نشر بتاريخ الإثنين, 23 تشرين2/نوفمبر 2015 13:58 بقلم:د. محمد شرف الدين *معطياتلم يكن احد ليعتقد، قبل شهور خلت، أن الطائرات الحربية الروسية ستحلق شاهقاً مستأسدة فوق سماوات سوريا، بحثاً عن أوكار للمجموعات الإرهابية لدكها دكاً، وان البوارج الحربية الروسية الراسية في بحر قزوين على بعد مئات الكيلومترات، تنفث حممها على رؤوس مقاتلي الدولة الإسلامية في مخائبهم فتنسفها نسفاً، وأن القاذفات الروسية بعيدة المدى تهدر من قواعدها في روسيا صوب سوريا فيتوجس المتشددون في جحورهم خيفة من قنابلها ... فلم يعد لغزاً أن الحملة العسكرية الروسية هي في حد ذاتها لغز معقد مثير للتكهنات، بيد انها، اسهمت على نحو واسع في فك العديد من ألغاز الصراع المحتدم في منطقة الشرق الاوسط ردحاً من الزمن، وعلى المديين القريب والبعيد.ومما لا ريب فيه ان العملية العسكرية الروسية في سوريا منعطف مفصلي في تاريخ المنطقة السياسي والعلاقات الدولية، ولعله المتغير الأعظم في المعادلة العالمية بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1990م وتشظيه الى «15» دولة يدب الصراع والتناحر بين معظمها.. ومعلوم دون تردد أن القدرة على اتخاذ قرار دخول حرب ما لا بد من انطلاقه من قاعدة قناعات صلدة ومصالح قومية عليا، ليس من بد غير الدفاع عنها مهما كان الثمن باهظاً وأمده غير منظور... اذن ان اطلاق الكرملين لعمليته العسكرية لمحاربة الإرهاب استجابة لطلب دمشق تقوم علي ابجديات الأمن القومي الروسي في المقام الأول وليس كما يتراءى للناظر بأنها مجرد عملية لمساعدة حليف حميم في المنطقة، مثلما ساعد الاتحاد السوفيتي بخبرائه وترسانته التقليدية الضخمة الدول العربية والسادات في حربها ضد اسرائيل في عام 1973م، اذ كانت مهمة الدفاع الجوي عن القاهرة على عاتق الخبراء الروس الذين نصبوا بجدارة حلقات صاروخية حول القاهرة لصد اية غارات جوية تستهدف العاصمة المصرية، وتحقق ذلك بالمهارات العالية للخبراء الروس. ومن هنا يجوز القول ان الجيش الروسي له الخبرة التراكمية التاريخية للعمل الحربي في بيئة الشرق الأوسط التي تختلف طبوغرافيتها العسكرية عن البيئة الروسية. وهذه ميزة تفضيلية من المحتمل استصحابها في العلمليات العسكرية الحالية مع بعض المتغيرات الطفيفة اذا كانت على مستوى التكنلوجيا ونوعية الأسلحة المستخدمة، ففي الحرب الحالية كما شهد العالم فإن بعض الطائرات تنفذ طلعاتها انطلاقاً من قواعدها في العمق الروسي.عين الكرملين الحمراء ونفسه الجديدأظهرت العملية العسكرية الروسية في سوريا قدرات الجيش الروسي عملياً على ادارة الحرب باحترافية مذهلة، وكشفت ايضاً عن نوعية اسلحة التصقت في اذهان العالم بانها حكر على ترسانة الولايات المتحدة وفنونها القتالية، خاصة القدرات الصاروخية التي تطلق من البوارج الحربية ودقيقة التصويب، والتوجيه الطيع وإصابتها الفعالة للأهداف، فهذه المناورة التكنولوجية العسكرية تنطوي على عدد من الرسائل تصل الى عدد من الجهات، سواء أكانت في الغرب او الدول المجاورة لروسيا التي تضمر عداءً للكرملين، فهذه الرسائل يمكن قراءتها في سياقات مختلفة، اهما انها اسفرت عن وجه جديد للكرملين يتصف بملامح وتضاريس صارمة لا تمزح، وأن المزحة معها قد تكلف المازح فادح الاثمان، انها بمثابة «عين حمراء» مصوبة على القاصي والداني.. كما أنها تمثل دعامة فولاذية للسياسة الخارجية الروسية ونفساً جديداً في المحافل الدولية مثيراً للخشية ويحسب له الف حساب.