|
اجتهادات ابن تيمية في فقه العلاقات الدولية وأثرها على الواقع المعاصر
|
دعا الأمير عبد المحمود أبو الأمين العام لهيئة شئون الأنصار للتعامل مع الواقع بمقتضياته ولإستصحاب تجارب الأخرين في تحقيق العدالة و المصلحة العامة كالديمقراطية و التداول السلمي للسلطة و الرقابة علي الأجهزة التنفيذية من قبل أجهزة التشريعية قوامها نواب منتخبون وأن مصالح الأمة متجددة لا تتناقض مع أصول الشريعة الإسلامية وأضاف ان السياسة الشرعية هل التي تحكم مواقف الدولة في حالة المصالحة و الحرب و المواثيق الدولية .وكان الحبيب عبد المحمود أبو قد شارك في أعمال الندوة العالمية الرابعة بصنعاء والتي أقامها مركز الإمام (أبوعبدالله )الشافعي العلمي تحت عنوان إصلاحلات أبن تيميه وأثرها في بناء الدولة وقدم ورقة و ادار أحدى جلسات المؤتمر. ادناه نص الورقة التي قدمها مركز الإمام (أبوعبدالله )الشافعي العلمي الندوة التكميلية الإقليمية الرابعة الجمهورية اليمنية 29-30 /4/2014م إصلاحات ابن تيمية وأثرها في بناء الدولة اجتهادات ابن تيمية في فقه العلاقات الدولية وأثرها على الواقع المعاصر تقديم الأمير: عبدالمحمود أبو ابراهيم الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار للدعوة والارشاد السودان بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الإسلام هو الدين الذي ختم الله بهِ الرسالات السابقة، جاء متضمنا لأصولها التي اتفق عليها كل الرسل، وجاء تشريعه يتضمن أحكاما ومبادئ ومقاصد صالحة لكل زمان ومكان ، ومنهج الإسلام في التشريع يقوم على التدرج ورفع الحرج عن الناس مع مراعاة الواقع والاستجابة لكل المستجدات التي تطرأ في حياة الناس . قال تعالى: " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" [المائدة :48] وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أحكام الإسلام من خلال مصدري التشريع الكتاب والسنة، وشرع الاجتهاد لاستنباط الحكم الشرعي في النوازل التي تستجد في الواقع ولم ينص على حكمها صراحة، ولفهم حكم الشرعي من تلك النصوص التي تكون قابلة لتعدد الأفهام ، وفي سيرة رسول الله شواهد كثيرة تبين إقراره صلى الله عليه وسلم لاجتهاد صحابته الكرام ؛ بل عندما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال له: " بم تحكم؟ قال بكتاب الله ، قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله . قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمدلله الذي وفق رسول رسول الله لمايرضي رسول الله" وقد اجتهد الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون ومن تبعهم لتوضيح أحكام الإسلام في كافة المجالات التي واجهتم مما رفد المكتبة الإسلامية بمؤلفات لاتحصى في كافة أنواع الفنون والعلوم الشرعية ، ولم يخل عصر من العصور من وجود المجتهدين لتأكيد صلاحية الإسلام وقدرته على التعامل مع كل النوازل التي تواجه الأمة الإسلامية. إن مجهودات شيخ الإسلام ابن تيمية تصب في هذا النهر الذي يحمل المجهودات العلمية لسلف هذه الأمة، وقد تميز ابن تيمية ببراعته في تفسير القرآن كما أشار لذلك الإمام الذهبي فقد "غاص في دقيق معانيه بطبع سيال ، وخاطر إلى مواقع الاشكال ميال ، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها ، وبرع في الحديث وحفظه ، فقل من يحفظ مايحفظه من الحديث ، معزوا إلى أصوله وصحابته مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل. وفاق الناس في معرفة الفقه ، واختلاف المذاهب ، وفتاوى الصحابة والتابعين ، بحيث أنه إذا أفتى لم يلتزم مذهبا، بل يقوم بمادليله عنده ، وأتقن العربية أصولا وفروعا...ونظر في العقليات ، وعرف أقوال المتكلمين ، ورد عليهم ونبه على خطئهم وحذر منهم" مع هذه الصفات وغيرها التي تؤهله للاجتهاد فإن ابن تيمية عاش في عصر تكالب فيه الصليبيون على الدولة الإسلامية، وشهد اجتياح المغول لدولة الخلافة؛ "فانطلق داعية إصلاح وتجديد تدفعه الغيرة على دين العباد والغيرة على أرواحهم وعقولهم" ولقد صور صاحب الكامل في التاريخ ذلك العصر بقوله : " لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر – قبحهم الله – أقبلوا من المشرق ، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها ... ومنها خروج الفرنج – لعنهم الله – من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر ، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها ، لولالطف الله تعالى ونصره عليهم" فحمل سيفه فضلا عن قلمه لمواجهة أعداء الأمة؛ وجاءت اجتهاداته تخاطب الواقع الذي عاصر أحداثه واشترك فيها. ولاشك أن اجتهاداته فيما يتعلق بالعلاقة مع الآخر جاءت متأثرة بالواقع الذي عاش فيه على أساس التعامل مع النوازل بما يلائمها من أحكام.إن اختيار مركز الإمام "أبوعبدالله الشافعي" لابن تيمية واجتهادات محورا لهذه الندوة اختيار موفق للآتي: 1- الفترة التي جاء ابن تيمية فيها تشبه إلى حد كبير واقعنا المعاصر، من حيث الحاجة إلى الاجتهاد ، وقد قام بتجديد وإحياء الاجتهاد الشرعي ، فالتعرف على نموذجه وطريقته وضوابطه في الاجتهاد يساعد في توضيح الاجتهاد المعاصر. 2- شيخ الإسلام ابن تيمية يشكل حضورا ملموسا في الأوساط العلمية ولآرئه رواجا كبيرا بين أفراد الجماعات الإسلامية ، وهناك مدارس بأكملها متأثرة بفكره 3- تميزه بكثرة المعالجات والفتاوي الفقهية ، مما يسهل تتبع ودراسة منهجيته في الفهم والاستنباط والفتوى. كما أن كثيرا من المتحمسين يستندون إلى آرائه في تصديهم لبعض الممارسات دون إدراك لطبيعة منهجه ولا تكييف صحيح للوقائع التي يصوبون عليها، فكان من المهم الوقوف على منهجه وآرائه وأفكاره ومدى آثارها على الواقع المعاصر. المحور الأول: منهج ابن تيمية في استنباط الأحكام ابن تيمية عالم مجتهد لم يقلد غيره وإن كانت آراؤه في الغالب تنسب إلى المذهب الحنلي، حيث يذكر ابن تيمية في أكثرمن موضع إعجابه وترجيحه لآراء الامام أحمد بن حنبل على غيره ، ويتبنى مواقف مشابهة لمواقف أحمد بن حنبل – لكن هذا لايعني أن مذهب ابن تيمية استمرار لمذهب أحمد ولا أنه ينقلها منه ويحافظ على دلالتها الأصلية. فالباحثون في اجتهادات ابن تيمية لم يتفقوا على أصول منهجه في الاستنباط ولاعلى ترتيبها ، فمنهم من رتب أصوله على: الكتاب، والسنة، والاجماع، وقول الصحابي، والقياس، والاستصحاب، والمصلحة المرسلة، والذرائع، والعرف ومنهم من حصرها في الآتي: 1- الكتاب 2- السنة 3- الإجماع 4- القياس 5- بقية الأصول وبقية الأصول يعني بها الأدلة المختلف فيها – بعد القياس – وهي عمل أهل المدينة ، والاستصحاب ، وقول الصحابي ، والمصلحة المرسلة ، والذرائع، وعدها أصلا واحدا جاء نتيجة تعامل واستعمال ابن تيمية لهذه الأصول دون أن يعرف عنه تفضيل أوتقديم دليل على آخر، كذلك تعامل ابن تيمية مع هذه الأصول وفق منهج الاعتماد على القرآن والسنة كمرجعية للتشريع ، وعدم الالتفات إلى غيرهذين المصدرين ، فعدُّ الاستصحاب أوالمصلحة المرسلة أوقول الصحابي ؛ أدلة هو من باب التجاوز، وإلا فهي لاتعدو أن تكون مسالك أومناهج تساعد في فهم استنباط الحكم من النصوص. تميز منهج ابن تيمية في التعامل مع هذه الأدلة بعدم مناقشة الدليل كمايعرضه الأصوليون مناقشة أصولية؛ بل إعادة توجيه معنى الدليل ، فتحرير المعنى المقصود من الاستصحاب ، أوعمل أهل المدينة ، هو الشغل الشاغل عند ابن تيمية ، وبالتالي يمكن القول بـأنه يأخذ بهذه الأدلة وفق تصوره وفهمه هو للدليل، وليس بالضرورة أن يأخذ به وفق فهم غيره ولعل هذا هوالذي جعله يعطي مقاصد الشريعة اهتماما بالغا، يظهر ذلك من خلال أبحاثه الكثيرة التي ضمنها كتبه ومما يدل على اهتمامه بالمقاصد الآتي: أولا: أنه يجعل العلم بمقاصد الشريعة من خاصة الفقه في الدين، وفي ذلك يقول: " ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يَحْسُنْ إلا لِتَعَلُّق الأمر به، وأن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ماجاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر ومافي الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها.." ويبين ضرورة معرفة المقاصد لتمييز صحيح القياس من فاسده بقوله: "لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وماتضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ومافيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة والعدل التام .." ثانيا: أنه ذكر المقاصد الخمسة التي يذكرها الأصوليون عادة واستدرك عليهم فيها حيث يقول: "..ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية ودنيوية: جعلوا الأخروية مافي سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم ، وجعلوا الدنيوية ماتضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها كمحبته وخشيته وإخلاص الدين له، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته وغير ذلك من المصالح في الدنيا والآخرة .." ثالثا: أنه عالج مسائل ذات أهمية في مقاصد الشريعة ؛ مثل مسألة الحيل ، وسد الذرائع ، وتعليل الأحكام. رابعا: أنه كثيرا مايستخدم المصلحة في كلامه ويبين القواعد المهمة فيها ، ويبين مايترجح منها وطريقة الترجيح ، والميزان المعتبر فيها، وأهمية الدراية بالمصالح والمفاسد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويبين وجه اختلال المصلحة. خامسا: ذكره لبعض مقاصد التشريع وحكمه مثل: مقصد الولاية ومقصد مخالفة المشركين ومقصد الجهاد وغير ذلك من الحكم الدقيقة، والمقاصد النافعة الذي بينها من خلال كلامه. وهذا يفتح الباب واسعا لقراءة الأدلة وفق مقاصد الشرع وتطورالواقع ، وبهذا يكون ابن تيمية رائد الاجتهاد المقاصدي في عصره. لقد أهله لذلك تميزه بصفات قلما تجتمع في شخص واحد منها: أنه يمتلك حافظة واعية مكنته من حفظ النصوص بأسانيدها مع عمق في التفكير وحضور للبديهة، وأبرز صفاته استقلاله الفكري قال البزار: "وهذا أمر اشتهر وظهر فإنه رضي الله عنه ليس له مصنف ولانص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختار فيه مارجحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرى قول الحق المحض فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة" كما أنه كان يراعي الاخلاص في طلب الحق وهو الشرط الذي نص عليه العلماء لأهميته لطالب الحق وكان يقول: " لايخاف الرجل غير الله إلا عرف في قلبه" وقد جعله الاخلاص ألا يلتفت لإساءة مخالفيه بل عفا عنهم والتمس العذر للحكام الذين سجنوه بناء على فتوى مخالفيه فقال: " إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلدا غيره معذورا، ولم يفعله لحظ نفسه بل لما بلغه مما ظنه حقا من مبلغه والله يعلم أنه بخلافه" ومن مظاهر إخلاصه زهده في المناصب وكل زخرف الدنيا وزينتها فلم يتول منصبا ولم ينازع أحدا في رياسة قال ابن رجب: " لقد عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين ومشيخة الشيوخ فلم يقبل شيئا من ذلك قرأت ذلك بخطه" هذه الصفات أهلته للصدارة العلمية، فضلا عن صفات أخرى كالفصاحة والقدرة البيانية، والشجاعة والصبر وقوة الاحتمال، ومع احتفاء كثير من العلماء بغزارة علمه واجتهاداته إلا أنه كان متواضعا وواضحا أن آراءه ليست معصومه فقال: "إلا لاندعي عصمة أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذنب فضلا عن الخطأ في الاجتهاد" ومع ذلك كان حاد الطبع سريع الغضب ، قال الذهبي – وهو من تلاميذه " أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كان بشرا من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وصدمة للخصوم؛ تزرع له عداوة في النفوس ..وكل يؤخذ من قوله ويترك إلارسول الله صلى الله عليه وسلم" المحور الثاني: نماذج من اجتهادات ابن تيمية في فقه العلاقة مع الآخر مماتقدم يتبين أن ابن تيمية جعل منطلقه في كل اجتهاداته الالتزام بالكتاب والسنة،وتحقيق المصلحة لهذه الأمة؛ وأن مايقوله هو مااهتدى إليه من فهم لمقاصد الشريعة وفق المنهج الذي انتهجه، ومايرد من اجتهادات في هذا المحور يتعلق بفقه العلاقة مع الآخر يدخل ضمن فقه العلاقات الدولية الذي مستنده السياسة الشرعية يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في هذا المجال: " وأما ماكان مرجعه إلى بيان شئون الناس وتدبير أمورهم في هذه الحياة ؛ فكتاب الله صريح في أن أساسه رعاية مصالح الناس وإقامتها على أسس من العدالة الشاملة والمساواة الحكيمة والنظام المستقر في دفع الضرر والحرج عنهم، يدل على ذلك قوله تعالى: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ" [البقرة : 185] كما أن من واجب الولاية السياسية الكبرى تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع" فحسب ظروف زمانه التي سبق ذكرها هداه اجتهاده للأحكام الشرعية التي توصل إليها في هذا المجال ونذكرمنها في هذا المحور النماذج الآتية: أولا: أساس العلاقة مع الآخر السلم وليس الحرب : يقول شيخ الإسلام : " أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا ، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين ، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله" فيفهم من هذا أن القتال لا يشرع إلا في مواجهة المعتدي ، يقول ابن تيمية في ذلك : " لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا اظهار دين الله" فالإسلام لا يبادر بقتال الناس لمجرد الاختلاف في العقيدة وإنما يقاتل من صد عن سبيل الله واعتدى وقد نص على ذلك القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع قال تعالى : "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ" [البقرة:190]ولعل بعض الناس التبس عليه مفهوم جهاد الطلب مع علة قتال الكفار فظن أن علة القتال هي الكفر! فجهاد الطلب مفهومه أن على المسلمين أن يجاهدوا بكل الوسائل لإعلاء كلمة الله وإذلال كلمة الكفر، ولايباح للمسلمين أن يبدؤوا أحدا من الكفار بقتال ، وإنما يباح لهم ذلك عندما يبادر الكفار بقتالهم أوبممانعتهم عن نشر دعوة الإسلام ،فأما من لم يقاتلهم ولم يمانعهم أوهادنهم فإنه لايباح قتله ولاقتاله. وأما علة قتال الكفار فقد ألف فيها ابن تيمية رسالته الشهيرة باسم قاعدة مختصرة في قتال الكفارومهادنتهم رد فيها على قول خاطئ يجعل العلة المبيحة للقتال هي الكفر، فقد رد على هذا القول وبين أنه يخالف النصوص الشرعية ، وأثبت أن الكفر ليس سببا مستقلا في إباحة دم الإنسان وإنما لابد أن ينضاف إليه سبب آخر وهو المقاتلة للمسلمين أوالممانعة من نشر دعوة الإسلام وقالابن تيمية: " والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله ، فمقصوده إقامة دين الله ، لااستيفاء الرجل حظه " "وعلى ذلك فيكون مقصود الجهاد في سبيل الله تحقيق مصلحة التوحيد لله تعالى في العبادة ، ودفع فتنة الكفر عن الناس، أوحصرها في صاحبها فلاتتعدى إلى غيره" ولذا قال ابن تيمية – رحمه الله – " من المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة، ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات لما احتيج إلى القتال فبيان الإسلام وبراهينه واجب مطلقا وجوبا أصليا، وأما الجهاد فمشروع للضرورة" فالسلم أساس العلاقة مع الآخر عند شيخ الاسلام ابن تيمية يفهم ذلك من مجموع اجتهاداته في هذا المجال. ثانيا: تقسيم الدول إلى محاربة وموادعة وأثره في سلوك الدولة الإسلامية: إن النظر إلى الديار خارج النطاق الإسلامي؛ فيه أقوال: فابن القيم تلميذ ابن تيمية يرى أن الديار خارج السيادة الإسلامية تعتبر دار حرب ، ثم يخصص منها للسلم ماكان دار عهد أوموادعة وقال: "الكفار : إما أهل حرب وإما أهل عهد وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان" وذلك لأن لفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل. قال: "ولكن في اصطلاح كثير من الفقهاء (أهل الذمة) عبارة عمن يؤدي الجزية وتفصيل ذلك: 1- أهل الحرب: هم الكفار الذين بين المسلمين وبين دولتهم حرب ولاذمة لهم ولاعهد، قال الشوكاني: " الحربي الذي لاذمة له ولاعهد" 2- أهل الذمة: الكفار المقيمون تحت ذمة المسلمين بدفع الجزية، قال ابن القيم: "أجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس" وحكم أهل الذمة المعاهدين الذين يساكنون المسلمين في ديارهم ويدفعون الجزية أنهم يخضعون للأحكام الإسلامية في غير ما أقروا عليه من أحكام العقائد والعبادات والزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات. ولهم على المسلمين الكف عنهم وحمايتهم . قال الماوردي: "ويلتزم –أي الإمام – لهم ببذل حقين: أحدهما: الكف عنهم. والثاني:الحماية لهم، ليكونوا بالكف آمنين، وبالحماية محروسين" 3- أهل العهد: المعاهد هوالكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد مهادنة 4- أهل الأمان: المستأمن هوالحربي المقيم إقامة مؤقتة في ديار الإسلام والفرق بين أمان الذمي وبين المستأمن هو أن أمان الذمي مؤبد، وأمان المعاهد والمستأمن مؤقت بمدة إقامته التي يصير بتجاوزها من أهل الذمة وتضرب عليه الجزية وكانت هناك معايير لبناء هذا التقسيم: معيار دار الإسلام : (دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام) وتفصيل ذلك أن تلك الديار يكون من شأن المسلمين تطبيق أحكام الشريعة فيها كالحدود وأصول المعاملات وإقامة العبادة كالصلاة والزكاة وإعلان الآذان والجمع والأعياد ونحو ذلك مما يعرف به سريان أحكام الشرع عموما كما أن الأمن فيها للمسلمين على أنفسهم ولا يخافون أن يفتنوا عن دينهم ، ولا ينقص من وصفها بدار الإسلام إقامة الكافرين فيها وهم بأمان مع المسلمين ولو نظرنا إلى هذا المعيار نلاحظ أنه اعتبر: 1- الإقليم المحدود الذي تجري عليه الأحكام هو الحيز المسمى بدار الإسلام. 2- سريان الأحكام على أهل الإقليم ولايتم ذلك إلابوجود من يقيم العدل بين الناس ويردهم إلى الصواب ويفزع إليه الناس عند التنازع ويسوسهم وفقا للشرع وهذا يعني سلطة قائمة أومنصوبة لذلك. 3- وجود الأمن العام للسكان حيث لايخافون من أحد على أنفسهم عند قيامهم بشعائرهم الدينية لاسلطان عليهم غير سلطان الإسلام. 4- إن السكان في الدولة الإسلامية ليس بالضرورة أن يكونوا مسلمين كلهم فربما يقطن أهل الذمة بين ظهراني المسلمين . 5- كما يلاحظ أيضا أنه لايشترط أن تكون تلك الدار ذات المنعة الإسلامية ملاصقة لديار الإسلام فلربما تكون دولة إسلامية ذات منعة وسط دول ليست إسلامية. معيار دار الكفر: أخذ هذا المعيار بالجانب السلبي للمعيار الأول ؛ وهو بأنها الدار التي لاتجري فيها أحكام الإسلام كذلك بالنظر إلى هذا الجانب السلبي لمعيار دار الإسلام نجد: 1- أن كل دار لاتجري عليها أحكام الإسلام تعتبردار حرب وإن لم تكن الحرب قائمة أومعلنة. 2- أن المسلمين – إن وجدوا فيها والأفضل أن لا يكونوا فيها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من مسلم بين مشركين" – لايأمنون فيها على إقامة شعائرهم الإسلامية. 3- من الطبيعي القول بأن سكان من أهل الكفار. 4- من الممكن أن يكون بعض الديار الحربية على موادعة المسلمين وضع الحرب بينهم مدة لكن الأصل هو الحرب. هذا التقسيم فرضه الواقع الذي عاشه المسلمون في مرحلة الصراع مع الآخر يقول الدكتور وهبة الزحيلي: " والواقع أن هذا التقسيم ليس له مستند نصي، وإنما هو توصيف لما يحدث بسبب اشتعال الحرب بين المسلمين وغيرهم، فهو وصف طارئ وحكاية لواقع حادث" وابن القيم الجوزية تلميذ ابن تيمية بعد أن استعرض آراء الفقهاء حول طبيعة الجزية وكيفية أخذها ومعنى الصغار الوارد في الآية الكرامة بين أن المقصود هو خضوعهم لأحكام الإسلام وليس إذلالهم. قال:"ولايحل تكليفهم مالايقدرون عليه ولاتعذيبهم على أدائها ولاحبسهم وضربهم" وروىأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بمال كثير- أحسبه قال من الجزية- فقال: إني أظنكم قد أهلكتم الناس. قالوا: لا والله، ماأخذنا إلاعفوا صفوا. قال: بلاسوط ولانوط؟ قالوا: نعم قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولافي سلطاني وعلق ابن القيم على ذلك بقوله: "وإنما يراد بهذا كله الرفق بأهل الذمة، وألايباع عليهم من متاعهم شيء ، ولكن يؤخذ مما سهل عليهم بالقيمة" ثالثا: مدى جواز التعامل مع الآخرين من غير المسلمين وحدوده : التعامل مع الآخرين ثابت بالكتاب والسنة قال تعالى:" الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ..." [المائدة:5] وثبت أنه صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي سلعة إلى الميسرة وثبت أنه أخذ من يهودي ثلاثين وسقا لم أقف على رأي محدد لابن تيمية حول حدود التعامل مع غيرالمسلمين ولكني اعتمدت على كتاب تلميذه الناشر لآرائه ابن القيم "أحكام أهل الذمة" ففي هذا الكتاب ذكر مجالات التعامل مع في المسلمين وهي: 1- المعاملات التجارية: وتشمل البيع والشراء والشراكة والمضاربة والاستئجار منهم والإجارة لهم على أن يحرص المسلمون على تجنب دخول الربا عليهم فاليهود بصفة خاصة يتعاملون بالربا وهو من الكبائر في الإسلام 2- التواصل الاجتماعي: ويتمثل في التحية والسلام، وعيادة المرضى، والتعزية، والتهنئة؛ فقد أورد الأحاديث الناهية عن بدء أهل الكتاب بالسلام مع شرح معاني السلام وبين أن له خمسة أوجه فصلها، وأما رد التحية فأورد النصوص التي ذكرت أن أهل الكتاب إذا سلموا علينا نرد عليهم بلفظ" وعليكم" وذكر العلة أنهم في الغالب يقولون: "السام عليكم" ولكن إذا تأكد أنهم قالوا السلام عليكم فكيف نرد عليهم؟ قال ابن القيم: "فلوتحقق السامع أن الذمي قال له "سلام عليكم" لاشك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أويقتصر على قوله: "وعليك؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقال تعالى: "وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً"[النساء:86] فندب إلى الفضل وأوجب العدل. ولاينافي هذا شيئا من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الراد "وعليكم" بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقال: " ألاترينني قلت: وعليكم، لما قالوا السام عليكم"؟ ثم قال: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور، لا فيما يخالفه قال تعالى: " وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ.."[المجادلة:8] فإذازال هذا السبب وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه وأردف ابن القيم في الحاشية بقوله: "وهوقول نرتضيه" أما عن عيادة المريض فذكر ثلاث روايات لأحمد: المنع، والإذن، والتفصيل، وذكر في التفصيل فإن أمكنه أن يدعوه إلى الإسلام ويرجو ذلك منه عاده وذكر حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهويقول: "الحمدلله الذي أنقذه من النار" وفي حضور جنائز أهل الكتاب ذكر أن أحمد أجاز ذلك بتفاصيل وأما عن التعزية فقد ذكر أحمد سئل عن ذلك فقال: مرة ما أدري. ومرة قال: ما أحفظ فيه شيئا. ولم يذكر حكما. وكذلك نفس الأمر في التهنئة. وفرق بين التهنئة بالأمور المشتركة كالزواج والتهنئة بالمولود وبين التهنئة بأعيادهم وصومهم. فذكر أن من يقول عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فقال: فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات ، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب رابعا: الصلح مع الكفار: قال ابن تيمية عن صلح الحديبية: "وصالح المشركين صلح الحديبية المشهور، وبذلك الصلح حصل من الفتح مالا يعلمه إلا الله؛ مع أنه قد كان كرهه خلق من المسلمين؛ ولم يعلموا مافيه من حسن العاقبة، حتى قال سهل بن حنيف: أيها الناس! اتهموا الرأي، فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله – صلى الله عليه وسلم أمره لرددت" قال ابن القيم: "الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل الذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان...فهل يجوز لولي الأمر أن يعقد الهدنة مع الكفار عقدا مطلقا لايقدره بمدة، بل يقول: " نكون على العهد ماشئنا" ومن أراد فسخ العقد فله ذلك إذا أعلم الآخر ولم يغدربه" أويقول: " نعاهدكم ماشئنا ونقركم ماشئنا"؟ ويجيب على ذلك بقوله: فهذا للعلماء قولان في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: لايجوز. قال به الشافعي في موضع، ووافقه طائفة من أصحاب أحمد؛ كالقاضي في المجرد، والشيخ في "المغني" ولم يذكروا غيره. والثاني: يجوز ذلك ، وهو الذي نص عليه الشافعي في "المختصر" وقد ذكر الوجهين في مذهب أحمد طائفة آخرهم ابن حمدان. والمذكور عن أبي حنيفة أنها لاتكون لازمة بل جائزة، فإنه جوز للإمام فسخها متى شاء. وهو القول في الطرف المقابل لقول الشافعي الأول. والقول الثالث: وسط بين هذين القولين. يقول ابن القيم: "والقول الثاني – وهو الصواب- أنه يجوز عقدها مطقة ومؤقتة، فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة. ولوجعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة والوكالة والمضاربة ونحوها جاز ذلك، ولكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء ... ويقول: والأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة؛ والمصلحة قد تكون في هذا وفي هذا. وبعد أن استعرض أقوال الفقهاء في جواز الصلح ومنعه ومدته وطبيعته قال ابن القيم: " فهذه التكلفات التي يظهر فيها من تحريف القرآن مايبين فسادها بناها أصحابها على أصل فاسد: وهو أن المعاهدين لايكون عهدهم إلا إلى أجل مسمى! وهو خلاف الكتاب والسنة، وخلاف الأصول، وخلاف مصلحة العالمين. فإذا علم أن المعاهدين يتناول النوعين، وأن الله أمر بنبذ العهد الذي ليس بعقد لازم، وأمر بالوفاء بالعهد اللازم؛ كان في هذا إقرار للقرآن على مادل عليه ووافقته عليه السنة وأصول الشرع، ومصالح الإسلام. وقال: " جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولايتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم" خامسا: تبادل السفراء مع الكفار: قال تعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً... " [الأعراف: 158] ومن المعلوم أنه ىعليه الصلاة والسلام لايستطيع أن يبلغ رسالة ربه مباشرة لكل أمة، ولكل قوم، فاقتضى أن يبعث رسلا وسفراء يوصلون تعاليم ربه لكل خلقه. وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا... " [الحجرات:13] ولايخفى أن عمل الرسل والسفراء يندرج تحت مفهوم التعارف، فإن مهمتهم الاصلاح وتمتين العلاقات بين الشعوب وقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرسال السفراء منذ أن كان في مكة، وكان مصعب ابن عمير أول لرسول في الإسلام وعلى يديه أسلم سكان يثرب التي أصبحت المدينة المنورة فيما بعد. وبعد صلح الحديبية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله وسفراءه إلى ملوك الروم والفرس والقبط وغيرهم من البلدان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخدم الأسلوب الملائم في مخاطبته الملوك والرؤساء؛ فكان يصدر رسائله بعبارة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم أوالفرس أوالقبط! فكانت رسائله بأسلوبها ومنهجها ومحتواها تدل على حكمة في التخاطب؛ فهاهو المقوقس عظيم القبط في مصر يعبر عن عن حكمة رسول الله التي ظهرت من خلال الرسالة والمرسل حيث قال لحاطب بن أبي بلتعة " أحسنت أنت حكيم من عند حكيم وكان صلى الله عليه وسلم يحسن استقبال السفراء ويكرم وفادتهم. وكان إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك" فعندما قدم إليه كتاب مسيلمة الكذاب وفيه رد متعسف سأل صاحبيه (عبدالله بن النواحة وابن أثال) عن رأيهما فيما قال صاحبهما فقالا نقول كما قال. فرد النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: " أما والله لولا أن الرسل لاتقتل لضربت أعناقكما" " ولو تأملنا هذا الرد لرأيناه ردا دبلوماسيا بليغا، فقد كان بمقدوره عليه الصلام والسلام أن يقتلهما أويحبسهما لكنه ىأعطى لنا وللبشرية كلها درسا مستفادا في معاملة الموفد رغم غطرسته وخروجه عن حد اللياقة في الحديث فله في الإسلام حق الحماية والأمن ويؤكد هذا المعنى ابن القيم بقوله: " وكانت تقدم عليه رسل أعدائه وهو على عداوته فلا يهيجهم ولايقتلهم" يقول ابن القيم: " المستأمن هوالذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها وهؤلاء أربعة أقسام: رسل، وتجار، ومستجيرون، حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاءوا دخلوا الإسلام وإن شاءوا رجعوا إلى بلادهم. وطالبوا حاجة من زيارة وغيرها وحكم هؤلاء ألايهجروا ولايقاتلوا ولاتؤخذ منهم الجزية، وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن فمن دخل فيه فذلك، وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحقه به" فإذا وصل السفير أوالرسول بلاد المسلمين فهو في أمان المسلمين، لايتأتى له امضاء مهمته إلا وهو داخل في أمان المسلمين فالأمان لازم وحتمي لانجاح مهمته. المحور الثالث : الواقع الدولي واجتهادات ابن تيمية: لقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية سباقا عندما أدرك أن الواقع الذي يعيش فيه يختلف عن واقع من سبقه من الفقهاء، فلا بد من اجتهاد جديد يستوعب مقاصد الشريعة ويدرك الواقع ليتمكن من استنباط أحكام شرعية توفق بين الواجب والواقع، قال ابن تيمية: " القوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، والقدرة على تنفيذ الأحكام" وقال تلميذه ابن القيم: " نوعان من الفقه لابد للحاكم منهما: فقه أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس.. ثم يطاق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولايجعل الواجب مخالفا للواقع" بهذا المنهج المستوعب لأحكام الشريعة نصوصا ومبادئ وقواعد ومقاصد والمدرك لتطورات الواقع تكون إصلاحات ابن تيمية المنهجية والمقاصدية مؤثرة في واقع المسلمين وعلاقاتهم بالآخرين وذلك على النحو التالي: أولا: النظام السياسي للدولة الإسلامية؛ منذ أن سقطت دولة الخلافة أو بالأحرى أسقطت أصبح المسلمون لايجمعهم رابط سياسي واحد، وتقسمت الدولة الإسلامية إلى دويلات قطرية كل دولة لها حدودها وقيادتها السياسية ونظامها السياسي الذي تحتكم إليه، وهناك من يحمل شعار الخلافة ويجرم المسلمين كلهم بأنهم آثمون لأنهم لم يقيموا نظام الخلافة ولم يحتكموا إلى خليفة تخضع له كل الدول الإسلامية! إن اجتهادات ابن تيمية في هذا المجال تعطي للمسلمين مخرجا وتعفيهم من الحرج الذي شوش ب هبه بعض الناس في وجوههم, يقول ابن تيمية: " إن تحقيق الأمر أن يقال انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة أو عن اجتهاد سائغ مع القدرة على ذلك علما وعملا. فإن كان مع العجز علما وعملا كان ذلك الملك معذورا في ذلك، وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة تسقط كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه" هذا الاجتهاد يرفع عن الأمة الحرج لعجزها عن إقامة الخلافة، ويعطي مشروعية لاختياراتها التي فرضها الظروف المعاصرة التي ألزمت الدول أن تكون لها حدود ومعاهدات مع جيرانها لمنع نشوب الحرب. فالخلافة واجبة وإنما يجوز الخروج عنها قدلا الحاجة أويجوز قبولها مع أي نظام بما ييسر فعل المقصود ولايعسره وتأتي اجتهادات ابن تيمية مؤصلة للمفهوم الذي ساد في عالمنا المعاصر وهو أن الأمة هي مصدر مشروعية الحكم، حيث يرى أن الأمة هي وارثة النبي وهي الحاملة للرسالة من بعده خلافا لكل من زعم أن فردا معينا هو الوارث للنبي، لأن الأمة والرسول قد وضعا وضعاً مشتركاً في القرآن وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: "وأما اجماع الأمة فهو حق لاتجتمع الأمة- ولله الحمد – على ضلالة كما وضعها الله بذلك في الكتاب والسنة، فقال تعالى: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ"[آل عمران:110] وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر كما وصف نبيهم بذلك في قوله تعالى: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ..." [الأعراف:157] وبذلك وصف المؤمنين في قوله تعالى: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِالمُنكَرِ..."[التوبة:71] فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه هذا الإجتهاد يفتح الباب واسعا أمام المسلمين ليقيموا النظام السياسي الذي يلائم ظروفهم وأحوالهم كل دولة لها خصوصيتها وظروفها واستطاعتها على أن تراعي في كل الأحكام الشرعية في كل نظام حسب الاستطاعة والقدرة والمصلحة ، ولا يمنع ذلك التطلع لتحقيق الخلافة الكبرى إذا تيسرت. ثانيا: إن نظرة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم للسياسة الشرعية نظرة واسعة تربط النصوص بالمقاصد والمصلحة؛ وتتصف بالمرونة التي تمكن ولاة الأمور من تحقيق المصلحة المعتبرة شرعا في كل زمان ومكان، فالسياسة وسيلة لتدبير شئون البلاد والعباد ولايستغي المجتمع عنها فابن تيمية يعتبر السياسة الشرعية هي التي تسير وفق قواعد الشريعة من الكتاب والسنة وتتمحور حول محور الشريعة المنزلة؛ على عكس باقي الفقهاء الذين تحدثوا عن السياسة باعتبارها تتمحور حول محور الإمامة التي هي مصدر الولاية عندهم. وعاب ابن القيم على الذين حصروا السياسة فيما نطق به الشرع فقال : " إن أردت لاسياسة إلا مانطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لايجحده عالم بالسنن ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة ...فإن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفروجهه بأي طريق فثم شرع الله ودينه" إن هذا النظر العميق لمفهوم السياسة له أثر كبير في اختيارات المسلمين في العصر الحاضر، فالدولة الحديثة يحكمها دستور وتقوم على مؤسسات ونظم وأحزاب سياسية لإدارة السياسة في الدولة وهي حسب منهج ابن تيمية وتلميذه أعمال مشروعة مادامت لاتخالف الشرع وتحقق المصلحة، وتنطلق من النظرة الإسلامية الشاملة عقيدة وشريعة وقواعد أخلاقية ملزمة ومتكاملة ترتبط بالفكرة الإسلامية الشاملة للكون والحياة وبوظيفة الإنسان في الوجود من العبودية لله والالتزام الاداري بدينه لتحقيق أمنه وسلامه في الدنيا، والفوز برضوان الله في الآخرة هذا المنهج له أثره السياسي الكبير على ممارسات الدول الإسلامية السياسية في العصر الحديث ؛ حيث يعطيهم مشروعية للاستفادة من التجارب الإنسانية والتفاعل مع الواقع بمتغيراته مما يحقق توفيقا بين تعاليم الشريعة والتجربة الإنسانية وبلغة أخرى يوفق بين الأصل والعصر. ثالثا: منهج ابن تيمية من آثاره فتح باب الاجتهاد بشروطه حيث جعل مرجعيته الكتاب والسنة، مع استخدام المصادر الفرعية المستنبطة منهما، ويتحدث بوضوح أن اجتهادات السلف هي محل اعتبار إذا اتفقت مع مقاصد الشريعة ولاءمت الواقع ولكنها غير ملزمة إذا صادمت المصلحة المعتبرة شرعا ، وفهم من النصوص الشرعية ما يخالفها ، فهو لا يقلد غيره ولا يفتي إلا بما يغلب على ظنه أن هذا هو حكم الله، وهو لايلزم أحدا باجتهاده شأنه شأن غيره من علماء الأمة المجتهدين يصيب ويخطئ، وقد تختلف أنظار العلماء حول نفس النصوص وعليه "فإنه لايحق لأحد أن يطبق فتاوي ابن تيمية على واقعنا، ملزما بها الناس في هذا الزمان، مع أن ظروف الأمة وأحوالها – حملا على قواعد الشرع – تختلف تمام الاختلاف عن زمانه، فلا يجوز تطبيق تلك الأحكام لتغير ظروف وأحوال الناس" فابن تيمية نفسه يقول: " إن أقوال بعض الأئمة كالفقهاء ليست حجة لازمة، ولا اجماعا باتفاق المسلمين، قد ثبت أنهم نهوا الناس عن تقليدهم إذا رأوا قولا في الكتاب والسنة أقوى مما قالوا به؛ بل إنهم أمروا أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة" فالاجتهاد في هذا العصر ضرورة لمواجهة المستجدات التي طرأت على المجتمع ولتغيرطبيعة العلاقات بين المسلمين والآخرين وأدوات الاجتهاد متوفرة منها: تدفق المعلومات وسهولة التواصل بين العلماء وتنوع التخصص ممايسهل مهمة الاجتهاد الجماعي المحكم في هذا العصر. رابعا:إن احتفاء ابن تيمية بمقاصد الشرع مثل غيره من علماء المقاصد كالجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والشاطبي يفتح الباب لاعادة صياغة فقه العلاقات الدولية في هذا العصر نتيجة لتغير الأحوال، فالتحولات التي حدثت في الساحة الكونية والمستجدات في العلاقات البشرية ، تفرض علينا وعياً بالواقع المعاصر فما عاد اليهود اليوم مجموعة من الناس يتنقلون بين الحواضر بحثاً عن جمع الأموال بوسائل تقليدية ، ويقيمون في حصون يجلون منها من وقت لآخر . وما عاد النصارى كيانات مبعثرة في نجران والشام ومصر وغيرها . لقد حدثت تطورات لدى هؤلاء وأولئك ؛ فأصبحت لديهم دول يحكمونها ، ومؤسسات تعليمية تدرس أديانهم ، ومفكرون وعلماء في جميع التخصصات ، ومؤسسات اقتصادية تمتلك رؤوس أموال ضخمة ، وهم في مجال التفوق المادي والتقني والعسكري يتقدمون على المسلمين ، مما يستلزم إدراك هذا الواقع إن الواقع المعاصر يحتاج إلى تكييف صحيح لطبيعته حتى تكون الإستنباطات الشرعية التي تحكمه ملائمة على قاعدة أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، فعالم اليوم لايعرف التقسيم التاريخي للدول فكثير من الدول توجد فيها تعددية دينية وثقافية، وكل دولة تقوم فيها الحقوق على أساس المواطنة، وكل الدول محكومة بميثاق عالمي ملزم لحفظ السلم والأمن الدوليين، والمسلمون الذين يعيشون في بلدان غربية يجدون حرية كبيرة في ممارسة عباداتهم وشعائرهم، بل ربما يجدون حرية أكبر من بلدانهم الأصلية التي قدموا منها، فالدول الغربية – في الغالب- النظم القانونية فيها محايدة تجاه الأديان ؛ وهذا لاينفي خلفياتها المسيحية واليهودية، وأنها تتعامل وفق مصالحها وأطماعها كشأن كل دولة تمتلك أدوات القوة والسيطرة، فهل من مصلحة المسلمين التعامل مع هذا الواقع بأحكام أوجبتها السياسة الشرعية في الماضي، ولاتلائم هذا العصر؟ إن منهج ابن تيمية الذي يراعي مقاصد التشريع فيما يذهب إليه توجيه النصوص؛ يفتح بابا للاجتهاد المعاصر الذي يأخذ بما تقرره مجموع النصوص من المقاصد المعتبرة، فقد كان ابن تيمية رحمه الله يرى أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، ودفع شر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين بتحمل أدناهما كما كان يتوخى معنى التيسير والتوسعة على الناس فيما يذهب إليه من توجيه النصوص، وذلك في إطار قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه من استطعتم" إن القراءة الواعية للواقع المعاصر تدرك بوضوح أن الالتزام بالمواثيق والعهود، والتفاعل مع الحضارات، والتواصل مع الشعوب، والالتزام بمكارم الأخلاق مع الجميع؛ هو من مصلحة الإسلام والمسلمين، ولاينفي هذه الحقيقة وجود ممارسات ىشاذة من هنا وهناك فالشاذ لاحكم له، ولايجوز السماح لحملة الأفكار الشاذة والعقائد المنحرفة أن يصرفوا الأمة عن مسيرتها القاصدة لتحقيق الشهود الحضاري. خامسا: إن منهج ابن تيمية القائم على: مراعة مقاصد التشريع، والإعمال لكافة النصوص دون إهمالها، والرجوع إلى العرف في الأحكام التي علقها الشرع بلا تحديد لها في اللغة ولافي الشرع، وفهم النص مصحوبا بملابسات وروده، وعدم تخصيص النص بأحد أفراد الأمة دون باقيهم، وتناول النصوص في إطار ماتقتضيه طبيعة المكلف، ومراعاة عدم تعارض النص مع مفسدة راجحة لطروء الحاجة؛ هذا النهج إذا تم تقنينه وصيغ بصورة قابلة للتطبيق على الواقع فسيكون له أثر كبير على حياة المسلمين. وواجب على علماء الأمة التصدي للناظرين إلى المستجدات من لا قدرة له على التفصيل والتبيين ، فأطلق الحكم وعمّمه دون مراعاة لفوارق المكلفـين ، أو أحوال المتنسكين ، أو قيود التحريم ونفـيه ، وغاية أمرهم أن ينزّلوا عموم النصّ على عموم الناس ، ومطلق الدلالة على مطلق النازلة ، والذي يجب أن يتبعه هو معرفة أن هناك ثمّة فرق بين الحكم ومحله ، فالحكم أصله العموم بينما المحل أصله الخصوص ، والتوفـيق بين تحصيل الحكم وتنزيله هو الفقه الذي يُمدَح أهله وأصحابه ويرفع أقوامه ويُطلب أحواله ، وبغير ذلك يقع التقصير أو القصور عن حكم المستجد والنازلة. ومما ينبغي أن يُعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كل ما كان أشق كان أفضل كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء لا، ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل، فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل التوصيات: أولا: هنالك ضرورة للتمييز بين منهج ابن تيمية الذي يوفق بين النصوص والمقاصد، وبين فتاويه التي فرضتها ظروف الواقع الذي عاش فيه. ثانيا:المطلوب إبراز اجتهادات ابن تيمية التي دارت مع العلة حيث دارت وأوجبها تحقيق المناط في تلك المرحلة، وتطبيق نفس منهجه عليها في ظل الواقع المعاصر ليعلم وجود العلة من عدمها في وقتنا الحاضر. ثالثا: تصحيح صورة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتوضيح كيف أن منهجه لايتفق مع بعض الممارسات التي يقوم بها بعض من يزعمون الاقتداء به، بتنزيل فتاويه في غير مكانها ولازمانها. هذا ماوفقني الله لابرأزه برازه من اجتهادات شيخ الإسلام فإن أصبت من توفيق الله وإن أخطأت فمن نفسي وأعتذر عنه وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
|
|
|
|
|
|