|
الأزمة الاقتصادية.. إلى أين نحن مساقون؟ محجوب محمد صالح
|
الأزمة الاقتصادية.. إلى أين نحن مساقون؟
محجوب محمد صالح
على مدى يومي السبت والأحد الماضيين ظل المئات من الاقتصاديين والساسة ورجال المال والإعلام يتداولون في مؤتمر اقتصادي انعقد في الخرطوم حول أزمة الاقتصاد السوداني وخرجوا ليل الأحد ببيان ختامي تضمن توصيات لمعالجة الأزمة الحالية استهلوها باعتبار حديث رئيس الجمهورية الذي أدلى به في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر جزءاً لا يتجزأ من توصياتهم.
كثيرون -ونحن منهم- يرون أن الأزمة ليست اقتصادية بل هي في المقام الأول أزمة سياسية والمشاكل الاقتصادية الراهنة هي نتيجة طبيعية للأزمة السياسية وأنها أهم تجليات تلك الأزمة السياسية الخانقة ولن تزول مشاكل الاقتصاد إلا بمعالجة الأزمة السياسية وإذا كانت الحقبة البترولية التي وفرت للحكومة دخلا ريعيا مفاجئا مكنها من خلق واقع اقتصادي افتراضي يساعدها على تجاوز الأزمة السياسية مؤقتا فإن تلك المرحلة الطارئة قد انتهت بانفصال جنوب السودان وخروج عائدات النفط معه وعدنا إلى المربع الأول وإلى الاقتصاد المأزوم ولا بد من استصحاب الواقع الحالي بكل تعقيداته وارثه السلطوي الذي ما زال يزيد الأزمة السياسية تصعيداً
وقد تابعت توصيات هذا المؤتمر واحدة واحدة فلم أجد فيها توصية اقتصادية جديدة أو مبتكرة أو غائبة حتى عن بال صناع القرار الاقتصادي في السودان، فكلها توصيات تم اجترارها وتكرارها في نصائح وصلت إلى الحكومة حتى من بعض مسؤوليها من الاقتصاديين ولكنها جميعا اصطدمت بالاستراتيجية السياسية التي خلفت هذا الواقع المأزوم وسدت كل السبل للتغيير والإصلاح.
ولا نظن أن هذه الحقيقة كانت غائبة عن أذهان المؤتمرين بل وقد نبههم الكثيرون قبيل انعقاد المؤتمر إذا كانوا في حاجة لتذكير، لكن الاهتمام بها في توصيات المؤتمر لم يعكس هذه القضية المحورية بالصورة المطلوبة. ولكيلا نظلم المؤتمر فقد تم التعرض لهذه الإشكالية بصورة معممة وعرضية في توصية واحدة هي التوصية الثالثة عشرة التي تقرأ:
(13- أمن المؤتمرون على ضرورة تحقيق الوفاق الوطني والتعايش السلمي كمدخل لتحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية).
- لقد تمت الإشارة هنا على استحياء إلى قضيتين أساسيتين لن يتم إصلاح اقتصادي دون أن يتحققا: أولهما الوفاق الوطني الذي يتطلب بالضرورة إنهاء احتكار فصيل سياسي واحد للسلطة والثروة وإدارة الدولة وفق رؤاه وحسب سياساته التي صنعت الأزمة الاقتصادية والأزمات الأخرى الاجتماعية والثقافية والأمنية التي نعاني منها اليوم، ولن يتحقق الوفاق الوطني ما لم يتم تفكيك دولة الحزب الواحد وقيام دولة يشارك الجميع في صناعتها ويعمل على إدارتها الناس بمختلف فئاتهم وأفكارهم ومواقعهم وتعدد رؤاهم فهذا شرط وجوب لن يتم أي علاج لأزماتنا في غيابه،
أما الأمر الآخر الوارد في التوصية وهو التعايش السلمي فيتطلب إنهاء سيناريو الحروب الأهلية الحالي وإزالة الاحتقان السياسي السائد، ولن يستطيع اقتصاد الوطن المنهك والهش أن يتحمل تبعات حرب تبتلع كل إمكانات الدولة المالية فتأكل الحرب الموارد وتطالب بالمزيد وأنتم تجتمعون في مؤتمركم هذا والحرب تتواصل والقتلى يتساقطون والمرافق العامة تدمر وفاتورة الإنفاق الحزبي والأمني تتصاعد والتهديد بصيف ساخن يعج بالمعارك تتواصل.
وفي اللحظة التي كان الناس يطالعون فيها البيان الختامي للمؤتمر الذي وردت ضمن مخرجاته توصية تدعو إلى خفض الضرائب والرقابة على الأسعار كان البرلمان يجيز قراراً بفرض ضريبة جديدة بأثر رجعي، ويردف وزير المالية ذلك بالقول إنه تحت الظروف الحالية لا مخرج من أزمة الاقتصاد إلا بزيادة الضرائب والجمارك، وطبعا هذه الزيادة بدورها ستزيد الأسعار وبذلك تكون بعض توصيات المؤتمر قد لحقت بها الهزيمة قبل أن يجف المداد الذي كتبت به.
لا نقلل من الجهد المهني الذي بذله المشاركون في المؤتمر ولكن لا نتوقع نتائج ترجى من التوصيات المهنية التي صدرت عنهم والتي تكررت مرارا من قبل لأن الأزمة في أساسها أزمة سياسية انعكست سلبا على الاقتصاد وما لم يتم معالجة الأزمة السياسية فستظل الحلول الاقتصادية المطروحة مجرد حرث في البحر.
ونحن الآن على أعتاب ميزانية جديدة لعام مالي جديد يبدأ بعد خمسة أسابيع، ونتوقع أن تأتي الميزانية القادمة مجافية ومناقضة لكل توصيات المؤتمر وقد وضحت معالمها من تصريحات وزير المالية التي تتوعدنا بمزيد من الإجراءات القاسية دون أن يبالي بالتكلفة السياسية الغالية لحزمة الإجراءات السابقة واستحالة الحياة لو طبق إجراءاته الجديدة..
فإلى أين نحن مساقون؟
|
|
|
|
|
|