|
إعادة التفكير جذريّا ً: التوفيق بين أولويّات الناس والمانحين بقلم يوسف بن مئير
|
بالتنوّع الهائل للسياقات الإجتماعيّة حيث تأخذ التدخلات الإنمائيّة مكانا ً لها، قد يتخيّل المرء أنه من الصعب جدّا ً تحديد قاعدة عامّة بحكم التجربة العمليّة لأفضل إمكانية لنجاح مشروع أو استدامته. وعلى أية حال، تشير الخبرات العالميّة بالفعل منذ أعقاب الحرب العالميّة الثانية وتنفيذ خطة مارشال إلى خاصيّة أو ميزة ممكن تعريفها – وهي بأهميّة موضوع التمويل – ويجب تواجدها لاستمرار المبادرات التنمويّة. أنا أشير هنا إلى اشتراك المستفيدين المستهدفين في جميع نواحي ومراحل دورة المشروع، من بدايته إلى تقييمه، إلى النقطة التي يصبحون فيها هم من يقومون بإملاء مسار المشروع بدلا ً من أية وكالات أو شركات خارجيّة. وبالتوازي مع ذلك، يمكن فقط التوصّل للتنمية المستديمة في جميع أنحاء الدول والعالم في المواقع أو المشاريع التي يقوم فيها المانحون بتوفيق أولوياتهم مباشرة ً مع الأولويات التي يقررها الناس أنفسهم. جسر الفجوة ما بين النظريّة والتطبيق: قد تشكّل طريق قبول النهج التشلركي للتنمية عبر التجارب والأخطاء على مدى عقود ٍ عديدة حتّى التسعينات من القرن الماضي عندما ترسّخ الإعتراف العالمي به من قبل العاملين في مجال التنمية. وامتلاك المعرفة النظريّة على أية حال ولسوء الحظ يختلف عن تحقيق مشاركة واسعة للسكان المحليين في تصميم وإدارة المشاريع التي تهدف أن يستفيدوا منها.
تتطلّب المشاركة التيسير أو التسهيل، أي بمعنى إن أريد للتخطيط التنموي المحلي الشامل أن يحدث، من الضروري أن يكون هناك منسّق طرف ثالث، وهو الذي يقوم بنشاطات تواصليّة وتفاعليّة تمكّن المشتركين من تقييم احتياجاتهم ووضع أولويّات التغييرات التي يسعون إليها. من الضروري أن يعمل ويعيش هؤلاء الميسرون أو المسهلون بين الناس ينقلون لهم المهارات الأساسيّة بحيث تتمكن الجاليات المحليّة نفسها من الحفاظ على زخم تنمية وتطوير المشاريع. وللأسف، الأغلبية العظمى من وكالات وشركات التنمية لا تمتلك الموارد البشريّة والإلتزام المطلق الضروري للتوصّل لهذا القرب الحيوي والثابت للمجتمعات المحليّة المحتاجة الموجودة غالبا ً في أقصى المناطق. لا تتكشف المشاركة الحقيقية على الأرض دون الدعم الأولي على الأقل. وتبقى في معظم الأحيان فجوة مأساويّة ما بين ما يريد المانحون تخصيصه من تمويل للتنمية والمشاريع التي تحدّدها الجاليات المحليّة على أنها الأهمّ بالنسبة لهم. هذه الفجوة مسؤولة عن معظم فشل المشروع ويمكن جسرها من قبل الجهات المانحة التي تدعم تطبيق طرق تخطيط تشاركي مؤكدة وثبتت فعاليتها واستعدادها لاحتضان إمكانية مجموعة من أنواع المشاريع (زراعية، صحيّة، تعليميّة ..وغيرها) التي قد تبرز من عملية الحوار المحليّة. دراسات حالات: يمكن إيجاد أمثلة للنجاحات – وأخرى عكس ذلك – على المستوى الوطني والعالمي. ففي منطقة جبال الأطلس الكبير المغربيّة تجد بالعادة أن حلّ المانحين له علاقة بالسيّاح ويعتمد على أساس آلاف المتنزهين والزوار العامين كل عام اللذين يسعون لاستحواذ أكثر القمم وقعا ً في النفس في شمال إفريقيا. وبعد مئات من الإجتماعات ما بين الجاليات المحليّة في المنطقة لم يبيّن أي منها السياحة كمنطقة مشروع لها الأولويّة. والسبب في ذلك يعود إلى أن السياحة تفيد عادة ً بضعة أسر من ضمن أسر عديدة. والصورة هنا تتمثل في أن تتوقف في قرية على طول خط من عشرة قرى مثلا ً قد تتواجد في وادي، وفي هذا الموقع الوحيد تتمتّع بوجبة أو إقامة بمبيت. ولكن من الناحية الأخرى، جميع الجاليات المحليّة تعرّف الماء النظيف للشرب والريّ ومشاريع النساء والشبيبة على أنها مشاريع على سلّم الأولويات لأنها ستنفع كلّ أسرة في قرية معيّنة وكلّ قرية في الوادي. كان هناك لفترة ٍ قصيرة خلال تسعينات القرن الماضي فرص لتعاون تنموي إسرائيلي – مغربي. ويا للأسف، فقد كان هذا المشروع الوحيد الذي تضمّن التعاون من حكومة لحكومة ولبّى احتياجات القرويين المحليين التي حدّدوها هم بأنفسهم، وهي بالتحديد مشروع للريّ شاملا ً إقامة أنظمة التنقيط بالضغط، غير أنّ برنامج التعاون الإقليمي للشرق الأوسط التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدوليّة قد أوقف التمويل عنه لأنه لم يعد يتضمّن تطور تكنولوجي مشترك. وفي حين أنّ هناك فرصة لمجهود مشترك إسرائيلي – فلسطيني لتنفيذ مشاريع محليّة مهما كان نوعها تحدّد من طرف الفلسطينيين المحليين، ينبغي عدم تفويت هذه الفرصة لأنها قد لا تناسب المبادئ التوجيهية الصارمة من الجهات المانحة التي قد تظنّ أنها تعلم ما يحتاجه السكان المحليين. وفي وقت ٍ يتصاعد فيه الآن بشكل ٍ جسيم العنف وعدم الثقة بين الشيعة والسنّة، على المجتمع الدولي أن يموّل أية مبادرة تتضمّن تعاونا ً مشتركا ً بين الطائفتين لتحقيق أهداف التنمية للناس. بالأخصّ في سياق الربيع العربي، فإن التأكيد الذي يختبره الناس مع تقدم التخطيط الديمقراطي للتنمية المحليّة سيكون له أثر في تحقيق الاستقرار، سواء من الناحية السياسية والاجتماعية. في فرغوسن، ولاية ميسوري، وفي بعض المقاطعات في الولايات المتحدة وبالأخصّ التي تتواجد فيها فئات اجتماعيّة منقسمة، يجدر بالسكان المحليين خلق مشاريع ومبادرات خدمة إنسانية تخترق الطوائف العرقيّة والدينيّة والتي ينبغي للمستفيدين أنفسهم تحديد نطاقها. وفي هذه الحالة يموّل المانحون الأساس لتفويض السلطة وللسلام والإزدهار، كلّ ذلك مرة واحدة. ولذا فإن الإستنتاج الجذري هو أنه من الضروري "إعادة صياغة القواعد" لتقويم القطع الذي قد يحدث ما بين متطلبات المانحين والرغبة الشعبيّة. هذا من شأنه في بعض الأحيان أن يرسل رسائل قوية تعبر أو تخترق الإنقسامات السياسية في حين، في الأساس، تضمن نجاح المشروع والعدالة الاجتماعية الحقيقية.
د. يوسف بن مئير رئيس مؤسسة الأطلس الكبير وعالم إجتماع.
|
|
|
|
|
|