|
إنفـراط عـقـد "الحرمان" برحيل زيدان إبراهيم مصعب المشـرّف
|
إنفـراط عـقـد "الحرمان" برحيل زيدان إبراهيم
مصعب المشـرّف:
في ذكرى رحيل العندليب "زيدان إبراهيم" ؛ تتجه كل الأفكار والذكريات إلى ذلك العقد الفريد من " الحرمان " الذي جمع بينه والشاعر التجاني حاج موسى ، والملحن عمر الشاعر. ربما يجادل البعض بأن هذا العقد الثلاثي الفريد قد إنفرط عملياً قبل رحيل زيدان بزمان ليس بالقصير ... ولكن الواقع أنه ظل قائما متأججاً من خلال أطروحاته النظرية الماثلة وإحتمالات إنتظامه من جديد ما بين لحظة وأخرى .... كانت الآمال بعودة الإنتظام معقودة حتى آخر رمق ... ولم ييأس الناس إلا بعد أن فارق زيدان الحياة الدنيا ... كل التفسيرات والإستقراءات واردة في مثل هكذا "ظاهرة" نادرة .... ولربما لا يقتنع البعض أن هذا العقد الفريد قد إنفرط إلا لسبب بسيط ؛ هو أنه أكمل رسالته وأدى أمانته بأسرع مما كان البعض يتوقـع. الرسالة التي أوصلها "عقد الحرمان الفريد" وحمل أمانتها على عاتقه ، شكلت صرخة إنفعالية وسط حالة إختناق مزمنة في مرحلة خاصة جداً من مسيرة المجتمع السوداني الطويلة ، لجهة التمازج بين مكوناته الإثنية ... مرحلة إستغرق فيها البعض ، ولم يعبأ بها البعض . وقاومتها الأكثرية بشكل أو بآخر عندما بدأ الأمر يدخل في نطاق اللحم الحي. برحيل زيدان إنفرط "عقد الحرمان" العاطفي والإجتماعي الفريد الذي تشكل في سبعينيات القرن العشرين . والسودان يتلمس آنذاك تغيرات إقتصادية عصفت بكل أركان العالم آنذاك جراء حرب 6 أكتوبر وطفرة النفط . والذي يحسب لهذا العقد الفريد أنه ساهم كثيراً في تفكيك وخلخلة العديد من جوانب العلاقة بين الرجل والمرة . وبعض القناعات والقيود الإجتماعية ووالقوالب العنصرية فيما يتعلق بالتمازج الإجتماعي والعاطفي والعرقي بين قبائل الشمال وقبائل جهات السودان الأخرى (ما عدا الجنوب وقتها). ربما لايكون التفكيك قد تم وفق ما يرجو البعض ويأمل حتى تاريخه .. لكنه أحدث ثغرة ومرتكز عبور نحو الضفة الأخرى بقدر أو بآخر ؛ وفق ما نلحظ ونراه في نماذج متعددة لا تزال دون درجة الظاهرة. عظمة عقد الحرمان الفريد إذن تكمن في أنه كان ثورة فكرية تطلب شراكة عاطفية فاعلة صادفت ثورة مايو ، وعملت إلى جانبها (ربما بمحض الصدفة ودون أن تدري) لتأصيل دعوة ذلك النظام السياسي الشمولي وقتها إلى الوحدة الوطنية . وبالطبع فلا يستطيع أحد الإدعاء بأن نظام نميري قد قام بدقع ورعاية وتكريس ومنهجة مثل هذا الإتجاه الذي إنتظمه "عقد الحرمان الفريد" . فهذا النظام السياسي كان من ناحية التأصيل الفكري أبسط وأكثر سذاجة من ذلك بكثير .... ولكنها جاءت رميةً من عير رام ، ومصادفة من ضمن مصادفات العالم المتخلف ..... وربّ صدفة خير من 1000 ميعاد . وفي وجود حامل أسبق للقب "العندليب الأسمر" ؛ حمله عبد الحليم حافظ قبل زيدان إبراهيم بسنوات طويلة وإشتهر به على نطاق العالم العربي والسودان .. وعلى قناعة مننا بأن "اللون الأسمر" ليس هو اللون السائد في السودان بقدر ما هو السائد في بشـرة أهل مصر وشعوب شبه الجزيرة العربية .... فلربما كان اللقب الأصدق توصيفا لزيدان (آنذاك) ورسالته التي قدمها ضمن منظومة "عقد الحرمان الفريد" الذي جمعه مع التجاني وعمر الشاعر إنما هو (فنان الشباب). أكثر ما غنى زيدان كان لعبد الوهاب هلاوي ، ومحمد جعفر . ولحن لنفسه أغنيات كثيرة . لكن هذا الإنتاج برغم كثرته وتنوعه وغزارته وأثره العاطفي الممتد ؛ إلا أنه لم يكن يحمل رسالة برغبة في تغيير جذري لقناعات إجتماعية مّـــا ؛ بقدر ما كان يحوي توصيفاً وتحصيناً ؛ وصيانة وإثراء لوجدان ذاتي سائد في داخل الأسوار المنيعة لمجتمع الشمال السوداني العربي الأصل ..... تأمل على سبيل كلمات أغنية "فراش القاش" التي كتبها هلاوي وما احتوته من الزهو والتعالي الذكوري على المحبوبة الأنثى ..... وهي وأمثالها من إنتاج هؤلاء الشعراء لم تكن تحمل رسالة لخلخلة واقع إجتماعي ، وإحتجاج على وضع قائم في العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمع الشمال المغلق دون غيرهم من قبائل وجهات السودان الأخرى في ذلك الزمان . بقدر ما جاءت تعبر عن مساحة عاطفية مقبولة إجتماعياً داخل الحوش الإثني الواحد. تقول بعض كلمات هذه الأغنية: باكر بعود القاش ترجع عيونو حنان تطير تداعب المواج بي جناح نسيم رياش لكني لو زيــك لو جار حبيبي زمان ما أظن اعود يا فراش لزول نسأني وخان وبالله ليه يا فراش خلاك وراح القاش ؟ تمعن في هذا التعالي عند قوله لكني لو زيك .. لو جار حبيبي زمان .. ما أظن أعود يا فراش لزول نساني وخان. بل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك لنرصد نفس التعالي الذكوري ، المشوب بالغرور والثقة المفرطة بالنفس في مواجهة الأنثى (مكسورة الجناح دائماً) عند تحليل بعض كلمات أغنية " الموعد " التي كتبها الشاعر (الوسيم وقتها) فضل الله محمد . وذلك عند قوله : (وعدتك قبل كده مرات ... ولسه في رؤياكي بحلم .. مشاغل الدنيا تجبرني أخالف وعدي واتلوم) .... أي مشاغل دنيا هذه التي تجبر الشاب على تطنيش موعد مع فتاة في فترة الستينيات أو بداية السبعينيات من القرن الماضي؟ .... تخيل لو تم منح الشاعر التجاني حاج موسى نفس الفرصة والموعد ؛ ووضع في مكان فضل الله محمد هنا . ماذا كان سيفعل ؛ وهو الذي يحيل المحبوبة إلى معبود مقدس وإن كانت تعبث بعواطفه وتسخر منه؟ قارن بين هذا التعالي في التعامل مع المحبوبة عند هلاوي وفضل الله محمد من جهة ؛ وبين ذلك التواضع والتماهي الذي يطرحه شاعر زنجي القسمات عربي اللسان قرشي البيان مثل التجاني حاج موسى في كافة كلمات أشعاره التي غناها زيدان بوصفها الأعمق تأثيراً والأكثر شهرة : أقول أصبر على الهجران أقول أنســـــــــــــاك لا بد أشوف بس طرفك النعسان تخوني القوة والشـــــــدة تصبر قلبي على الهجران يثور مــــــاضينا ويتحدى يا قصر الشوق لو هـداك حبيبك ومرة ليك صـــــــدّ بأبنيك بغلاوة الـــــــــريد مــــحال أنا قصري يتهدّى أهي الأيام بــتــــتــعــــدى ونـــرجع تاني لا بــــــــدا وحات عمراً قضيتوا معاك محــــال عن ريدك ارتــــدّ وراجي العين تلاقي العين وأحضــــــــن إيدك البضة وأهي الأيـــــــــــام بتتعدى ونرجع تــــــــــــــاني لابد
تأمل مرة أخرى هذه الكلمات التي غناها زيدان من نظم التجاني حاج موسى: ليه كل العذاب ليه كل الألم بزرع في المحبة وحصادي العشم ليه كل العذاب ليه كل الألم لسه الفرقة حاصلة وبقاسي الألم الدرب المشيتو مشيتو عشانك عذب وزيد عذابك يا سلطان زمانك عذب وزيد عذابك يا جبار زمانك كل ما أجيك داني كايس لي حنانك تبعد مني تقسى وتزيد الألم ألم لو تعرف يا ظالم بحبك قدر إيه بحبك والله عالم ده حب احترت فيه بحبك زي عيوني ولو سألوني ليه لأنك في عيوني في عيوني الألم عذب فيني بالغ وزيد منو الكتير لو يرضيك آذاي عذب يا أمير قالو البهوا دايماً ياما يشوف كتير وشفت غلاوتي عندك وحبيت الألم
لا حول ولا قوة إلا بالله ..... ما هذا التبتل والقيام والإنقياد في محراب المحبوب والقناعة المتأصلة بالحرمان لدى هذا الإنسان الشاعر القادم من سافنا النيل الأبيض إلى أضواء العاصمة ، وساحات وبنات أحياء العاصمة المثلثة ، وإناث جامعة الخرطوم اللاهيات الغافلات عنه إلى درجة الألم ؟ ......... من يقول مثل هذا ومن يردده إلا محروم حتى النخاع ؛ بل ومدمن لهذا الحرمان الذي دفع به إلى محبة الألم والإحتفاء به بلاوعي وودن حساب؟ ما اصلو ريدا اصبح حياتي من يوم فؤادي لهواها انهدي وانا عايش اقاوم في الظروف راجيها تعطف وتحن للنداء ماكان محال اهديها الغرام او ابقي راهب ليها واعبدها يا غالية يا زينة حياتي مشتاق لشوفتك لي زمن وانت عارفة شبابي كلو وهبتو لي حبك تمن ألقاك متين وحياة سنين واتهني بي قربك زمن لمن تهيمي بالبسمة تتفجر بسيماتك درر تلقينا في غربة وشجن تايهات قلوبنا بلا سفر تتملّ من بعدك لهيب ماصبرنا من بعدك ودر من بعدك إنتي يعيش منو ومن تاني مين يتمني العمر
هذا الإحساس الذي يمكن توصيف الكلمة التي ترجمته ضمن دائرة اللامعقول ؛ كان لابد أن يلفت إليه الأنظار على إعتبار أنه نظم جديد ، وأسلوب جديد في التعامل مع الأنثى المحبوبة ، كونه أخرجها من ضبابية الرمز والحس الحيواني ؛ ومن خانة المفعول به المطروح على ظهره وبطنه إلى خانة الشريك والرحيق المعبود .. ولاشك أنه كان توجها مغرقاً في التذلل على أعتاب المرأة .. وأنه أدى إلى صراع بين العديد من الموازين (ولا أقول قلباً للموازين). فهناك كان ولا يزال من هو قائم على أطروحات مغايرة في التثقيف العاطفي للعلاقة بين الرجل والمرأة ؛ وعلى نحو يحفظ للذكر كرامته وهيبته في بلاط حواء ... وربما لأجل ذلك ظلت هذه المعاني المغرقة في الرومانسية والتذلل للمرأة محبوسة داخل قوالب الدهشة لدى الكبار. وتضرب بعنف على أبواب ونوافذ قلوب العذارى ؛ ولا يحتفي بها عن قناعة وتسليم سوى صغار السن من الشباب الذي لا يزال على مقاعد الدراسة والتحصيل العلمي ... فمثل هكذا قناعات تصدر عن التجاني ويلحنها عمر الشاعر ليرددها زيدان إبراهيم ما كانت لتصلح لتأسيس بيت على سنة الله ورسوله يتقاسم فيه الزوجان مسئوليات وتكاليف وأعباء الحياة الزوجية الواقعية .... وريما لأجل ذلك كان زيدان إبراهيم الأسرع للحد من الإستغراق حتى الثمالة في ترديد هذه اللونية من الأطروحات وهو يرى نفسه يتقدم في السن ويشيب ؛ ويرمق في الوقت نفسه المجتمع السوداني يتجه نحو مظاهر وتبني قناعات مادية لاتخفى على العين المجردة . ناهيك عن المجهرية في تحليل ورصد ما يجري من تغيرات في القناعات لدى الأسرة والفتاة . وبحيث أصبح الرصيد المالي والممتلكات العقارية هي الأكثر ثقلاً ضمن فئات الموازين التي ترجح رفض أو قبول العريس. ربما لأجل ذلك ولأن كلمات التجاني وألحان عمر وصوت زيدان كانا يسابقان الزمن كفرسي رهان .. ربما لأجل ذلك كان لابد أن يرى زيدان ما رآه فيتوقف فجأة عن الركض في ميدان سباق مع الزمن نفسه هذه المرة ... أقول ربما. والذي يبقى بعد كل هذا وذاك هو القناعة بأن الجهل لا يخلق قضية . ولا يستطيع مجرد المحاولة لتفكيكها .... ربما لم ينال زيدان إبراهيم تعليماً أكاديميا جامعيا مثل الذي توفر للشاعر التجاني حاج موسى . ولكن الذي لا يغيب عن الخاطر والعقلية السودانية أن خريج الثانوية (القديمة) قبل تغيير المناهج والسلم التعليمي على عهد نميري عام 1971م ؛ كان مثل هذا الخريج على قدر عظيم من الثقافة والوعي والإدراك . وأن الجيش السوداني كان أداة صقل وتثقيف لايستهان بها في مجال الشعر والفنون والرياضة على إختلاف أنواعها . وكان سلاح الموسيقى الرافد والمؤسس للغناء السوداني على الوجه الذي بين أيدينا حتى هذه اللحظة . وهو الأساس والمكون المحلي الذي إنبنى عليه معهد الموسيقى ومخرجات قصر الشباب والأطفال الغنائية بعد التخلص من الصبغة الكورية نهائياً . ولعل الذي يحسب في خانة إيجابيات سلاح الموسيقى المتعددة الأثر والثمرات أنه هو الذي أغنى الإذاعة والتلفزيون والكثير من مطربينا والملحنين عن وجود معهد الموسيقى فترة طويلة . وكان له الفضل في إدخال النوتة الموسيقية والتأليف والعزف وفق ما تقتضيه من دراسة ومنهج علمي متبع . واستفاد من هذا السلاح فنانون كبار على رأسهم الموسيقار محمد الأمين الذي تعلم النوتة الموسيقية من خلال تردده على هذا السلاح... وإلى هذا الصرح ينتمي عمر الشاعر .... وأما جامعة الخرطوم التي التحق بها التجاني حاج موسى طالباً في السبعينات من القرن الماضي . فلا حاجة إلى الحديث عن دورها . فقد كانت وقتها بما توفر لها من رعاية وإمكانيات وميزانية أفضل من يتحدث عن نفسها. ومن ثم فإن الذي توفر لهذا العقد الثلاثي الفريد (زيدان – التجاني – عمر الشاعر) من ثقافة ذاتية وظروف إجتماعية وإقتصادية مواتية ، ثم وحالة ثقافة عربية أفقية عريضة فرضها تحالف القوى الإشتراكية والقومية مع نظام مايو في مستهل مسيرته . وكان أهم منتجاتها تغيير المناهج الدراسية والسلم التعليمي .. كل هذا شكل الفرصة المواتية لمثل هذا الثلاثي أن ينطلق ويعطي ذلك التأثير المتعدد في الجانب الإجتماعي والثقافي على حد سواء. وربما من الخير لو إلتفت البعض الأكاديمي المهتم لتحليل ظاهرة هذا الثلاثي على نحو أكثر عمقاً وإتساعاً . وبالجلوس إلى الشاعر التجاني حاج موسى والعميد عمر الشاعر لإستخلاص بعض جوانب نفسية كامنة في صدر كل منهما . ولمزيد من سبر أغوار كليهما على نحو إستنباطي يخضع لدراسة متخصصة فيما بعد ؛ عل وعسى يكون في ذلك توثيقاً أكاديميا عـز أن نجد مثله في الأرشيف ... ولمزيد من التوضيح فإن المطلوب ليس إستخلاص تاريخ وذكريات وسيرة ذاتية أفقية أو رأسية ؛ بقدر ما يكون المطلوب التعرف إلى نظرة ورؤية الشاعر والملحن (البارونامية) للمجتمع السوداني . وتوصيفهما وتصنيفهما الذاتي لموقع كل منهما داخل ذلك المجتمع خلال تلك الفترة من سبعينيات القرن الماضي ؛ وبما يموج به من قناعات وعادات وتقاليد . وحيث لا يعقل أن يأتي هذا الإنتاج الإستثنائي الثلاثي المشترك من فراغ وعـدم . ثم بالنظر إلى كونه يصب في أكثر من دائرة ؛ ربما لا يكون الإحساس بالحرمان داخل الوطن الواحد والألم والضجر والشكوى منه هو وحده السبب أو الدائرة الأوسع ...
|
|
|
|
|
|