كزلار.. بديونفسك ــ بسلان ــ بيرفامايسكيعلم العالم اجمع أن روسيا عانت في العقدين الماضيين من العمليات الإرهابية التي وقعت في عشرات المدن الروسية بدءاً من عملية الهجوم التي تزعمها شامييل بسايف ــ اغتيل لاحقا بعملية خاصة ــ علي بديونفسك واحتجاز الرهائن في مستشفى المدينة في مقاطعة استفربول في جنوب غرب روسيا ابان عهد الرئيس الروسي الاسبق بوريس يلسن، التي استطاع فيها المتمردون الشيشان ارغام الحكومة الروسية ولي ذراعها للإذعان لمطالبهم في حوار مباشر على القناة الروسة الرسمية بين الكسندر روسكوي رئيس وزارء روسيا وقتذاك وزعيم المتمردين ــ هكذا كان يطلق عليهم في وسائل الاعلام الروسي آنذاك ــ حيث وفرت الحكومة لهم غذاءً وحافلات لنقل الرهائن، والتزمت بعدم تعقبهم بالمروحيات، وتكرر نفس المشهد بعد عام تقريباً عام 1996 بعملية اقتحام مدينة كزلار في جمهورية داغستان المجاورة واحتجاز رهائن في المستشفى، وقاد العملية سلمان رادويف ــ قبض عليه لاحقاً في عملية خاصة وحكم عليه بالسجن بالمؤبد وتوفي في السجن عام 2000م، وهو صهر اول رئيس لجمهورية الشيشان الجنرال جوهر دودايف الذي اغتيل في عمليه نوعية قامت بها القوات الروسية، وانتهت تلك العملية في بلدة برفامايسك بحمام دم قتل خلاله العشرات. وتوالى مسلسل العمليات التفجيرية الانتحارية انتهاءً بعملية مسرح دوبروفسكي في قلب موسكو، تلك العملية التي تعاملت معها الأجهزة الامنية الروسية ببأس شديد ولم تصغ لأية مطالب للمتمردين الذين بات الإعلام الروسي يطلق عليهم اسم إرهابيين وليس متمردين كما كان في السابق.ان التغير في المصطلح في الخطاب الرسمي الروسي كان مؤشراً فارقاً عن تغيير جذري في نظرة وفلسفة الحكومة الروسية في التعامل مع الانفصاليين الشيشان، ومع ازدياد قبضة موسكو واشتداد عودها بعيد اعتلاء بوتين السلطة في الكرملين، لم تتبدل لهجة الخطاب الرسمي الروسي داخلياً تجاه المعارضة او المجموعات المسلحة في شمال القوقاز فحسب، بل تغيرت تلك النبرة في آذان الغرب وعلي رأسه واشنطن، فلم تعد الدول الغربية تسمع ما تريد ان تسمعه من روسيا حول مختلف القضايا الدولية، بل باتت تسمع وبغلظة ما لا تريد سماعه من الكرملين، مما اوحى لكثير من المراقبين الدوليين الاعتقاد بأن الحرب الباردة بين الشرق والغرب قد بعثت من جديد، وان الخلافات المتصاعدة ايقظتها من سبات عميق.. وبات العالم يدنو من حافة مواجهات محورية جديدة توجج سباق تسلح لا يسمن بل يغني العالم فقراً.حرب وقائية ضد غول داعشيجد المراقب دون عناء، ونظراً لتاريخ صراع روسيا مع العمليات الارهابية علي اراضيها، أن تدخل روسيا عسكرياً في سوريا تهدف من ورائه حماية نفسها من خطر الارهاب المحتمل حدوثه اذا ما استطاعت ما تسمى الدولة الإسلامية بسط سطوتها على كامل سوريا، حيئنذٍ، سيصبح هذا البلد مركزاً لتدريب المتشددين وتوجيههم واعادتهم الى بلدانهم الاصلية للقيام مقام الدولة الاسلامية هناك، ومعلوم ان صفوف الدولة الإسلامية تضم في طليعتها مقاتلين من روسيا خاصة جمهوريات شمال القوقاز الإسلامية كالشيشان وداغستان وانغوشيتا وكبريدنا بلغاريا والتبسارنيين والأفاريين وغيرهم، فضلاً عن بعض التتار والقوميات السلافية كالروس والأكرانيين، فالدولة الإسلامية بعد توطيد نفسها في الشام، حتماً ستدلف الى المرحلة الثانية من خططها الهادفة الى التمدد عسكرياً وسياسيا وآيديولوجياً في كل الاتجاهات بما فيها شمال القوقاز لمناصرة الانفصاليين المتشددين الذين يناصرونها اليوم، وتمكينهم من التسلل الى تلك المناطق لاقامة «امارة القوقاز الإسلامية» في خاصرة روسيا الجنوبية، اذن عمل الكرملين بنظرية «أن يتغدى بهم، قبل يتعشوا به».إسرائيل وإيران والسعوديةيبدو من غير المنطقي الاعتقاد بأن الدولة الإسلامية ستكتفي بالسيطرة على سوريا وحدها.. بل يسعى هذا التنظيم ــ بعدها ـ الى ابتلاع الاردن ولبنان وتمهيداً لإجثاث اسرائيل والقائها في البحر ومحوها من الوجود وفقاً لادبيات السلفيين، فقد ادركت الدولة العبرية ابعاد هذا التهديد فلم تتأخر في احكام التنسيق مع القوات الروسية لمنع التضارب او الأخطاء خاصة في العمليات الجوية، من ثم التوجه جنوباً نحو السعودية للانقضاض عليها وتسخير ثرواتها النفطية الهائلة لاخضاع باقي الدول الإسلامية واقامة الخلافة من جاكرتا الى مراكش، وللتنظيم تجارب ماثلة من خلال سيطرته على حقول النفط في شمال العراق التي تتغذى منها آلته الحربية والإعلامية الشرسة.