عامٌ ونصف، وأنا دون عنوان..لا رسائل ولا أخبار، إلا ما تتناقله وكالات الأنباء عن تحرير توريت أو احتلالها.
الواردون عبر طريق الكُفرة، يتحدّثون عن اختفاء "برشل"، وعن طائرة "رامبو" التي رفعها عند حدائق أبريل، وعن صينية من "قندول" شيّدها في السوق العربي.
اختفى برشل، الذي كان يخطب بعمامته البيضاء، ضد النظام أمام دوّار الخارجية.
طوى الغيب اغراءاته للشوارع، عشية محاولة اغتيال "الريِّس" في أديس أبابا.
كيف اختفى..؟
قيل أنه مجنون..!!
أُحِنُّ إلى تلك الأيام..
أيام كانَ للتحبيسة طعم، وللعِطر مذاق.. لهف نفسي على النساء العابرات للقارات، وللحَزَن..!
الخزرجية تأتي في الليل.. تُفرّ ثوبها المربوط في خاصرتها..تستجمعته على كتفها..تسوح بعينين قويتين على المقهى بكراسيه ومناضِده، وأنا..
أنا هناك، ضِمناً من أشياء لا خطر لها، بمقاييس الفاتح العظيم..!
الخزرجية تدس دنانيرها في صدرها وتخرج إلى العلَنْ..أين مرابط أفراسها يا إلهي..!؟
الشّراب في بيت العزابة، لا يحتاج إلى خمّة نَفَسْ..فما الخندريسُ سوى العُنّاب مخلوطاً بحليب البلابل..بقليل من الصبر، يغدو كل ذلك رزقاً حسنا..!
"كل الناس طيبين"..هذه الحكمة سمعتها من المروكي رشيد، الذي كان يدير مقهىً صغيراً في ركن ميدان الساعة بمدينة مِصراتة..كنتُ أشرب قهوته القارِصة، فيسلبني الباقي، بتلاقيط من قِطع الحلوى واللُّبان..
لا فائِدة..!
كم تحاججْت معه، حتى يعطيني الباقي، فأنا غريب يعيش بميزانية "لِجام الدّلِق"..!
آخر مرة قبل رحيلي ، قلت له، أنني لا أتعاطى الحلويات، فسألني:ــ
" ليش"..؟
ثم أضاف :ــ
ــ قَدّاشْ إتْخَلَقْتْ..؟
*يخلِقْ "...."..!
*يا بني آدم، أنا عندي سُكّري، رجّع لي الباقي..!
.. ربّي يُنذرني بتجديد جواز السّفر..قال لي :ــ
ــ عبد الله..جوازك طايِح..!
ربّي يريد مني تجديد الجواز، ليأخذني رهينة..أعرِف أنّه لن يعيده إليّ، إلا إذا تنازلت له عن عَرَقِي..!
أقرضني رسوم التجديد..أقرضني من حسابي، ما يجعلني داخِل جيبه..!
في الطريق إلى سفارة بلدي في طرابلس، كنت أُحدِّث نفسي..يجب ألّا أكون عاطلاً أبداً..سآخذ كفافي من خبز ربّي ، حتى يرزقني الله، كما يرزُق الطير..
قال لي ربّي :ــ
ــ ريّت واللّا..ريّت واللّا..؟
*يا زول، قلت ليك باكِر من الصباح ،حأمشي سفارة الأُخوان، وأجدد ليك الجواز، وأجيبو ليك..تاني شنو..؟
كان يخاف هروبي من قبضته..
لن يجدَ عتالياً باهِياً مثلي.. لقد حَفِيّتْ أقدامي من طبرق، إلى سرت، إلى بنيغازي، إلى مصراتة ،إلى طرابلس، إلى هذه الزاوية، حتى وقعت في عِبّه.
أنا من جئت إليه بمحض اختياري..
كلما حصدتُ شيئاً من كدحي، سخّرته في رحلة البحث عن رزقي معه..!
دفعت لقنصلية الأُخوان، رسوماً بمقدار دخلي في اسبوعين..
حلال عليكم يا كيزان..!
يكفيكم تيهاً ، أن تجمعني بكم ملّة واحدة.. خذوا المصاري وجدِّدوا لي هويّتي، فإن ربّي، لو انطبقت السماء على الأرض، لن يمنحني أكثرَ من هذا، و قليلا رايِح، وكتِيرا رايِح..
ربّي لن يحسب لي أجر هذا اليوم..إذن ،دعوني أتسكّع في طرابلس طالما جِئتُ إليها..
بعد سنوات من خطواتي في أزقّة المدينة القديمة في طرابلس الغرب، صعد القائد لخطبته الأخيرة، فوق هذا السطوح المُطل على الساحة الخضراء..
قال لشباب الفاتح أبداً : "غنوا وافرحوا وارقصوا، واقتلوا أعداءكم، لأن من لا يحب القائد يستحق الموت"..!
تزُخ السماء زخيخها، فألوذ بالبرندات..وقفت أمام باب متجر،أومأ لي رأس صاحِبها، بأن أُغادِر..
ــ برّة، هيّا برّة ، برّة..!
غبْرَتي لا تدُل على أنني ساشتري شيئا.. المطر يغسل الجدران، والشجر، والمَنشّاتُ تلوِّح فوق رتاج الزجاج، وأي بيت عربي هجره الآهلون يصلح لسكنى السوّدِاين..
قال القائد، أن "البيت لساكِنه..توّا، لو طلع النبي، من قبْرا،وقال هذا بيتي،ما أعطيه إياه"..!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة