|
إلى إبراهيم الشيخ في سجنه بقلم: عمر الدقير
|
الحرية هي فاتحة كتاب الوجود وخاتمته، وهي الأقنوم الأكثر نبلاً وتقديساً في تاريخ الإنسان المفعم بالصراع حولها، مِن متربِّصٍ بها ليغتالها ومِن باذلٍ روحه فداها .. ولم يفارق الحقيقة من قال إنَّ الحرية هي الإنسان ذاته، فهي استحقاقه الوجودي الأول الذي من دونه تتحول حياته إلى موت وإن كان يحمل جثته ويمشي على قدمين، مثلما يتحول الموت إلى حياة حينما يكون دفاعاً عن الحرية ونبلها وقداستها .. وهكذا أيضاً يتحول السجين إلى حرٍّ يغني في زنزانة سجَّانه المرتجف في قصره، كما قال الشاعر الراحل الباقي محجوب شريف. تُمثل مصادرة حرية إبراهيم الشيخ عبد الرحمن ومكوثه المستمر في سجن مدينة النهود منذ أوائل يونيو الماضي حلقةً من الصراع الأبدي عبر المعادلة البكر التي كان، ولا يزال، طرفاها جلاداً وضحية .. ولئن حرمتنا جدران السجن السميكة من التواصل والمعايدة عبر الأثير كما جرت العادة خلال سنوات تباعدنا المكاني، يبقى إبراهيم الشيخ مستقراً في الذاكرة الشخصية الأخ والصديق، زميل الدراسة وسيرة التكوين، ورفيق الدروب التي تشاركنا فيها الهمَّ والهاجس والحلم بغدٍ لا يكرِّر البارحة .. ويبقى بسيرته السياسية، منذ عرفته في عهد الطلب إلى رئاسته لحزب المؤتمر السوداني، جديراً بالإنتماء إلى سلالةٍ عصيةٍ على الإنقراض مهما اشتدت وطأة الظلم والظلام .. سلالة نبيلة كُتِبَ عليها أن تحمل عبء الصراع من أجل الحرية جيلاً بعد جيل، ما دام الطغيان لا يكفُّ عن التحالف الشيطاني مع التاريخ، في غفلاته، جيلاً بعد جيل. في واقعٍ تحكمه موازين القوة العمياء يتراكم الصدأ والعطن ويعمُّ الالتباس الأخلاقي، فتنقلب المعايير التقليدية ومنظومة المفاهيم القيمية وتتبدل الأدوار بحيث يصير المجرم قاضياً والحرامي حامياً، ويكون مطلوباً من الحقِّ أن يعتذر للباطل ومن الموقف الصحيح أن يعتذر لنقيضه، مثلما يكون مطلوباً من الشمس أن تعتذر لظلام الليل لأنَّها فضحت تآمره مع اللصوص وكشفت آثار أقدامهم وما تساقط من سلالهم وهم يهربون!! لكنَّ إبراهيم الشيخ رفض التصالح مع الواقع الغاشم وأعلن العصيان على تعاليم الحرباء التي تغير جلدها خوفاً على حياتها .. ولأنه ينتمي لمدرسةٍ جسّرت المسافة بين الرأي والموقف، رفض الاعتذار عن "رأيٍ" يعتبره صحيحاً ولو كان الثمن أن يلبث في السجن بضع سنين. أخي إبراهيم الشيخ زنزانتك بسعة الكون تنام فيها ملء جفنيك لأنك مرتاح الضمير، وينام غيرك كأسماك الساردين في علبةٍ استبدلت فيها مياه البحر بزيتٍ داجن .. ظلام زنزانتك أشدُّ سطوعاً من ثُريَّات قاعة حوارهم الفخيمة .. كم أنت كثيرٌ وإن كنت وحدك، وكم هم قليلون وإن كانوا كثير لأنَّهم ليسوا سوى أرقام على جانبي طاولة الحوار الكذوب. لن تذهب معاناتك في غيهب السجن سُدىً ولن تكون أيامك فيه مجرد أوراق تتساقط من الرزنامة، لكنَّها ستكون إضافة تراكمية لمواقف غيرك من الشرفاء الذين تتشكل من تضحياتهم خميرة التاريخ .. سينتشر وهج الصدق الحقيقة ما دام هناك من لم تنعطب بوصلتهم الأخلاقية ويرفضون تحويل جمرة الضمير إلى فحمة. الإنسان زائل، لكن يبقى تاريخه وتبقى سيرته. ستبقى إرادة الحياة وحتماً ستنتصر.
[email protected]
ءؤاتئ
|
|
|
|
|
|