ومن الواضح ان التدخل العسكري الروسي ضخ أملاً في شرايين الأسد ومنحه فرصة ثمينة للبقاء كنظام سياسي، بعد ان كاد ينقرض على ايدي الدولة الإسلامية واشياعها، وأمال الكفة لصالح حلف سوريا ــ ايران ــ حسن نصر الله.. فايران و ذراعها حزب الله عكفوا يدافعون دفاعاً مستميتاً عن نظام الأسد العلوي، فاذا سقط هذا النظام فإنه خسران مبين للنفوذ الايراني في لبنان وبقية الدول العربية وخاصة الخليجية، وربما يكشف انهيار النظام السوري ظهر إيران ويضعها في مواجهة مباشرة مع الدولة الإسلامية التي لن تتردد برهة في توجيه جحافلها الجرارة تجاه بلاد فارس لهدم ضريح «ابو لؤلوة المجوسي» قاتل الخليفة عمر بن الخطاب، وفي الجانب الآخر يهدد ذلك المصالح الروسية في ايران، وتبعاً لذلك تكون روسيا قد فقدت اهم حليفين قويين استراتيجيين في المنطقة هما سوريا وايران، وحرمت روسيا من المياه الدافئة كحلم روسي قديم منذ عهد القياصرة الذين كانوا دوماً يبحثون عن موطئ قدم لروسيا في المياه الجنوبية الدافئة.إفرازات العملية العسكريةظلت روسيا منذ عقود في المفهوم العربي بأنها من المناصرين للقضايا العربية، وان المواطن الروسي مكان ترحيب اينما حل في البلدان العربية، ومكثت هذه الصورة النمطية في ذهن رجل الشارع العادي، غير ان العملية العسكرية في سوريا بدأت تغير هذه النظرة وتثير نوعاً من العدائية خاصة وسط السلفيين والتنظيمات الجهادية الراديكالية تجاه كل ما هو روسي، وانطلاقاً من هذه الروح الجديدة وتغير في المفاهيم من المرجح ان يضع ذلك المصالح الروسية في المنطقة تحت تهديد وخطر الاعتداءات في كافة اشكالها من قبل تلك الجماعات والمتعاطفين معها، وابرز دليل على ذلك الحادث المأساوي لتفجير الطائرة المدنية الروسية في مصر والتي كانت تقل اكثر من «200» راكب في وجهتها من شرم الشيخ المصرية تجاه سانتربورغ في اقصى شمال روسيا.. الحادثة الإرهابية للطائرة زادت من زخم وتيرة العمليات الحربية الروسية وضاعفت من تصميم الكرملين، حيث قال الرئيس الروسي في تصريحات له: «سنبحث عن الجناة اينما كانوا في اية نقطة في الكرة الارضية ونقضي عليهم» وان رصد روسيا مبلغ «50» مليون دولار مكافأة لمن يدلي بمعلومات عن منفذ العملية ومن وارءه دليل آخر على استمرار اوار الحرب ضد الجماعات المتشددة، ولا يوحي بذلك عن امد قريب عن وقف العمليات العسكرية في سوريا، فعملية تفجير الطائرة المدنية واختراق المنظومة الأمنية في مطار متشدد الإجراءات والتي اعلن عنها رسمياً بأنها تمت بفعل فاعل، تشير الى قدرات احترافية عالية لا تتوفر الا لدى جهات لها امكانات هائلة وصلات واسعة ونفوذ قوي.إنه من المبكر جداً التوقع لمسار العملية الروسية في سوريا لأنها مازالت في مهدها ومازال الطريق وعراً امامها وحافلاً بالمتغيرات الحبلى بالمفاجآت التي ليست بالضرورة ان تكون سارة لكافة الاطراف، غير انه اضحى في حكم المؤكد ان المنطقة دخلت في مرحلة جديدة وصعد الى حلبتها لاعب قوي بقدرات ضخمة في مختلف المجالات.. ومما لا شك فيه ان روسيا سيكون لها النصيب الأعظم من عملية اعادة اعمار سوريا بعد ان تضع الحرب اوزارها يوماً ما.. الا ان بعض المخاوف تجتاح المراقبين بأن يكرر الأسد ما فعله سلفه السادات الذي طرد السوفيت وفض تحالفه معهم بعد أن كان حلفيهم المدلل وصديقهم الحميم في المنطقة، وانكب في احضان الأمريكان.. فالسياسة لا ثوابت فيها، فأصدقاء اليوم أعداء الغد وأعداء الأمس يمكن أن يكونوا أصدقاء اليوم.. ويخشى بعد أن تنجح روسيا في تخليص المنطقة من خطر ما يسمى الدولة الإسلامية أن يؤول حلفهم مع الأسد الى ما آل إليه حلف الاتحاد السوفيتي مع السادات، وينطبق عليهم المثل السوداني «الخيل تجقلب والشكر لي حماد».٭ باحث في الشؤون الروسية
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة