|
إعادة استقلال السودان القديم إلى السودان الجديد
|
بداية نتناول هذا الموضوع من باب التعريف والتسجيل وتمحيصاً للمشكلات التي مر ويمر بها الشعب السوداني كله كدراسة موضوعية في جوهر القضايا المحورية منذ فجر الاستقلال وأهمها عدم العدالة والمساواة وكذا نخص بالدراسة الشعوب المضطهدة ثقافياً وعرقياً ودينياً واقتصاديا والتي سميت فيما بعد تعريفاً بالشعوب المهمشة والتوصيف العامي لكلمة ( المهمشة ) يعني المتروكة لأمرها تقبع في ظلمات الجهل والتخلف والعوز والفقر والمرض. ولغة يقال هامش الشئ أي أطرافه وجوانبه : تأكل وتحكك أي الهامش حاشية الكتاب ، ويقال فلان يعيش على الهامش أي لم يدخل في زحمة الناس ومن هنا جأت كلمة الشعوب المهمشة مجازاً ، الآن تتصافح الايد ويتحد أبناء السودان وتتضافر الجهود لإزاله اسباب التهميش وإرساء قواعد العمل والبناء لسودان جديد ينعم بالحرية والسلام والتقدم وازدهار. السودان كدولة في طور الأنشأ منذ استقلاله في عام 1956م يوجد فيه الكثير من التشوهات الكونية التي هي من صنع الإنسان الذي سعى فيه دؤوباً لتغيير الواقع الذي تمثل في التنوع الأثني والثقافي والموروثات الحضارية العظيمة للشعوب القديمة التواجد على أرض السودان وهو بذلك ( الإنسان ) يكون كالذي ينضم الإبراة في جنح الظلام، لا يستطيع أن يسترشد إلى سمها ومن تلك التشوهات تكوين الأنظمة السياسية والانماط التي قامت عليها موسسات الدولة السودانية والتي انيط بها رعاية مصالح جميع الناس وتنظيم شئون حياتهم دون النظر إلى الفوارق النوعية والثقافية والدينية كان ذلك بديهياً. وفيما نحاول طرح هذه الدراسة عبر تناول العديد من المسائل السالبة التي أعاقت وتعيق حركة الحياة الطبيعية لكل المجتمعات السودانية والتي مازال معظمها يقبع في مستنقع الجهل والمرض والتخلف. قد لا يقتنع بعض المارقيين والنتفعين من تفاقم الفوضى وتأزم الاحوال بما سندلو به في زواية هذا البحث وقد يدفعهم ذلك إلى التبرم والتململ وعدم الرضى ويقولون بملئ اشداقهم أن ما نقوله في مورد هذه السطور وما سيرد فيها هو محض أفتراء وتجني على فئة أو مجموعة من الناس كلا وألف كلا نحن لا نتجنى على أحد أو على أي مجموعة أو عنصر ولم ولن نتجنى على أحد حتى يعلم الجناة بأنه لا جاني إلا ويطاله عقاب يناسب جرمه, ولكنا نريد فقط أن نكشف عن غايات بعض الأفكار الهدامة التي ساقها ويسوقها بعض منظري السودان والقائمين على أمره، ونحن لا نريد أن نقحم انفسنا ومن يسايرنا في جدل عقيم ( لا يسمن ولا يغنى من جوع ) ولا إلى حجج سقيمة واهية تنصبها المغالطات والمكابرة ولكن هناك ضرورة ملحة أوجبت علينا هذا الفرض والواجب الوطني لنكشف عن بعض عورات السودان. لقد ظلت الشعوب المهمشة ومن ضمنهم شعوب جبال النوبة وجنوب السودان ودار فور والأنقسنا البجة والفونج وغيرهم في صمت وتحمل المشاق مدة طويلة أو بعد أن نال السودان حريته واستقلاله وهي ترقب المواقف وتتابع الاحداث عن كثب بل وتشارك في بعضها أملاً منها في أن ينالها حظاً وتغنم ولو جزئياً بما يتهافت عليه قيادات القوى السياسية واتباعهم في السودان من أبناء الصفوة وحكام السودان منذ فجر استقلاله عام 1956م، لكن يبدو أن الاستقلال جاء في غير وقته ولعلنا نعول ذلك إلى الظروف التي كان يعيش فيها معظم المجتمعات السودانية من حيث التخلف وعدم انتشار الوعي السياسي لدي الغالبية العظمى من مجتمعات الشعب السوداني مما نتج عن ذلك عدم المقدرة في تحمل اعباء الحكم في الدولة الوليدة بصورته الصيحية العادلة عقب رحيل المستعمرين منها. لقد جاء الاستقلال معلولاً بما فيه من اختلال وعدم توازن ويتمثل ذلك في الفكر الذي كان يحمله المناضلون من أجل الاستقلال والذي افضى فيما بعد إلى ما تمخض عليه السودان اليوم من معضلات تتعاظم وتتفاقم وتتشعب يوماً بعد يوم. لقد فكر الرعيل الأول من قيادات العمل السياسي في السودان في ان ينال السودان استقلاله وعملوا للسودنة وكان لهم ذلك بعد جهد مقدر ولقد وفقهم الله بفضل جهودهم بما قاموا به في سبيل ذلك ولكنهم اعتمدوا في فكرهم على نشوة التحول من دولة المستعمر إلى الدولة السودانية الحرة بيد ابنائها ولقد اغفلوا ما يمكن لهم أن يقوموا به آنذاك كبناؤون للسودان الدولة الكبيرة المترامية الأطراف وحدودها الجغرافية المفتوحة على ثمان دول، والمتعددة الأعراق والثقافات واللغات للشعوب القديمة والحديثة الوافدة والتكوينات الأجتماعية المتنامية في أطراد. ولم يقم أبناء السودان الحر المستقل بتلمس المشاكل الماثلة على أرض الواقع المعاش، لم يسعوا في وضع البرامج الآنية والممرحلة لحل العديد من المشاكل والتي كان يعاني منها الشعب السوداني وأغلبها في مناطق الشعوب المهمشة ولم يدركوا أن المستعمرين الذين رحلوا من البلاد تركوا للقيادات السودانية الخليفة أرث ثقيل مليئ بالمشاكل والمعضلات التي مازالت حينها جنين في طور التكوين وكان هناك من الفتن التي تفجرت فيما بعد بالشكل الذي نشهده الآن وهناك بعضاً مازالت تنمو تحت التراب. فرح أولاد الذوات والصفوة من ابناء الوجهاء انذاك وممن نالوا قسطاً وافراً من العلم وهو السبب المباشر الذي اوصلهم إلى ما هم فيه الآن ولقد تهيئت لهم ذلك من خلال وضعيتهم حيث كان اجدادهم وأبائهم مقربين من المستعمر وكان معظمهم في خدمة المستعمر وتلك الوضعية كانت فرصة وسانحة ايجابية انتجت كم هائل من المتعلمين والمثقفين من أبناء الشمال ووسط السودان وكما يقول المثل العامي جاور السعيد تسعد وهذا ما أوضحته الأيام لقد كان لهم نصيب الأسد في تلقي العلم والثقافة ولقد اضحى واضحاً في تباين الفروق العلمية والثقافية بين أبناء الشمال السوداني المستعرب وأبناء العناصر الإفريقية الذين يعيشون على الأطراف ( المناطق المهمشة ). فرح أبناء الصفوة بما أتاهم من فرج بعد جلاء الاستعمار فرحوا باستيلاءهم على مقاليد السلطة في الدولة السودانية واسسوا الاحزاب السياسية التقليدية على شاكلتها المؤسسية التي هي عليها الآن وهي في بعضها طائفية عقائدية وجهويه مغلفة بعبارأت توهم الناس بأنها شي من الديمقراطية أو هي نير من الحضارة الغربية وهي في معظمها زيفاً وأصوب أن تسمى وسأئل مؤصلة إلى مقاليد السلطة أو تبوؤ المناصب القيادية في الدولة السودانية وظلت بعض التنطيمات السياسية حكراًَ بالأمتياز على أبناء الشمال ووسط السودان يتمتعون بكل الصلاحيات والنفوذ. أنفرد الشماليون وأبناء الوسط بشرعية التكوينات التنظيمية والتحكم في جميع اجهزة الدولة التشرعية والتنفيذية العسكرية والمدنية وانتهي ذلك إلى بلورة فكرة الاتجاه الاحادي في تأسيس آليات القيادة في الدولة السودانية ومن هنا أستطاعوا أن يخلقوا مرصداً استخباريا واعلامياً يتابع تحركات الأطراف الأخري وسعى إلى تشويه صورة الأطراف الأخرى ومنعها من الوصول إلى مبتغاها وأهدافه العدالة والمساواة حرية التعبير والثقافة والتنمية ومحاربة الفقر والمرض والتي هي جوهر الصراع في الدولة. وقعد بعض المخصصين من ذوي السلطة من ابناء الشمال والوسط يشنون هجوم عنيف ضد كل من يجرؤ على تأسيس حزب سياسي أو تنظيم يرمي إلى العمل السياسي بالفكر القومي الوحدوي، وكل ما بدأ طائفة من الناس الوطنين الخلص في عملً ذو أهداف قومية سامية، يتكابر عليه الطرف الأخر و ينعته بالقبلية والعنصرية والانعزالية وفي ذات الوقت أن العنصرية والعنجهية والغطرسة نهج مؤصل في العمل السياسي وفكر مدروس لدي بعض قادة الاحزاب التقليدية ومنظري التنظيمات السياسية في الوسط والشمال من السودان . ولتلك النهج والميراس دوافع جمة أبرزها هو التدافع نحو المجد والشهرة وغايته الحصول على السطوة والنفوذ عبر السلطة ولطالما أن العلم والمال مصدران للقوة، دأب أبناء الصفوة والنخب في التنافس على منابع الثروة ومناصب السطوة والقرار في الدولة وأهملوا الحاضر الذي كانوا فيه ولم يكترسوا للمخاطر التي تحوم في فلك الدولة الموعودة كانت نظرتهم في تكوين الدولة نظرة سطحية ثكوباثية مبنية على حب الذات وحماية المصالح الخاصة وأهمال الأخر بل وحرمانه من حقوقه المشروعة بل ومنعه من الوصول إليها أو إلى أي مكانة تبث فيه روح القوة والوجود. ولما كان حكام السودان الأوئل الذين ورثوا الحكم من الانجليز كلهم من أبناء الصفوة وينتمون إلى وسط وشمال السودان وهم في واقع الأمر أصبحوا فيما بعد العلة التي ادخلت السودان في فلك المنازعات اللا متناهية هذا النهج جعلنا نشك في وطنية هولا الناس إذ أن غالبيتهم من الذين خلفهم الهجرات المتعاقبة من الشعوب الأخرى التي وفدت إلى السودان قديما وهم من المصريون والشوام والأتراك والأنجليز حيث كان آنذاك لا يوجد من ضمنهم أحد من ابناء الأطراف ( المناطق المهمشة ) الذين يمثلون أهل السودان نذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر، من الغرب النوبة الفور أو الجنوب الدينكا النوير الشلك الباري الزاندي و من الشرق الفونج البجة وقبائل الانقسنا وغيرهم من الشعوب القديمة التواجد على أرض السودان ومن هنا استحكم أبناء الشمال والوسط على دفة الحكم طيلة المدة منذ أن نال السودان استقلاله حتى نصب ميزان نيفاشا بكينيا 26 مايو 2004 لقسمة الحقوق وكان هناك عوامل أساسية ساعدت على أن يظل ابناء المركز حكام على السودان القارة بمفردهم ومنها على سبيل المثال الفارق الثقافي بين الطرفين أبناء الأطراف ( المناطق المهمشة ) وأبناء الصفوة في المركز وأبناء الصفوة هم يمثلون تشكيلة من ابناء الوسط السوداني يمكن تقسيمهم إلى فئتان: الأولى هم من أبناء العرب الوافدين