوي السودان مع تابو إمبيكي. ففي بيان قصير بعد أيام من تلك المفاوضات أصدرت الحركة الشعبية بيانا قالت فيه أنها وإستجابة لمناشدة من سائحون ستقوم بإطلاق سراح عدد من الأسري المحتجزين لديها. بالطبع كان للحركة الشعبية حساباتها من تلك الخطوة والتى لم ولن تفصح عنها سوي ما أعلن عنه بأنه إستجابة لنداء من مجموعة سائحون. علي أية حال نعتبرها خطوة إيجابية في حد ذاتها وعلي طريقة قدم السبت عشان تلقي الأحد او خطوة في تهيئة المناخ للحوار مع الإنقاذ.
رجع ممثلوا سائحون للخرطوم وهم يطيروا من الفرح بالوعد الذي وعدتهم به الحركة الشعبية ولكنه وضع عليهم عبئا لإحداث إختراق داخل حزب البشير الذي تتحكم فيه القبضة الأمنية والتى ايضا تتحكم في مسارات حوار الوثبة وفتح مسارات الإغاثة الإنسانية. بالفعل اوفت الحركة الشعبية بوعدها وأعلنت عن أطلاق سراح عشرون معتقلا. وبالفعل إستلم الصليب الأحمر الأسري العشرون وكانت الطائرة التى تقلهم إلي الخرطوم علي أهبة الإقلاع إلا أن الإنقاذ رفضت إستلامهم في اللحظة الأخيرة. الأسباب التى أعلنت في ذلك الوقت لم تكن مقنعة للمراقب والمتابع لهذه العملية. السبب الذي رشح في أوساط الإنقاذ هو عدم مشاركة جهاز الأمن في عملية التفاوض والإستلام. سبقت عملية إطلاق سراح الأسري زخم إعلامي كبير كان عاملا ضاغطا علي نظام الإنقاذ. خاصة وان من بين الأسري من إتضح أنهم علي قيد الحياة خلافا لما أعلنته مليشيات الإنقاذ أنهم شهداء شبعوا موت.
نرجع بالزمن لنري ماذا فعلت الإنقاذ بأسري العدل والمساواة من عملية الزراع الطويل المعتقلين منذ مايو ٢٠٠٨. إستخدمتهم الإنقاذ في خلق الفتنة والشك بين الحركات الدرافورية لإضعافها و تفتيت وحدتها لكسر شوكتهم العسكرية. مستخدمة في ذلك الخلافات القبلية. بعد عامين تقريبا من عملية الذراع الطويل وقعت الإنقاذ مع حركة العدل والمساواة علي إتفاقًا إطاريا في الدوحة نصت الفقرة الثانية منه علي إصدار عفو عام بحق أعضاء حركة العدل والمساواة وإطلاق سراح أسري الحرب من كلا الجانبين. إلتزمت حركة العدل والمساواة بالإتفاق الإطاري وأطلقت سراح ما لديها من الأسري. لكن تنصلت الإنقاذ مما إتفقت ووقعت عليه رغم إعلان رأس الإنقاذ العفو عن ١٠٦ من معتقلي الحركة. بعد مرور ثلاثة أعوام من الإتفاق الإطاري لم يتم إطلاق سراح الأسري سوي ٥١ منهم فقط لتواصل الانقاذ في التسويف والمساومة لتفتيت وحدة الحركة وتماسكها. وإمعانا في عدم الإلتزام بالإتفاق الإطاري مع الحركة أصدرت الإنقاذ حكما بالإعدام علي إبراهيم الماظ دينق نائب رئيس الحركة وستة آخرون (وهو بالطبع لم يشمله عفو الإتفاق الإطاري). وعلي مدي فترات الإعتقال مارست الإنقاذ حربا نفسيه علي إبراهيم الماظ وحركته بتحويله لزنزانة الإعدام تمهيدا لإعدامه ثم العدول عن تنفيذ الحكم في اللحظات الأخيرة. إبراهيم الماظ دينق تم إعتقاله فى يناير ٢٠١١ في غرب دارفور وقد كان كادرا نشطا في المؤتمر الشعبي الذي إستقال منه بعد ثلاثة أشهر من عملية الذراع الطويل لينضم لحركة العدل والمساواة.
قُبيل معركة قوز دنقو وفي مارس ٢٠١٥ أطلقت الأنقاذ سراح خمسة من أسري عملية الذراع الطويل لصالح فصيل منشق عن حركة العدل والمساواة وواحدا من الفصائل الوقعت معه علي إتفاقية سلام. وبعد معركت قوز دنقو ملأت الإنقاذ سجونها بمزيد من أسري الحرب بأسر ٣٤٠ أسيرا من قوات العدل المساواة في أبريل ٢٠١٥. مع إزدياد أعداد الأسري زادت أهمية ورقة الأسري في اللعبة السياسية بين الحركات والإنقاذ. وأن اية مبادرة لإطلاق سراح مجموعة من الأسري كانت تأتي في إطار إبداء النوايا الحسنة لتهيئة مناخ ملائم للحوار وإحلال السلام. ولم تتم في إطار عملية تبادل للأسري أو كورقة ضغط لتقديم تنازلات في جولات التفاوض بين الإنقاذ ومعارضيها من حملة السلاح. في سبتمبر ٢٠١٦ أعلنت حركة العدل والمساواة الإستجابة لمناشدة من أحد شيوخ الصوفية وإطلاق سراح المعتقلين لديها. الرسالة كانت واضحة أن الحركة لا مانع لديها للجلوس لحوار متكافئ مع الانقاذ وأنها تنتظر من الإنقاذ أن يقابل ذلك بإطلاق جميع معتقلي الحركة. جاء الرد سريعا من رأس الإنقاذ في احتفال في الفاشر حضره الرئيس التشادي والأمير القطري أعلن فيه إطلاق سراح بعض المعتقلين صغار السن الذين أعتقلوا في قوز دنقو.
في مفاوضاتها مع الالية الإفريقية و الولايات المتحدة لم تتعرض الحركة الشعبية لإطلاق سراح أسري الحرب في سجون الإنقاذ. كما لم تطالب الإنقاذ الحركة الشعبية بإطلاق سراح أسراها لديها. ما كانت تتطالب به الحركة مع حلفائها في نداء السودان هم المعتقلين السياسيين من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى والمدنيين والذين كانت تسميهم بأسمائهم في بياناتها. في الرابع من مارس أعلنت الحركة عن إطلاق سراح ١٣٠ من الاسري بوساطة من موسيفينى كضامن لجانب الإنقاذ بتمثيل من نجودي قدح الدم في عملية التسليم. خطوة إطلاق الأسري هذه جاءت في إطار إبداء النوايا الحسنة كما صرحت الحركة بذلك وبالتالي الوفاء بالإلتزام لمجموعة سائحون لإقناع النظام بتقديم تنازلات من جانبه أيضا بخصوص خارطة الطريق وفتح المسارات الأنسانية عن طريق إستخدام نفس الممر الخارجي الذي إستخدم في عملية إطلاق الأسري. وبدلا أن تقابل الإنقاذ مبادرة الحركة الشعبية بتقديم تنازلات فيما يخص فتح مسارات الإغاثة الأنسانية او شروط تهيئة الحوار، أطلقت الإنقاذ سراح ٢٥٤ معتقلا من حركة العدل والمساواة وألحقتهم بستة آخرون من حركة تحرير السودان جناح مناوي.
تفاجأت الحركة الشعبية بتلك الخطوة واعربت عن دهشتها في بيان أصدرته في ١٠ مارس عندما لم تجد أسراها من ضمن المفرج عنهم وعلي رأسهم عمر فضل تورشين. كما أنها أيضا تفاجأت من عدم إلغاء النظام حكم الإعدام علي قادة الحركة الشعبية في إطار مبادرة النوايا الحسنة. هذه هي طبيعة وإستراتيجية النظام وهو أنه غير جاد في موضوع الحوار و يستخدم ملفات الأسري من منظور موازنات قبلية وسياسية لها تأثير مباشر علي العلاقة بين مكونات المعارضة السودانية المسلحة والمدنية.
لازالت هناك العديد من الأسئلة التى تحتاج لإجابة: هل بادرت الحركة الشعبية والعدل والمساواة بلإفراج عن المعتقلين من أجل إبدا حسن النوايا وتهيئة المناخ للدخول في حوار مع الإنقاذ؟ أم إرضاء ونزولا لرغبة مجموعة سائحون وقادة الصوفية كوسيط لإقناع الأنقاذ بتقديم تنازلات لمصلحة الحركات المسلحة؟ هل ملف الأسري كان عائقا او شرطا لفتح مسارات الإغاثة الإنسانية؟ وهل أطلق النظام سراح الأسري لمقابلة مبادرة الحركات المسلحة من منطلق حسن النوايا أم من أجل تجميل صورته أمام المجتمع الدولي خلال فترة السماح لرفع الحصار الإقتصادي؟ ماذا كانت تنتظر الحركة الشعبية من النظام مقابل إطلاق سراح الأسري لديها وهل خابت ظنونها فيه بانه لم ينفذ ما وعد به أو ما توقعت أن ينفذه؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة