القانون ليس ملكية خاصة للمحامين، والعدالة ليست حكرا على القضاة والمحلفين. في التحليل النهائي، العدالة الحقيقية ليست مسألة تقتصر على المحاكم وكتب القانون، ولكنها تعني الإلتزام بالحرية والاحترام المتبادل. جيمي كارتر قام السيد وزير العدل بتشكيل لجنة من رجال القانون بغرض تعديل أحكام قانون النظام العام، وهو قانون في تقديري بالغ السوء ومستوجب للإلغاء، وقد كتبت عن ذلك كثيراً من قبل. في محاولة لمساعدة الزملاء في اللجنة المذكورة، وإشراك الجمهور في هذه المسألة، قررت أن أنفض الغبار عن ما سبق ونشرته في زمن سابق في هذا الموضوع، وأعيد نشره، إيمانا مني بأن التشريعات وتعديلاتها لا يجب أن تتم في الغرف المغلقة، بل يجب أن تطرح للنقاش العام، حتى يعرف المشرع مدى مقبولية ما يشرعه من أحكام لدى من سيتم تطبيقها عليهم. قانون النظام العام الحالي هو قانون ولائي، صادر من المجلس التشريعي لولاية الخرطوم، (قانون ولائي رقم (5) سنة 1996م )، وهو قانون صدر في أكتوبر من عام 1996ولكنه فى الواقع كان إعادة إصدار لقانون النظام العام لعام 1992 بعد أن أضيفت له بعض المخالفات التي كانت متناثرة في أوامر محلية مختلفة. وهو قانون قصد به المحافظة على القيم التى عيّن نظام الحكم نفسه حامياً لها، في عاصمة الدولة الرسالية التي كانت قائمة آنذاك، والتي كانت تزعم أن لها مشروع حضاري يقوم على إعادة تشكيل الإنسان السوداني، وفق أحكام الشريعة الإسلامية، التي إحتكرت الدولة الحق في تفسيرها. وقانون 96 لا يختلف عن قانون 92 فى الذهنية والأهداف، فكلاهما يقوم على الذهنية الأبوية الرسالية التي تخلط بين التجريم والتحريم، و ينطلق من فكرتين رئيسيتين: الأولى ضبط الشارع العام، والثانية ضبط السلوك الخاص، والقانون في محاولته لضبط الشارع، يقوم على ذهنية الكشّة، وفي محاولته لضبط السلوك الخاص، يقوم على ذهنية الإسترابة فى الأنثى. ذهنية الكشّة كلمة الكشة هي كلمة ظهرت مؤخراً في قاموس العامية لا نعلم لها أصلاً في اللغة، وهي كلمة تصف ممارسة أورثها لنا العهد المايوي. كان النظام المايوي في غيبة حكم القانون قد أسس لسياسة تقتفي أثر ما كان يدعو له السادات في مصر، ترمي إلى ضبط الشارع العام بعد أن أدت سياسات النظام إلى إسقاط أعداد غفيرة من السكان، يصعب تحديد عددها في غياب المعلومات الإحصائية، تحت خط الفقر. أدت تلك السياسات لإيجاد مجموعات كبيرة من المعدمين الذين لا مأوى لهم سوى الشارع. لجأ النظام لعلاج هذه الظاهرة بحملات تنفذها الشرطة ضد الفقراء من المناطق المهمشة، بدعوى إفراغ العاصمة من المتبطلين، وكان الهدف المعلن هو إعادتهم لمناطقهم الأصلية، وأحياناً لمناطق الإنتاج الزراعى، ولم يكن ذلك يمثل حلاً للمشكلة، ولكنه كان كل ما يمكن للنظام أن ينتج من سياسات. كانت تلك الحملات تستهدف من الناحية النظرية كل من لا يحمل أوراق ثبوتية تثبت أنه يعمل في العاصمة ولكن من الناحية العملية لم يقع تحت وطأتها سوى الفقراء من النازحين من المناطق التي أطلق عليها الأدب السياسي فيما بعد المناطق المهمشة. لم يكن للدولة سياسة محددة للتعامل مع أسرى تلك الحملات بعد ترحيلهم إلى مناطقهم والتي كانوا غادروها في الأصل بسبب إنعدام فرص العمل، ولذلك فقد كانت رحلة العودة مرة أخرى إلى العاصمة، بعد ترحيلهم، تبدأ بمجرد الوصول. هذه الحملات، ذات الطبيعة العبثية على الأقسام المهمشة، هي ما درج الشارع على إطلاق لفظ الكشة عليها. رغم أن النظام الإنقاذي لم يحاول تلك السياسة العبثية أول الأمر إلا أن سياست التجنيد الإجباري والجباية من الفقراء وأصحاب الحرف الهامشية أعادت العمل بتلكم الحملات. الكشة في طبعتها الإنقاذية تتمثل في حملة تقوم بها الشرطة على منطقة أو مكان، وهذه الحملة ليس لها زمان معين ولا مكان معين، فهي تحدث صباحاً ومساءاً، و قد يكون مسرحها أحد المنازل، كما قد يكون شارعاً عاماً، والغرض من هذه الحملة ضبط المخالفات، والقبض على المخالفين، لتخليص الشارع منهم. والأصل هو أن لا تكون هناك مثل هذه الحملات، لأن التفتيش والقبض يتصل بمعلومة عن إرتكاب جريمة ينجم عنه أمر بالقبض على شخص أو ضبط شيء له علاقة بالجريمة في مكان يحدده الأمر. ولكن تلك الحملات لا تقوم على نصوص قانونية معينة، بقدر قيامها على ذهنية معينة خلقها وضع قانوني متكامل أساسه إتساع دائرة التجريم، وفقدان المعقولية فى القوانين، بحيث أصبحت ممارسة الناس لحياتهم العادية تتضمن بالضرورة مخالفة لقانون ما، وما على الشرطة إلا أن تجتاح أي مكان، حتى ولو كان الشارع العام وتقبض على الموجودين فيه عشوائياً، حتى تجدهم فى حالة تلبس بإرتكاب مخالفة للقانون. وهذه الذهنية ليست قاصرة على الأجهزة، بل يشاطرها فيها المواطنون، فما أن تقف عربات الشرطة في مكان ما، ويخرج من فيها من الشرطة في عجلة من أمرهم فى مظهر شديد الصرامة، حتى تجد كل من فى الشارع بين مهرول وراكض يحاول الإختفاء، دون أن يدري سبباً لهربه. وتبدأ عمليات القبض لمختلف الأعمار والأجناس ومعهم أدوات الجريمة. وهي في غالب الأمر لا تعدو أن تكون كوانين لعمل شاي، أو بعض الألبسة، أو الساعات، و كلها من الأشياء التي يستعملها الناس في كل مكان دون أن يرتبوا على أنفسهم أي مسئولية قانونية، وتمتليء العربات بالمقبوض عليهم بالجرم المشهود، أما ما هو الجرم المشهود فلا سبيل لك لأن تعلمه. فقد يكون مخالفة لقانون ما، يكشف عنها ما تحمله من أشياء، أو ما ترتديه من ملابس، ولكنه أيضا قد يكون مجرد (عمرك) في كشة للبحث عن الهاربين من التجنيد، أو (سحنتك) في حملة لإفراغ العاصمة من النازحين. وإتساع دائرة التجريم أفرخته الذهنية الأبوية الرسالية التي أنتجت قانون النظام العام، والتي أدت لأن ينفلت التجريم وتتوسع قاعدته بحيث لا يعلم الفرد على وجه التحديد ما هو الفعل الممنوع. وذلك لا يؤدي فقط إلى خرق الدستور من عدة نواحي، ولكن يتجاوزه إلى خلق ذهنية قبول ذلك الخرق، وهذا هو ما توفره ذهنية الكشة التي تجعل الأسواق العامة، ساحات صيد تمارس فيها الشرطة إصطياد المواطن. توسيع دائرة التجريم كان أساسه الخلط بين قواعد التحريم، وقواعد التجريم، وهذا ما يلزمنا بوقفة قصيرة عند ذلك الخلط. الخلط بين التحريم والتجريم أكثر الطغيان قمعاً هو طغيان الحاكم الذي يعتقد بإخلاص أن ما يفعله هو من أجل خير ضحاياه . الحاكم اللص قد تغفو قسوته أحيانا، وقد يشبع طمعه في مرحلة ما . ولكن أولئك الذين يعذبوننا من أجل مصلحتنا سيعذبوننا بدون نهاية لأنهم يفعلون ذلك بموافقة ضمائرهم ".- C.S. لويس تخضع المجتمعات البشرية لقواعد تحكم سلوك الأفراد المكونين لها، وهذه القواعد أساسها ثلاث دوائر مختلفة، تحرم بعض الأفعال، وتبيح ما عداها، والدوائر الثلاث متشابكة يقتات بعضها على بعض، وهي: الأخلاق والدين والقانون، وهذه الدوائر الثلاث قد تتحد في تحريم فعل كالقتل مثلاً، أو السرقة، وقد تختلف حين تحرم بعضها فعل لا تحرمه الأخرى، كالحسد مثلاً الذي يظل محرماً أخلاقياً ودينياً رغم إباحته قانونياً. تقوم الأخلاق على فكرتي الخير والشر، والتي تختلف من ثقافة لأخرى ومن مجتمع لمجتمع، ولكن في كل الأزمان، و في كل المجتمعات لا بد أن تكون هناك مجموعة من الأفعال المحرمة أخلاقياً. وتقوم فكرة التحريم الديني أيضاً على الخير والشر، ولكن أساسها النواهي الإلهية، وليس الفلسفة الإخلاقية، والتحريم الديني أساسه الوحي، ورغم إختلاف الأديان، فإن الأفعال المحرمة فيها تكاد تكون واحدة. والجزاء على مخالفة القاعدة الدينية هو جزاء يوقعه الله، وبالتالي فإن دائرة التحريم واسعة، وتشمل النوايا والمقاصد، لأن الله يعلم ما في الصدور . أما التجريم فتستقل به القاعدة القانونية، و المشرع هو الذي يملك أن يجرم الفعل. وهذا التجريم يعني إستخدام سلطة الدولة في العقاب لمنع الأفراد سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيون أم معنوين من إرتكاب أفعال معينة، وهذه الأسس المختلفة للتحريم تتداخل بعضها مع بعض، فنجد كثير من الأفعال المحرمة أخلاقياً ودينياً هي مُجرّمة قانوناً مثل القتل والسرقة. والخلاف بين أسس التجريم في القانون، وبين أسس التحريم الأخلاقي والدينى، يقوم على نوع الجزاء، وعلى السلطة التي تشرع الأوامر والنواهي، ففي حين يشرع القواعد الأخلاقية العقل الجمعي لمجموعة ثقافية معينة، في زمن معين، فإن الوحي هو الذي يشرع الأوامر والنواهي الدينية، ويتشابه الإثنان في قابلية تلك القواعد للقبول بدون مناقشة عقلانية، وذلك لأنها