إلى السودان منذ انهيار ممالك النوبة علوة ومقري 1505م على يدي عمارة دنقس وعبد الله جماع وقيام مملكة سنار الاسلامية على انقاط ممالك النوبة وتتابع ذلك التوافد أبان الحكم التركي العثماني والمصريين الذي سنحت لهم الفرصة في عهد الحكم الثنائي للسودان ( الانجليزي المصري ) والفئة الثانية هم من أبناء الشمالية الخليط المركب من النوبة الأفارقة وبعض العرب الذين تسللوا إلى مناطق النوبة في الشمال السوداني في فترة تفاعل الشعوب في حقبة تاريخية شهدت تدفق كبير لشعوب أخرى إلى داخل السودان ومن نتاجه التكوين التاريخي لشعوب السودان الحديث. ولقد تغلغل هولا الوافدين في متجمعات الشعب النوبي في الشمال واستوطنوا فيها فاختلطوا مع النوبة وكونوا سلالات جديدة باسماء جديدة وبذلك نعرفها بأسم مجتمعات السودان ما بعد تاريخ انهيار ممالك النوبة ( علوة المقرى وسوبا ) ومن هنا بدأ تعزيز الوجود العربي في السودان موصولاً بدخول العرب إلى لسودان تأريجياً وظهر في هذا الجزء من تاريخ السودان الحديث مجتمعات ذو هوية متنافرة مع الواقع السوداني طغى على فكرهم النموذج الإنغلاقي الأحادي التوجه وثقافة معظمهم تميل نحو العروبية والاسلام بيد أنه يمكن التفريق ما بين الثقافة والدين بالقول أن الثقافة ملك للشعوب والجماعات وتنفرد كل جماعة أو شعب أو قبيلة بمعطيات ثقافية خاصة بها وهي مجموعة من العوامل المتوارثة بيئياً ومعطيات طبيعية يمارسها كل شعب حسب صفاته وأوصافه ومستلزمات حياته كاللغة والعادات والتقاليد فيما يكون الدين فعل مكتسب بالاعتقاد لسد الشغف الروحي للإنسان وبذلك جاز اعتناقه لمختلف الأجناس بصرف النظر عن ثقافته أو ميراثه الحضاري والإنسان ويجوز للإنسان من المجموعة أو القبيلة أو الشعب أن يستفيد من القيم الدينية في الممارسات والسلوك بما يتطابق مع شرع الدين الذي يعتنقه والقول بالتفريق بين الثقافة والدين لأننا نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى خلق اإنسان وخلق معه ثقافته ومكوناته الفطرية كاللغة وسائر العادات التي تلازم نشؤ حياته في الطبيعة. وبناءً على ما تقدم يمكن القول نستطيع إلزام مجموعات من الناس والقبائل والشعوب بالإرشاد والتوجيه والإقناع لأتباع الدين إي دين إسلامي مسيحي أو يهودي هذا أولأ ولا يجدر بنا التحرش مباشرة والعبث بثقافات الآخرين قبل أن يقتنعوا هم انفسهم بجدوى ابدال ثقافتهم إلى الاحسن. فأولئك الذين دخلوا إلى السودان ( العرب وغيرهم ) ووجدوا فيه شعوب من أصول إفريقة ( النوبة وشعوب الاقليم الجنوبي ) ولقد دأبوا في ممارسة أسلوب الدعاية العكسية وتفخيم الذات ونكران لمرجعية أصولهم الإفريقية وتنصلا من الواقعية التي تؤكد بأن غالبيتهم ( ابناء الشمال والوسط ) من اصلاب إفريقية الأصل و إذ هم على ذات الأرض الإفريقية ومايزال يخالجهم شعور بأنهم خلفاء البعثات التي رحلت من السودان ( المستعمرين واتباعهم ) وهم بذلك يشعرون بأنهم أحق من غيرهم في السيطرة وتملك كل شيء على أرض السودان ولسطحية تفكيرهم اقحموا اشياء كثيرة في بحثهم عن كيان يخصهم بمعزل عن الواقع ولأن قلوبهم هلعة مصابة بالخوف والفزع من جرأ اشيأ في تفكيرهم، خلطوا العام بالخاص ( العروبة والاسلام ) وشوهوا المقاصد السامية ( الدعوة والجهاد في سبيل الله ) ومزقوا الوثائق التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان والوثائق التي تربط الإنسان بالأرض وأدمنوا ممارسة العنصرية والتمييز العرقي واستفحل فيهم الفحش والمكابرة والعصيان عن المنطق وحسب معرفتنا هناك ثمة أشياء لابد من تعريفها. أولها هو الإسلام الإسلام دين حق تتجسد فيه قيم العدالة والمساواة والإنسانية الحقة لكل مخلوق ولكن يستغله بعض المسلمين ضعفاء النفوس وأستخدامه استخداما يشوه سماحته ويسي إلى سمؤه في أن يجلعوه سيف يذبح به الأبرياء وفي ذات الوقت يستخدم ستاراً من أجل تحقيق مآرب دنيوية لذوي النفوس المريضة وذلك يسبب خللا عظيما في سلوكيات المنهج الدعوي ويفرز تبعات فاسدة تغلف ثقافة المجتمع وتجعله هزيلاً بعيدأً عن مرمى الصواب ولا سيما أن كانت تلك التوجهات السطحية أتية من مصدر القوة أو ذوي السلطان في الدولة مما يجعل أمر الرشد والصلاح في دائرة الفراغ وفي خضم الفوضى يكثر المتسلقون على أكتاف الباعة ويكون هناك ثمة فجوة عميقة يبن الحق والباطل يستفيد منها انتهازيون والطفيليون معاً في جني ثمار الدنيا وبيع الأخرة جهلاً واستجهالاً. فالاسلام هو دين الله سبحانه وتعالى وارسل به نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام مبعوثاً لكل البشر دون تفريق بين الناس في العرق أوالون أو الموطن وهو ليس بخاص ولا يحق لملة أو جمع من الناس أن يدعوا امتلاكه وينسبونه إلى عرقهم. وأما العروبية فهي دعوة عنصرية في السودان القصد من ترويجها إقصاء الأخرين ولقد دأب في ترويجها أبناء من بعض الناس الذين دخلوا السودان في حقب تاريخية معينة أمتداداً من أواخر القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر الميلادي وقد كان لهم صلات مع اصلاب من اصول عربية وهي دعوة مغرضة تهدف إلى تجيير الحضارة الإفريقية على أرض السودان لصالح الدخلاء وتنسب كل إنجازات الماضي والحاضر إلى حضارة قوم أخرين لم يعد لهم وجود حقيقي في السودان لقد مضى بهم الزمن بفعل الأحداث التاريخية وتفاعل المجتمعات واصبح التاريخ يذكرهم ضمن الدائرة الجغرافية التي تشمل جميع العناصر الإفريقية على أرض السودان. لا ننكر على العرب حضارتهم العريقة وثقافتهم الأصيلة النافذة التي غزت أرجاء كبيرة من العالم فالعرب أصحاب حضارة حقيقية ساهمت بشكل كبير في دفع عجلة تقدم الإنسان وذلك في مكانتها العلمية والثقافية ولكن هذا المشهد لا يعطي الحق لمن يدعون العروبية في السودان بأن يعملوا على أقصاء الأخرين والغاء حق الأثنيات الأخرى في السودان لأن لها ذات الشيء من الحضارات العريقة والتي تحتوي على ثقافات متعددة متميزة نافذة أدت رسائلها المنوطة بها وساهمت بدورها الفعال في دفع الحضارة الإنسانية إلى الأمام ومن هذا المنحى لا ضير في أن يحتفظ كل طرف بحقوقه التأريخية وحقه في التعبير عن ذاته والحفاظ على وجوده الحضاري والثقافي دون المساس بحقوق الأخرين ودون العمل على طمس هوية الأخرين. تكمن المشكلة في صراع الحضارات والثقافات في السودان في أن أبناء الشمال السوداني ووسطه هم الأسبق في امتلاك آليات وأسباب التحكم في نشر النهج الثقافي الذي استشرى في قنوات ثقافات المجتمعات الأخرى في السودان لذلك كان لهم الغلبة في تسيير الوجهة الحضارية والثقافية للسودان بيد أنه لا يستطيع الأخرون الحصول على تلك الآليات وأدوات التعبير مادام هناك مسافة شاسعة بين المركز والأطراف في مجالي الاقتصاد والعلم. وأن ادعاء العروبية في السودان وخصوصا في الوقت الحاضر ادعاء زائف لا يستند إلى دليل قوي يجعله حقيقة مصدقة وواقع معترف به ومقبول لدي الراي العام العربي والإفريقي وعروبية السودان شئ مفتعل إعلامياً إذ أن ذلك يقتصر على لسان السودان المتحدث باللغة العربية وهي لغة التخاطب الرسمية في الدولة السودانية والتي تخاطب بعض الثقافات المحلية الممتزجة إفريقياً وعربياً وهذه كلها تعتبر أمور لا تلزم السودان أن يكون دولة عربية أو يدفع بكامل هويته نحو العروبية باي معنى من المعاني, والمنطق يجب ألا يكون الشغل الشاغل لهولأ الدعاة إلى العربية في السودان مصرفأ عن الواقع لطالما هناك بديل يغني عن التشبث بالأحلام البائدة وذلك البديل يدفع بالناس نحو الخروج إلى الحاضر والنظر إلى المستقبل بدلاً من الرجوع إلى الماضي السحيق والبديل الذي نقصد هو التعامل مع الواقع السوداني الوجودي المتمثل في الأرض والموقع الجغرافي والناس أي المجتمعات السودانية بكافة الوانها وأن يعمل الجميع نحو الانسجام في الدولة السودانية بمعناها والتمسك بالقومية السودانية حقا للمواطنة في ظل العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بعيدا عن التنافر اواختلاق النعرات العنصرية. تفنيد تلك المجموعات المذكورة آنفاً ( دعاة العروبية في السودان ) تتوهم تمسكها بالعصبية العرقية كمنهج تتعاطى به مع الأحداث الدولية والاقليمية وهي تدعي بأنها تمثل طوق العقيدة الإسلامية والثقافة العربية في السودان وبذلك لقد ابتدعت حرب الفوارق بينها وبقية مجتمعات السودان الأخرى من ابناء الأطراف ( المناطق المهمشة ) المحترقين بنيران الظلم واضطهاد والجهل والمرض والفاقة. ظل ديدن أبناء الصفوة في السودان السيطرة على كافة مكاسب الدولة السودانية ولقد اتسعت مطامعهم وهموا على اغتصاب المزيد من حقوق الأخرين والاستيلاء على الأرض كلها قديمها وجديدها دون مراعاة لحرمة التاريخ أي الحقوق التاريخية للشعوب السودانية القديمة التواجد على ارض السودان. الأثر السيء : ومن جانب أخر مما لا شك فيه أن أبناء الأطراف والمناطق المهمشة تأثروا سلباً بالممارسات السياسية التي أتخذتها سلطات المستعمرين أبان تواجدهم في السودان ولقد كان ذلك تمهيداً لأولئك الأقلية الذين يسيطرون اليوم على الغالبية العظمى من الشعب السوداني ومن تلك الممارسات لقد أمتدت أيدي المستعمرين إلى مناطق تلك الشعوب بذريعة حمايتهم من الممارسات اللا إنسانية التي كانت تقوم بها بعض العناصر العربية التي وفدت إلى السودان آنذاك وقد كان مايزال الكثير منهم يحملون في أذهانهم أفكار الجاهلية الأولى ومنها الاتجار بأبناء الضعاف من البشر ( تجارة الرقيق البغيضة ) ولقد أتخذ أولئك ذلك المسلك كنهج للثراء السريع السهل، وهم بذلك كانوا متجاهلين تماماً حقوق اإنسان والدعاوي الدينية وما أوصت به الكتب السماوية في تحريم مثل تلك الأفعال الكريهة والممارسات المشينة التي تسحق كرامة الإنسان ولا شك أن من بين أولئك النفر من الناس الذين مارسوا تجارة الرقيق أشخاص اصبحوا فيما بعد من اثرياء الطبقة العليا في السودان. ولعهد قريب جدا كان ومايزال يتردد صدى تجارة الرقيق في الأرجاء المعتمة من السودان والتي ظلت في ظلام دامس بعيدة عن أضواء الحضارة والأعلام ومما لا شك فيه أن في هذا العصر هناك أناس نحسب أنهم تفقهوا في الدين الإسلامي ولكنهم لم يتدبروا القرآن ومن المفترض أن يلتزموا بما وعوه من أحكام الدين الإسلامي التي تمنعهم من ممارسة تلك الأفعال المشينة التي بقيت وصمة عار على جبين الشعب السوداني كله حتى الألفية الثالثة وأصبح شكاً يعيش في دواخل العظماء من أبناء السودان الأوسط وبعض الشمالي منه يسأله من أنا؟؟ لقد تجاهل أولئك المجرمون حقوق الإنسان وسعوا في الأرض فسادا ينتهكون الأعراض ويهدرون دماء كل من يقاومهم أو كل من يجدون إليه سبيلة دون رحمة ولا رأفة ولا مراقبة الله كما نراهم في دار فور اليوم. ً ونسبة لتلك الممارسات السيئة التي تخصص بها بعض العرب في إذلال أبناء السودان لقد أتخذها الانجليز ذريعة لفرض سياسة العزل والتجبير كسياسة فصل الجنوب عن الشمال سياسياً وثقافياً وسياسة جعلت مناطق جبال النوبة منطقة مقفولة في عام 1922م وبات لا يصلها نور العلم والحضارة وبقي معظم شعوب تلك المناطق على الفطرة والتخلف زمن طويل، ذلك التخلف أدى إلى التمايز المتباين بين أبناء المركز ( الشماليين وأبناء الوسط ) وأبناء الأطراف في المواطنية الغير متوازنة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وبات ينظر إلى أبناء المركز بانهم مواطنين من الدرجة الأولى فيما يكون أبناء ألأطراف والمناطق المهمشة مواطنين من الدرجات الدنية بتفاوت كل مجموعة عرقية يحسب حسابها على مرمى تفاعلها ومدى قوة الاحتكاك بينها والانظمة الحكمية في المركز. وأن يعيد السودان استقلاله من نفسه مرة أخرى لذلك شي طبيعي لعدم توفر اسباب العدل والمساواة قد تكون الحرب بين الجنوب والشمال في منتهى ولكن لن ينعم السودان بالسلام الكامل طالما هناك ظلم في دار فور وجبال النوبة والنيل الازرق وحلفا ودنقلة وغيرها. الميزان والمثاقيل التي وزن بها قسمة الحقوق بين الأطراف ( د. على عثمان / ود. قرنق ) في نيفاشا بكينيا 26مايو2004م ما كان لينصب لو كان حكامنا وقادتنا وعظماء السياسة في بلدنا كانوا أكثر حنكة وتبصر ووطنية منذ اليوم الاول لفجر الاستقلال والآن نصب الميزان ووجدت المثاقيل والاجرام وستظل كفتا الميزان تتأرجح حتى تستوي الحقوق كلها بين كل السودانين بمختلف الوان اطيافهم . أذا نظرنا إلى بنود الاتفاقية الأخيرة نجد فيها الكثير مما يلبي جزء كبير من تطلعات ابناء المناطق المهمشة والتي تضررت بالحرب مما يتطلب منهم ( أبناء تلك المناطق ) العمل بجدية لتحقيق الأمل والحلم الذي طالما طال انتظاره وعلينا بصحوة وطنية شاملة لنصل بسوداننا إلى مقدمة الدول المتحضرة بأذنه تعالى.
محمود جودات علي - الرياض
|
|
|
|
|
|