|
اسطنبول : مغازلة الجسد/د.أمل فايز الكردفاني
|
تموجات طيفية لأغانٍ رومانسية تحلق في أرجاء الأرض الخضراء ، ذات الأزقة المعبدة بالطوب الحجري الأسود، حيث الأنجم تتلألأ فوق العشاق ، وترق نسمات باردة قادمة من البسفور ، لتزيد التصاق كل حبيبين وهما يتدفئآن بالقبلات المشتاقة ، فوق كل حجر خطوات عاشقين . كانت قدماي تعجزان عن دفع جسدي إلى الأمام . وأنا أحاول أن أراقب كل قبلة بين فتى وفتاة. همست: في اسطنبول ؛ يمكنني أن أحصي النجوم ولكنني لن استطيع أن أحصي القبلات. الأفخاذ العارية ، والصدور العارمة ، والأضواء المتلألأة ، والحب ، وفرق المتسولين الموسيقية القادمة من أقاصي الدنيا ، وال########ون والمومسات ، والخمارات ، والمحال التجارية ، والأضواء (والمآذن والكنائس الخاليتان) ، وبقايا آثار السلطنة العثمانية والإمبراطورية الرومانية الزائلة ، تلك المدينة المشبعة بالكامل بكل شيء ، وبدون أدنى تناقض حتى مع الإتجاه الإسلامي الذي يزعمه ويتزعمه أردوغان وكومبارسه المسرحي السياسي. لا مجال هنا لأن أتساءل عن حقيقة هذا الزعم ، لأنه يبدو ككذبة أبريل. ولدنا عرباً وعشنا كعرب وسنموت عرباً ، بتناقضاتنا ما بين الظاهر والباطن. حيث يعتبر التلامس الجسدي صعباً ، نهرب –حينئذٍ- إلى الكلمات ؛ نتحول إلى ظاهرة صوتية ، إلى شعراء الرومانسية ، أما في إسطنبول فلا حاجة إلى الشعر ، فمغازلة الجسد تغني عن الكلام . على ميدان تقسيم ؛ حاصرتني الحمائم المستأنسة ، ونفوس قد زوِّجت ، ورائحة عطر شقراء أسلمت خصرها لشاب رشيق الجسد ، كانت الأرض تدور من حولهما ، وكنت أسير مبتسماً ومكتئباً ، كانت إيقاعات المتسولين تأتيني من أعماق شارع الإستقلال ، فاتجهت نحوها ، كانت تناديني وكنت متلهفاً بتوحدي النفسي للقائها. لا شيء أغلى من أن تكون وحيداً في قلب عالم يجهل لغتك. ولكنك لا تجهل لغة الإنسانية ، متسولون سوريون قطعوا استغراقي في وحشتي ، في الواقع متسولة سورية ، لم أمنحها شيئاً . لقد شعرت بالأسى لأنني أرى شعباً عربياً يتسول في دولة لديها من الرواسب التارخية مع العرب والعداء المستحكم ما لديها. ظننت أن الحكومة التركية تتعمد ترك المتسولين السوريين على سجيتهم إمعاناً في إذلال العرب. صديقي رفض هذا التفسير . إنني لا أفكر بحسن نية تجاه الأتراك ولا شيء يجعلني أفكر تجاههم بحسن نية. تدخلهم السافر في قضايا عربية ليست من شأنهم بحثاً عن هوية للدولة على حسابنا لا يمكنني أن أتقبله بحسن نية. ولكن .. مالي أنا وهذاء الهراء .. لماذا ألوث الجمال بسخافات السياسة. النوارس : اعتمرت قبعتي وأنا أمثل دور السائح الملهم ، وأخذت –مع الحشود- أصعد أدراج المرفأ إلى السفينة لتعبر بنا إلى جزيرة الأميرات ، جلست في قمرة قرب النافذة ، وما ان هممت بتصوير المشهد البحري ، حتى وجدت شابا وشابة وقد قفزا جالسين في الخارج أمام النافذة مباشرة ، طلبت من الشاب الإبتعاد قليلاً للتصوير فلم يبتعد سوى سنتمترات قليلة وعاد ليلتصق بفتاته ، ويديرا كؤوس القبلات التي لم تتوقف حتى بلوغنا إلى الجزيرة ، خرجت من القمرة وأخذت اشق جموع المحتشدين لتصوير البحر ، تذكرت قصيدتي : أيها البحر ساكناً تتجلى في خشوع كراهب بمُصلَّى إصطفاك الخلود في الأرض خِلَّا وأنا الساهي في خلودك أبلى فإذا جفت ينابيع روحي واستوى البؤس بَعداً وقَبلا أسْـكرَتْ روحُك البهية روحي فهي بالوحي من بديعك حُبلى لكن البحر لم يك ساكناً ، كان مضطرماً كقلبي بأمواجه المتلاطمة ، وكانت النوارس تصرخ وهي تقفوا قطع الخبز التي يلقيها لها البشر فتلقفها وهي في الهواء قبل أن يبتلعها ماء البحر الهائج ، كان الجو بارداً ، وكانت الجزر الجبلية الخضراء تبرز من سطح البحر صامدة في مواجهة أمواجه ، ومنازلها البديعة المتراصة بتدرج رأسي حاملة أسقفها الحمراء كزهور ربيعية. كان كل مشهدٍ مؤلماً ، وموجعاً ؛حينما تكون حواسك عاجزة عن احتواء كل هذا الجمال . وحين بلغنا جزيرة الأميرات ، كان .... الصمت. كانت الجزيرة الخضراء تنتظر السائحين لتهديهم فاكهة من جسدها ، تخيرنا الحنطور ، وسار بنا الرجل العجوز ذو الفك السفلي المتقدم على العلوي ، مما يوحي بسقوط أسنانه ، وهو يحرك الجوادين ببراعة وسلاسة . كانت الفتيات العشرينيات يعبرننا بدراجاتهن الصغيرة والهواء يرسل خصلات شعرهن إلى الخلف، كنا ننظر إليهن وكنَّ لا يريننا ، ولا يدركن بأنهن موضوع لإحساسنا بالجمال. قلت لصديقي بحسرة: الماء ... الخضرة ... الوجه الحسن. فردد بضحكته البريئة التي أحبها: أيا ابنة كل اخضرار المروج أنا ابن الجفاف .. وما استولدا ويا ابنة كل مياه الغمام أنا طفل كل قرون الصدى ويا كل أفراح كل الطيور أنا كل أحزان من قُيدا نظرت إليه فقال: القصيبي. كانت قصائد على محمود طه كلها تحوم في رأسي ، لكنني لم أشأ أن أرددها ، وذكرتني أبيات القصيبي ببيتٍ للعباسي: يا بنت عشرين والأيام مقبلة *** ماذا تريدين من موعود خمسين إن بنت عشرين عند العباسي لم تكن فتاة حسناء ، بل كانت الدنيا التي تدعوه للتشبث بها قبل الوداع الأخير. الدنيا التي كان يهفو لأن تروي حواسه الظامئة من نهرها قبل أن يفارقها إلى حيث البرزخ. وهأنا الآن كالعباسي لكنني أهرب نحو الحياة من الحياة ، حيث تختلط قيم المعادلة وتتماهى الرغبات مع الصور ، وتفقد الأشياء مادتها لتتحول إلى معنويات مطلقة الجمال. حيث يفقد الشعر قدرته على وصف الواقع ، أو كما يقول الداديون (قصور اللغة وعجزها) . كانت بعض الفلل الصغيرة مختفية داخل أشجار البلوط ، وكان الشارع الأسفلتي يلتف محاذيا الدغل المنحدر إلى الأسفل. حتى بلغنا مطعماً صغيراً قررنا ألا نذهب إليه وطلبنا من السائس أن يستمر في جولته ، وهكذا أخذ يدور بنا حول جزيرة الأميرات. ليس بالضرورة أن ترى أميرات حقيقيات هناك ، فكل مشهد في الجزيرة هو خيال أسطوري من التاريخ يتجسد في الحاضر. هل كان الصمت ما استقبلنا في جزيرة الأميرات؟ في الواقع ، لا .. لم يكن كذلك ، فمن المستحيل أن تدلف إلى الفردوس دون أن يحمل أثيره ذلك اللحن الملائكي ، إن العالم النوراني مخلوق هو بذاته من طاقة الطيف الموسيقي.... تلك التي لا تفنى ... ولا تستحدث. زليها أو (زليخا) : يقول الصوفيون كابن عربي والحلاج بأن الله في كل شيء ، في الحجر والمدر ، في الحيوان والجماد والنبات ، وفي عيني زليخا ، تلك الفتاة التركية ذات العينين الزرقاوين والشعر الأشقر والضحكة المندهشة ، تلك الحسناء التي لا تعرف العربية ولا الإنجليزية ، بل ولا حتى لغة الإشارة ، إنها لم تكن تفهم أكثر مما اعتادت على فهمه طوال حياتها في بورصة ، تلك الأرض الجبلية ذات الطريق الحلزوني المحيط بالجبل ، كنت أتعمد إضحاكها عندما أنظر إليها مندهشاً من عدم فهمها لحديثنا فتنظر لوهلة بصمت ودهشة نحونا ، ثم تطلق ضحكة قصيرة ، كان جسدها البض كله يرتجف تبعاً لها. ورأيت خدودها تتورد فتتسع عيناها وتبدو شفاهها الفراولية مزمومة كشفاه طفل خائف. زليها أو كما نسميها بالعربية (زليخا) ، هي الجسد المغزول بالجمال ، الروح المخلَّقة من مضغة البراءة ، ولكنها لم تكن ذكية أبداً . لم يكن تفكيرها ليغادر الدوال التي في محيطها. كانت تدور في فلك معطيات ثابتة. كانت ذلك الواحد الماترينيدي بإمتياز . ولكن هل هذا عيب؟ لا ، ليس من العيب ألا تكون ذكية ، بل إن من العيب أن تتمتع بكل مواهب المنح الربانية للإنسانية. إنها حواء في صورتها الأولى وقبل أن تقرب شجرة الفناء. ولكن من هو آدم ؟ لست أنا .. إنه شخص لم أعرفه حتى الآن ، لأنني غادرت بورصة دون أن ألتقي بها مرة أخرى . إنها –وفق المرسوم القدري- جزء من المشهد ، يجب أن تعبره ، تلقي نحوه نظرة حالمة فقط ... ثم.... تغادر باحثاً عن بقايا الآلاء المقدسة حول الأرض التي تدور حول نفسها وحول الشمس وحول أحلامنا المجهضة. د.أمل فايز الكردفاني 20/10/2013م
|
|
|
|
|
|