جزء من التكوين الثقافي للخاضعين لها، أما القانون فهو مسألة عقلانية بحتة، لأنه صادر من سلطة أرضية، قد لا يتفق الشخص مع أهدافها ومراميها، لذلك فإن الشخص المعني قد لا يوافق على صحة القاعدة القانونية وقد يطالب بتغييرها. وهذا الخلاف يقود بدوره لخلاف آخر، وهو أن إستعداد الشخص لمخالفة القانون أكثر من إستعداده لمخالفة النواهي والأوامر الأخلاقية والدينية وذلك لأن كلا من الأوامر والنواهي الأخلاقية والدينية تُوجِد داخل الشخص أداةً للرقابة، والمنع تمنعه من إتيان الأفعال المحرمة لأن التحريم صادر إما من التركيبة الخاصة بالشخص نفسه (الأخلاق)، أو من أوامر إلاهية يحمل الشخص خشية مخالفتها داخل نفسه، أما القانون فإن السلطة التي شرعته هي سلطة خارج الشخص، وهذا يقود لخلاف آخر هو أن العقاب على مخالفة القانون، يستلزم إكتشاف وقوع الفعل المُجرّم، لذلك فإن كثير من السائقين يقومون بكسر الإشارة الحمراء عندما لا يكون هناك شرطي، بإعتبار أنهم لن يُكتَشفوا، ويكثر هذا بالنسبة للجرائم التي لا ضحايا لها Victimless Crimes والتى تقع فيها الأفعال المؤثمة بين أشخاص موافقون على ما يقوم به بعضهم لبعض. وهي أفعال يسهل التعامل معها بالمنع الديني والأخلاقي ولكن المنع القانوني يسبب إشكاليات متعلقة بالإثبات دون خرق لحق الخصوصية من جهة، وحدود سلطة الدولة في العقاب من جهة أخرى، على تفاصيل يضيق المجال الحالي عن مناقشتها. رغم أن التجريم هو أمر تستقل به السلطة التشريعية، إلا أنها لا تقوم بذلك من فراغ، فهي مكونة من أفراد يحملون العقلية الجمعية للثقافة التي يتبعونها، بما يجعلهم متأثرين بالأحكام الأخلاقية والدينية. ولكن الخلافات بين سلطة الدولة والسلطة الإلهية، يجب أن تكون واضحة أمامهم حين يشرِّعون ويجرِّمون. الفرق بين الهدف من التجريم القانوني، والهدف من التحريم الأخلاقي والديني، هو أن التحريم الأخلاقي والديني يهدف إلى إصلاح و ترقية الشخص المخاطب بالتحريم، في حين أن الغرض من التجريم هو حماية مصلحة عامة للمجتمع، يشكل التهديد بالعقاب أنجع الوسائل لحمايتها. والجزاء القانوني لا يقتصر على العقاب الجنائي بل يشمل أيضاً الجزاء على الخطأ المدني و هو فعل يقتصر ضرره على المصلحة الفردية، وبالتالي فإن الدولة لا تستخدم سلطة العقاب لمنعه، ولكنها تتيح للمضرور التعويض عن ما سببه الفعل من ضرر. إذاً فأساس التجريم هو خطورة الفعل على مصلحة يرى القانون ضرورة حمايتها، وبعض هذه المصالح قد تكون وقتية، وليس لها صله بالأخلاق، وأحياناً قد تكون متوهمة عند المشرع، ومن ذلك ما توهمته الإنقاذ في أول أيامها من أن منع تداول النقد الأجنبي خارج المصارف مضر بالمصالح الإقتصادية للدولة، فقامت بتجريم ذلك الفعل وجعلته موجباً لأشد أنواع العقاب، وهو الإعدام، وتم بموجب ذلك القانون إعدام ثلاثة أشخاص قبل أن يصبح ذلك الفعل مباحاً لاعقاب عليه. إذا فأساس التحريم هو رغبة المشرع في حماية مصلحة عامة معينة، وهو يتوسل إلى ذلك بالتهديد بالعقاب الجنائي على الأفعال التي يعتقد أنها تضر بتلك المصلحة. ولكن المشرع إذ يفعل ذلك لابد أن يراعي أن لا يجرم سوى الأفعال التي من شأنها الإضرار بمصلحة واضحة للنظام الإجتماعى، فهناك كثير من الأعمال غير الأخلاقية والمستهجنة، ولكن العقاب عليها ليس أنجع الوسائل لمحاربتها، خاصةً تلك التي تصيب المصالح العامة بدرجة يسيرة من الضرر. وفي الموازنة بين واجب الدولة في حماية حريات الناس وبين مصلحة أفراد المجتمع ككل في أن يعيشوا في أمان، يجد المشرع أن المصلحة ستحقق أكثر بعدم التجريم ومن ذلك مثلاً الضرر الذي يسببه التدخين في الأماكن الخاصة، للمدخن نفسه، ولغيره من المتواجدين في تلك الأماكن، وفي هذه الحالة رغم ما في هذا الفعل من أذى للصحة العامة فإن المشرع لا يتدخل، ويترك لأجهزة الإعلام والتوعية الصحية مجابهة هذه المسألة. كذلك فإن القانون في أغلب الأحيان لا يكتشف الجرائم التي لا ضحايا فيها إلا عن طريق خرق الخصوصية وهو أمر أكثر ضرراً من الجريمة نفسها، لذلك فإنه طالما أن الفعل لا يعتدي على حق عام وليس هناك متضررعنه فإن تركه خارج دائرة العقاب أفضل. و الأفعال التي تقع خفية بين أشخاص بالغين راضين عما يفعلون وعما يُفعَل معهم مهما بلغت درجة مفارقتها للأخلاق هى جرائم بدون ضحايا ما لم يتجاوز ضررها الجناة أنفسهم إلى غيرهم. وحتى فى هذه الحالة الأخيرة فلا يجوز السماح لأجهزة ضبط الجريمة وهي بصدد ضبطها أن تخرق خصوصية الأفراد وحرمات المنازل لأن ضرر ذلك يفوق النفع الذي قد ينتج من كشف الجريمة، إذ ينتج عن ترك تقدير الوسائل لقوات الضبط نفسها عادة أضرار لمواطنين لم يرتكبوا أي جرائم وفيه ترويع لمجتمع آمن، لما يتولد عند تلك الأجهزة من إستهانة بحرمات المنازل والأشخاص. وقد تسلل إلى القانون الجنائي وبعض القوانين العقابية الأخرى في السنوات الأخيرة تجريم بعض الأفعال التي يستحسن أن يترك أمرها لمعالجات خارج إطار القانون، مثل قواعد السلوك المتصلة باللبس وغيرها، لأنها مسائل لا تحل بواسطة إستعمال سلطة الدولة وإنما يحسن تركها للوعظ الديني ولحسن التربية إذ أن التجريم وما يقود إليه من محاكمة وعقوبة قد تكون أضراره بما يحمله من تشهير أكثر من أضرار الفعل نفسه . من جهة أخرى فإن ذلك الإتساع الغير عقلانى للتجريم لا بد أن يؤدي للتعالي على المواطن وعلى الإستهانة بحقوقه ، وقد إنعكس ذلك على القوانين التي تنظم سلطة رجال الضبط. المبحث الثالث ذهنية الإسترابة في الأنثى أي محاولة لإحداث تحول حقيقي في المجتمع ليجعله أكثر استدامة لا بد أن يشمل المساواة بين الجنسين. هيلين كلارك إقتصرت المعالجات الأخلاقية التي أدخلتها القوانين مؤخراً على محاولة مطاردة النساء لإبقائهن خارج النشاط الإجتماعي بفهم أن المرأة هي الشيطان الذي يغوي الرجل ويقوده للرذيلة. ونجم عن ذلك تعامل مع حالة الأنوثة بإعتبارها شر لابد منه، وكادت الأنوثة أن تصبح جريمة أو على الأقل شروع في جريمة، لأنها وفقاً لتلك الذهنية مصدراً لخطورة كامنة يجب حفظها في أضيق نطاق لإستحالة التخلص منها، وكان السبيل لذلك تبني أحكاماً غامضة لا تحمل معان محددة بغرض مطاردة النساء لإبعادهن لخارج الحياة الإجتماعية، فعاقب القانون على التزيِّ بزي فاضح في المادة (152) من القانون الجنائي دون أن يحدد أي معايير لذلك الزي الفاضح، ومنع إجتماع الرجال بالنساء الذين لا تقوم بينهم علاقات زوجيه أو قربى في ظروف ترجح معها حدوث ممارسات جنسية في المادة (154) وهو حكم غامض قد يتوفر في أي مركبة عامة. وهكذا منح القانون للشرطة والمحاكم سلطة تجريم وعقاب ما تراه في مطلق تقديرها يستوجب ذلك في سلوك النساء، فأصبح جلد الفتيات والنساء خبر عادي تقرأه في الصحيفة كما تقرأ أخبار زيارات المسئولين، لمناطق الإنتاج، دون أن يحرك في نفسك شيئاً، وقد تم إستهداف النساء في ولاية الخرطوم عن طريق قانون النظام العام فحددت لهن مداخل خاصة في المواصلات العامة ومقاعد محددة لتوفير مزيد من الفرص لتعريضهن للعقاب، وهكذا أصبح خطر الملاحقة القضائية ماثل في أي نشاط تقوم به النساء خارج منازلهن. إستهداف بائعات الشاي والذى ترك للتشريعات المحلية تنظيمه هو جزء من الحملة ضد الأنوثة، فليس هنالك ما يميز بائعات الشاي عن غيرهن من الباعة خارج المحلات التجارية سوى أنوثتهن. وهى إسترابة مرَضية وغير منطقية وغير مبررة تركزت هذه المرة على بائعات الشاي بغرض حسبما يذكر الرسميون إلغاء هذه المهنة تماماً، فما هو السبب فى ذلك؟. بائعة الشاي تقدم خدمة لا غنى عنها للفقراء الذين لا يستطيعون تناول الشاي في الكافتريات أثناء ساعات العمل أو عند طلبهم لخدمة في المصالح الحكومية. وهذه المهنة ليس فيها ما يخدش الحياء أو ما يخالف التقاليد كما وأنها مهنة لا تحتاج لتدريب خاص خارج الحياة العادية للنساء مما يسهل معه أن تقوم بها النساء البسيطات اللائي لا توفر لهن الحياة رفاهية البقاء في بيوتهن بدون عمل. أما لماذا بائعات الشاي وليست بائعات الكسرة مثلاً فالسبب في ذلك هو أن تناول الشاي يتطلب بعض الوقت، وهذا الوقت هو الذي جعل من هذه المهنة تحمل خطر الوقوع في براثن الإغواء، وفق الذهنية السائدة ففي حين تنتهي العلاقة ببائعة الكسرة في لحظات، يستغرق تناول الشاي زمناً تستشعر فيه ذهنية الإسترابة في الأنوثة إمكانية وقوع خطأ ما، لذلك فقد شمرت هذه الذهنية عن ساعدها للقضاء على مهنة ست الشاي.
الأرضية الذهنية والقانونية لقانون النظام العام القانون ليس ملكية خاصة للمحامين، والعدالة ليست حكرا على القضاة والمحلفين. في التحليل النهائي، العدالة الحقيقية ليست مسألة تقتصر على المحاكم وكتب القانون، ولكنها تعني الإلتزام بالحرية والاحترام المتبادل. جيمي كارتر قام السيد وزير العدل بتشكيل لجنة من رجال القانون بغرض تعديل أحكام قانون النظام العام، وهو قانون في تقديري بالغ السوء ومستوجب للإلغاء، وقد كتبت عن ذلك كثيراً من قبل. في محاولة لمساعدة الزملاء في اللجنة المذكورة، وإشراك الجمهور في هذه المسألة، قررت أن أنفض الغبار عن ما سبق ونشرته في زمن سابق في هذا الموضوع، وأعيد نشره، إيمانا مني بأن التشريعات وتعديلاتها لا يجب أن تتم في الغرف المغلقة، بل يجب أن تطرح للنقاش العام، حتى يعرف المشرع مدى مقبولية ما يشرعه من أحكام لدى من سيتم تطبيقها عليهم. قانون النظام العام الحالي هو قانون ولائي، صادر من المجلس التشريعي لولاية الخرطوم، (قانون ولائي رقم (5) سنة 1996م )، وهو قانون صدر في أكتوبر من عام 1996ولكنه فى الواقع كان إعادة إصدار لقانون النظام العام لعام 1992 بعد أن أضيفت له بعض المخالفات التي كانت متناثرة في أوامر محلية مختلفة. وهو قانون قصد به المحافظة على القيم التى عيّن نظام الحكم نفسه حامياً لها، في عاصمة الدولة الرسالية التي كانت قائمة آنذاك، والتي كانت تزعم أن لها مشروع حضاري يقوم على إعادة تشكيل الإنسان السوداني، وفق أحكام الشريعة الإسلامية، التي إحتكرت الدولة الحق في تفسيرها. وقانون 96 لا يختلف عن قانون 92 فى الذهنية والأهداف، فكلاهما يقوم على الذهنية الأبوية الرسالية التي تخلط بين التجريم والتحريم، و ينطلق من فكرتين رئيسيتين: الأولى ضبط الشارع العام، والثانية ضبط السلوك الخاص، والقانون في محاولته لضبط الشارع، يقوم على ذهنية الكشّة، وفي محاولته لضبط السلوك الخاص، يقوم على ذهنية الإسترابة فى الأنثى. ذهنية الكشّة كلمة الكشة هي كلمة ظهرت مؤخراً في قاموس العامية لا نعلم لها أصلاً في اللغة، وهي كلمة تصف ممارسة أورثها لنا العهد المايوي. كان النظام المايوي في غيبة حكم القانون قد أسس لسياسة تقتفي أثر ما كان يدعو له السادات في مصر، ترمي إلى ضبط الشارع العام بعد أن أدت سياسات النظام إلى إسقاط أعداد غفيرة من السكان، يصعب تحديد عددها في غياب المعلومات الإحصائية، تحت خط الفقر. أدت تلك السياسات لإيجاد مجموعات كبيرة من المعدمين الذين لا مأوى لهم سوى الشارع. لجأ النظام لعلاج هذه الظاهرة بحملات تنفذها الشرطة ضد الفقراء من المناطق المهمشة، بدعوى إفراغ العاصمة من المتبطلين، وكان الهدف المعلن هو إعادتهم لمناطقهم الأصلية، وأحياناً لمناطق الإنتاج الزراعى، ولم يكن ذلك يمثل حلاً للمشكلة، ولكنه كان كل ما يمكن للنظام أن ينتج من سياسات. كانت تلك الحملات تستهدف من الناحية النظرية كل من لا يحمل أوراق ثبوتية تثبت أنه يعمل في العاصمة ولكن من الناحية العملية لم يقع تحت وطأتها سوى الفقراء من النازحين من المناطق التي أطلق عليها الأدب السياسي فيما بعد المناطق المهمشة. لم يكن للدولة سياسة محددة للتعامل مع أسرى تلك الحملات بعد ترحيلهم إلى مناطقهم والتي كانوا غادروها في الأصل بسبب إنعدام فرص العمل، ولذلك فقد كانت رحلة العودة مرة أخرى إلى العاصمة، بعد ترحيلهم، تبدأ بمجرد الوصول. هذه الحملات، ذات الطبيعة العبثية على الأقسام المهمشة، هي ما درج الشارع على إطلاق لفظ الكشة عليها. رغم أن النظام الإنقاذي لم يحاول تلك السياسة العبثية أول الأمر إلا أن سياست التجنيد الإجباري والجباية من الفقراء وأصحاب الحرف الهامشية أعادت العمل بتلكم الحملات. الكشة في طبعتها الإنقاذية تتمثل في حملة تقوم بها الشرطة على منطقة أو مكان، وهذه الحملة ليس لها زمان معين ولا مكان معين، فهي تحدث صباحاً ومساءاً، و قد يكون مسرحها أحد المنازل، كما قد يكون شارعاً عاماً، والغرض من هذه الحملة ضبط المخالفات، والقبض على المخالفين، لتخليص الشارع منهم. والأصل هو أن لا تكون هناك مثل هذه الحملات، لأن التفتيش والقبض يتصل بمعلومة عن إرتكاب جريمة ينجم عنه أمر بالقبض على شخص أو ضبط شيء له علاقة بالجريمة في مكان يحدده الأمر. ولكن تلك الحملات لا تقوم على نصوص قانونية معينة، بقدر قيامها على ذهنية معينة خلقها وضع قانوني متكامل أساسه إتساع دائرة التجريم، وفقدان المعقولية فى القوانين، بحيث أصبحت ممارسة الناس لحياتهم العادية تتضمن بالضرورة مخالفة لقانون ما، وما على الشرطة إلا أن تجتاح أي مكان، حتى ولو كان الشارع العام وتقبض على الموجودين فيه عشوائياً، حتى تجدهم فى حالة تلبس بإرتكاب مخالفة للقانون. وهذه الذهنية ليست قاصرة على الأجهزة، بل يشاطرها فيها المواطنون، فما أن تقف عربات الشرطة في مكان ما، ويخرج من فيها من الشرطة في عجلة من أمرهم فى مظهر شديد الصرامة، حتى تجد كل من فى الشارع بين مهرول وراكض يحاول الإختفاء، دون أن يدري سبباً لهربه. وتبدأ عمليات القبض لمختلف الأعمار والأجناس ومعهم أدوات الجريمة. وهي في غالب الأمر لا تعدو أن تكون كوانين لعمل شاي، أو بعض الألبسة، أو الساعات، و كلها من الأشياء التي يستعملها الناس في كل مكان دون أن يرتبوا على أنفسهم أي مسئولية قانونية، وتمتليء العربات بالمقبوض عليهم بالجرم المشهود، أما ما هو الجرم المشهود فلا سبيل لك لأن تعلمه. فقد يكون مخالفة لقانون ما، يكشف عنها ما تحمله من أشياء، أو ما ترتديه من ملابس، ولكنه أيضا قد يكون مجرد (عمرك) في كشة للبحث عن الهاربين من التجنيد، أو (سحنتك) في حملة لإفراغ العاصمة من النازحين. وإتساع دائرة التجريم أفرخته الذهنية الأبوية الرسالية التي أنتجت قانون النظام العام، والتي أدت لأن ينفلت التجريم وتتوسع قاعدته بحيث لا يعلم الفرد على وجه التحديد ما هو الفعل الممنوع. وذلك لا يؤدي فقط إلى خرق الدستور من عدة نواحي، ولكن يتجاوزه إلى خلق ذهنية قبول ذلك الخرق، وهذا هو ما توفره ذهنية الكشة التي تجعل الأسواق العامة، ساحات صيد تمارس فيها الشرطة إصطياد المواطن. توسيع دائرة التجريم كان أساسه الخلط بين قواعد التحريم، وقواعد التجريم، وهذا ما يلزمنا بوقفة قصيرة عند ذلك الخلط. الخلط بين التحريم والتجريم أكثر الطغيان قمعاً هو طغيان الحاكم الذي يعتقد بإخلاص أن ما يفعله هو من أجل خير ضحاياه . الحاكم اللص قد تغفو قسوته أحيانا، وقد يشبع طمعه في مرحلة ما . ولكن أولئك الذين يعذبوننا من أجل مصلحتنا سيعذبوننا بدون نهاية لأنهم يفعلون ذلك بموافقة ضمائرهم ".- C.S. لويس تخضع المجتمعات البشرية لقواعد تحكم سلوك الأفراد المكونين لها، وهذه القواعد أساسها ثلاث دوائر مختلفة، تحرم بعض الأفعال، وتبيح ما عداها، والدوائر الثلاث متشابكة يقتات بعضها على بعض، وهي: الأخلاق والدين والقانون، وهذه الدوائر الثلاث قد تتحد في تحريم فعل كالقتل مثلاً، أو السرقة، وقد تختلف حين تحرم بعضها فعل لا تحرمه الأخرى، كالحسد مثلاً الذي يظل محرماً أخلاقياً ودينياً رغم إباحته قانونياً. تقوم الأخلاق على فكرتي الخير والشر، والتي تختلف من ثقافة لأخرى ومن مجتمع لمجتمع، ولكن في كل الأزمان، و في كل المجتمعات لا بد أن تكون هناك مجموعة من الأفعال المحرمة أخلاقياً. وتقوم فكرة التحريم الديني أيضاً على الخير والشر، ولكن أساسها النواهي الإلهية، وليس الفلسفة الإخلاقية، والتحريم الديني أساسه الوحي، ورغم إختلاف الأديان، فإن الأفعال المحرمة فيها تكاد تكون واحدة. والجزاء على مخالفة القاعدة الدينية هو جزاء يوقعه الله، وبالتالي فإن دائرة التحريم واسعة، وتشمل النوايا والمقاصد، لأن الله يعلم ما في الصدور . أما التجريم فتستقل به القاعدة القانونية، و المشرع هو الذي يملك أن يجرم الفعل. وهذا التجريم يعني إستخدام سلطة الدولة في العقاب لمنع الأفراد سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيون أم معنوين من إرتكاب أفعال معينة، وهذه الأسس المختلفة للتحريم تتداخل بعضها مع بعض، فنجد كثير من الأفعال المحرمة أخلاقياً ودينياً هي مُجرّمة قانوناً مثل القتل والسرقة. والخلاف بين أسس التجريم في القانون، وبين أسس التحريم الأخلاقي والدينى، يقوم على نوع الجزاء، وعلى السلطة التي تشرع الأوامر والنواهي، ففي حين يشرع القواعد الأخلاقية العقل الجمعي لمجموعة ثقافية معينة، في زمن معين، فإن الوحي هو الذي يشرع الأوامر والنواهي الدينية، ويتشابه الإثنان في قابلية تلك القواعد للقبول بدون مناقشة عقلانية، وذلك لأنها جزء من التكوين الثقافي للخاضعين لها، أما القانون فهو مسألة عقلانية بحتة، لأنه صادر من سلطة أرضية، قد لا يتفق الشخص مع أهدافها ومراميها، لذلك فإن الشخص المعني قد لا يوافق على صحة القاعدة القانونية وقد يطالب بتغييرها. وهذا الخلاف يقود بدوره لخلاف آخر، وهو أن إستعداد الشخص لمخالفة القانون أكثر من إستعداده لمخالفة النواهي والأوامر الأخلاقية والدينية وذلك لأن كلا من الأوامر والنواهي الأخلاقية والدينية تُوجِد داخل الشخص أداةً للرقابة، والمنع تمنعه من إتيان الأفعال المحرمة لأن التحريم صادر إما من التركيبة الخاصة بالشخص نفسه (الأخلاق)، أو من أوامر إلاهية يحمل الشخص خشية مخالفتها داخل نفسه، أما القانون فإن السلطة التي شرعته هي سلطة خارج الشخص، وهذا يقود لخلاف آخر هو أن العقاب على مخالفة القانون، يستلزم إكتشاف وقوع الفعل المُجرّم، لذلك فإن كثير من السائقين يقومون بكسر الإشارة الحمراء عندما لا يكون هناك شرطي، بإعتبار أنهم لن يُكتَشفوا، ويكثر هذا بالنسبة للجرائم التي لا ضحايا لها Victimless Crimes والتى تقع فيها الأفعال المؤثمة بين أشخاص موافقون على ما يقوم به بعضهم لبعض. وهي أفعال يسهل التعامل معها بالمنع الديني والأخلاقي ولكن المنع القانوني يسبب إشكاليات متعلقة بالإثبات دون خرق لحق الخصوصية من جهة، وحدود سلطة الدولة في العقاب من جهة أخرى، على تفاصيل يضيق المجال الحالي عن مناقشتها. رغم أن التجريم هو أمر تستقل به السلطة التشريعية، إلا أنها لا تقوم بذلك من فراغ، فهي مكونة من أفراد يحملون العقلية الجمعية للثقافة التي يتبعونها، بما يجعلهم متأثرين بالأحكام الأخلاقية والدينية. ولكن الخلافات بين سلطة الدولة والسلطة الإلهية، يجب أن تكون واضحة أمامهم حين يشرِّعون ويجرِّمون. الفرق بين الهدف من التجريم القانوني، والهدف من التحريم الأخلاقي والديني، هو أن التحريم الأخلاقي والديني يهدف إلى إصلاح و ترقية الشخص المخاطب بالتحريم، في حين أن الغرض من التجريم هو حماية مصلحة عامة للمجتمع، يشكل التهديد بالعقاب أنجع الوسائل لحمايتها. والجزاء القانوني لا يقتصر على العقاب الجنائي بل يشمل أيضاً الجزاء على الخطأ المدني و هو فعل يقتصر ضرره على المصلحة الفردية، وبالتالي فإن الدولة لا تستخدم سلطة العقاب لمنعه، ولكنها تتيح للمضرور التعويض عن ما سببه الفعل من ضرر. إذاً فأساس التجريم هو خطورة الفعل على مصلحة يرى القانون ضرورة حمايتها، وبعض هذه المصالح قد تكون وقتية، وليس لها صله بالأخلاق، وأحياناً قد تكون متوهمة عند المشرع، ومن ذلك ما توهمته الإنقاذ في أول أيامها من أن منع تداول النقد الأجنبي خارج المصارف مضر بالمصالح الإقتصادية للدولة، فقامت بتجريم ذلك الفعل وجعلته موجباً لأشد أنواع العقاب، وهو الإعدام، وتم بموجب ذلك القانون إعدام ثلاثة أشخاص قبل أن يصبح ذلك الفعل مباحاً لاعقاب عليه. إذا فأساس التحريم هو رغبة المشرع في حماية مصلحة عامة معينة، وهو يتوسل إلى ذلك بالتهديد بالعقاب الجنائي على الأفعال التي يعتقد أنها تضر بتلك المصلحة. ولكن المشرع إذ يفعل ذلك لابد أن يراعي أن لا يجرم سوى الأفعال التي من شأنها الإضرار بمصلحة واضحة للنظام الإجتماعى، فهناك كثير من الأعمال غير الأخلاقية والمستهجنة، ولكن العقاب عليها ليس أنجع الوسائل لمحاربتها، خاصةً تلك التي تصيب المصالح العامة بدرجة يسيرة من الضرر. وفي الموازنة بين واجب الدولة في حماية حريات الناس وبين مصلحة أفراد المجتمع ككل في أن يعيشوا في أمان، يجد المشرع أن المصلحة ستحقق أكثر بعدم التجريم ومن ذلك مثلاً الضرر الذي يسببه التدخين في الأماكن الخاصة، للمدخن نفسه، ولغيره من المتواجدين في تلك الأماكن، وفي هذه الحالة رغم ما في هذا الفعل من أذى للصحة العامة فإن المشرع لا يتدخل، ويترك لأجهزة الإعلام والتوعية الصحية مجابهة هذه المسألة. كذلك فإن القانون في أغلب الأحيان لا يكتشف الجرائم التي لا ضحايا فيها إلا عن طريق خرق الخصوصية وهو أمر أكثر ضرراً من الجريمة نفسها، لذلك فإنه طالما أن الفعل لا يعتدي على حق عام وليس هناك متضررعنه فإن تركه خارج دائرة العقاب أفضل. و الأفعال التي تقع خفية بين أشخاص بالغين راضين عما يفعلون وعما يُفعَل معهم مهما بلغت درجة مفارقتها للأخلاق هى جرائم بدون ضحايا ما لم يتجاوز ضررها الجناة أنفسهم إلى غيرهم. وحتى فى هذه الحالة الأخيرة فلا يجوز السماح لأجهزة ضبط الجريمة وهي بصدد ضبطها أن تخرق خصوصية الأفراد وحرمات المنازل لأن ضرر ذلك يفوق النفع الذي قد ينتج من كشف الجريمة، إذ ينتج عن ترك تقدير الوسائل لقوات الضبط نفسها عادة أضرار لمواطنين لم يرتكبوا أي جرائم وفيه ترويع لمجتمع آمن، لما يتولد عند تلك الأجهزة من إستهانة بحرمات المنازل والأشخاص. وقد تسلل إلى القانون الجنائي وبعض القوانين العقابية الأخرى في السنوات الأخيرة تجريم بعض الأفعال التي يستحسن أن يترك أمرها لمعالجات خارج إطار القانون، مثل قواعد السلوك المتصلة باللبس وغيرها، لأنها مسائل لا تحل بواسطة إستعمال سلطة الدولة وإنما يحسن تركها للوعظ الديني ولحسن التربية إذ أن التجريم وما يقود إليه من محاكمة وعقوبة قد تكون أضراره بما يحمله من تشهير أكثر من أضرار الفعل نفسه . من جهة أخرى فإن ذلك الإتساع الغير عقلانى للتجريم لا بد أن يؤدي للتعالي على المواطن وعلى الإستهانة بحقوقه ، وقد إنعكس ذلك على القوانين التي تنظم سلطة رجال الضبط. المبحث الثالث ذهنية الإسترابة في الأنثى أي محاولة لإحداث تحول حقيقي في المجتمع ليجعله أكثر استدامة لا بد أن يشمل المساواة بين الجنسين. هيلين كلارك إقتصرت المعالجات الأخلاقية التي أدخلتها القوانين مؤخراً على محاولة مطاردة النساء لإبقائهن خارج النشاط الإجتماعي بفهم أن المرأة هي الشيطان الذي يغوي الرجل ويقوده للرذيلة. ونجم عن ذلك تعامل مع حالة الأنوثة بإعتبارها شر لابد منه، وكادت الأنوثة أن تصبح جريمة أو على الأقل شروع في جريمة، لأنها وفقاً لتلك الذهنية مصدراً لخطورة كامنة يجب حفظها في أضيق نطاق لإستحالة التخلص منها، وكان السبيل لذلك تبني أحكاماً غامضة لا تحمل معان محددة بغرض مطاردة النساء لإبعادهن لخارج الحياة الإجتماعية، فعاقب القانون على التزيِّ بزي فاضح في المادة (152) من القانون الجنائي دون أن يحدد أي معايير لذلك الزي الفاضح، ومنع إجتماع الرجال بالنساء الذين لا تقوم بينهم علاقات زوجيه أو قربى في ظروف ترجح معها حدوث ممارسات جنسية في المادة (154) وهو حكم غامض قد يتوفر في أي مركبة عامة. وهكذا منح القانون للشرطة والمحاكم سلطة تجريم وعقاب ما تراه في مطلق تقديرها يستوجب ذلك في سلوك النساء، فأصبح جلد الفتيات والنساء خبر عادي تقرأه في الصحيفة كما تقرأ أخبار زيارات المسئولين، لمناطق الإنتاج، دون أن يحرك في نفسك شيئاً، وقد تم إستهداف النساء في ولاية الخرطوم عن طريق قانون النظام العام فحددت لهن مداخل خاصة في المواصلات العامة ومقاعد محددة لتوفير مزيد من الفرص لتعريضهن للعقاب، وهكذا أصبح خطر الملاحقة القضائية ماثل في أي نشاط تقوم به النساء خارج منازلهن. إستهداف بائعات الشاي والذى ترك للتشريعات المحلية تنظيمه هو جزء من الحملة ضد الأنوثة، فليس هنالك ما يميز بائعات الشاي عن غيرهن من الباعة خارج المحلات التجارية سوى أنوثتهن. وهى إسترابة مرَضية وغير منطقية وغير مبررة تركزت هذه المرة على بائعات الشاي بغرض حسبما يذكر الرسميون إلغاء هذه المهنة تماماً، فما هو السبب فى ذلك؟. بائعة الشاي تقدم خدمة لا غنى عنها للفقراء الذين لا يستطيعون تناول الشاي في الكافتريات أثناء ساعات العمل أو عند طلبهم لخدمة في المصالح الحكومية. وهذه المهنة ليس فيها ما يخدش الحياء أو ما يخالف التقاليد كما وأنها مهنة لا تحتاج لتدريب خاص خارج الحياة العادية للنساء مما يسهل معه أن تقوم بها النساء البسيطات اللائي لا توفر لهن الحياة رفاهية البقاء في بيوتهن بدون عمل. أما لماذا بائعات الشاي وليست بائعات الكسرة مثلاً فالسبب في ذلك هو أن تناول الشاي يتطلب بعض الوقت، وهذا الوقت هو الذي جعل من هذه المهنة تحمل خطر الوقوع في براثن الإغواء، وفق الذهنية السائدة ففي حين تنتهي العلاقة ببائعة الكسرة في لحظات، يستغرق تناول الشاي زمناً تستشعر فيه ذهنية الإسترابة في الأنوثة إمكانية وقوع خطأ ما، لذلك فقد شمرت هذه الذهنية عن ساعدها للقضاء على مهنة ست الشاي. نبيل أديب عبدالله المحامي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة