برنامج إصلاح الدولة الذي إبتدره النائب الأول لرئيس الجمهورية منذ فترة كان عملية سياسية مهمة لم تجد حظها من الإهتمام لأن البرنامج حُصر في القالب الإداري بالرغم من ما ينطوي عليه من مغزى سياسي ، وكان يمكن أن تشكل مدخلاً مناسباً لإحداث إختراق في الأزمة السياسية ، لكن للأسف إنحصر في جانب واحد حتى الآن وهو إصلاح الخدمة المدنية ، وعلة الخدمة المدنية التي أورثتها تدني الكفاءة معروفة وهي " التمكين " حيث أستبدلت الكفاءة والخبرة بالولاء الحزبي ، والمعضلة في كيفية معالجة هذا الداء الذي استشرى في جسد هذه المؤسسة القومية ، فأصحاب الولاء هؤلاء الذين أصبحوا يشكلون الغالبية في أجهزتها لا يتعاملون بمنهج قومي سواء بالنسبة لمرؤسيهم ، أو لإنجاز معاملات المواطنين ، فالترقيات والمشاركات الخارجية والبعثات التدريبىة والتأهيلية للعاملين وغيرها والتي يجب أن يكون الإختيار لها بناءا على الكفاءة والخبرة والأسبقية تتم وفقا لمعيار الولاء ، وبالنسبة لإنجاز معاملات المواطنين فهناك تمييز بين شخص وآخر فالذي من الجماعة يأتي بتزكية فتُنجز معاملته في وقتها أما الآخر ف ( تعال بكرة أوبعد أسبوع ) جاهزة . إذن معالجة إنهيار الخدمة المدنية يتمثل في إعادة تكوينها القومي وحيادها . لكن في الجانب الآخر ، هناك جزء مفقود ، إذ بالرغم من أن الهدف كما يجسده البرنامج هو الإصلاح في كل الدولة ، أي كل أجهزة ومؤسسات الدولة ، كان المفترض أن يشمل الإصلاح هياكل هذه المؤسسات والإختصاصات والأداء ، صحيح إن إصلاح الخدمة المدنية كبداية يمثل بداية مهمة للإنطلاق كأولوية لأنه يتعلق بتسيير دولاب الدولة ولإتصاله بمعاش المواطنين وحياتهم اليومية فيما يلي الخدمات و أمور المعاش ، لكن الخدمة المدنية أحد مؤسسات الدولة وليست هي بالطبع كل مؤسسات الدولة التي يجب أن تشملها عملية الإصلاح ، ومن الواضح أن العملية ( إصلاح الدولة ) غُيبت أهدافها السياسية . إن برنامج إصلاح الدولة إذا نظر إلية من منظور سياسي ، لا يقل أهمية عن الحوار الذي إنتهي منذ فترة قصيرة ولا يزال الجدل مستعراً حول تطبيق مخرجاته ، التي هي مكاسب تنحصر في المشاركة في السلطة ، وليس المهم من أجل ماذا . وهذا الإصلاح هو أمر يقع تطبيقه على كاهل الجهة التي وجهت به ، وهي رئاسة الجمهورية ، والمفترض أن يمثل القاعدة التي يعتمد عليها نجاح مرحلة ما بعد أية عملية سياسية لحل الأزمة السياسية ، وهو في حد ذاته رؤية ثاقبة إذا قُدر لها أن تتم وفقاً للمنظور السياسي الذي كانت تستشرفه ، فأية عملية سياسية تستهدف توافق سياسي - بما فيها الحوار - إن لم يسبقها إصلاح الدولة لن يكون لها أي أثر في الإنتقال لمرحلة جديدة حتى وإن شارك فيها كل أهل السودان ، لأن الحال سيظل كما هو عليه ، وينبغي أن يفهم هذا الإصلاح على أنه عملية سياسية وليست مجرد عملية إدارية القصد منها تنظيم وتفعيل الأداء في أجهزة ومؤسسات الدولة ، بل يجب أن يكون الهدف الأساسي من هذه العملية أن تعيد لكل مؤسسات وأجهزة الدولة قوميتها ونظامها المحايد ، لأنها هي التي تّكون هيكل ما يسمى بالدولة وبالتالي تكون هي الوحيدة وليس غيرها المكلفة بتنفيذ الإختصاصات والمهام التي حددها لها دستورالدولة . فمن المعلوم أن الإنقاذ بدأت منذ الوهلة الأولي بثنائية تقوم على إنشاء أجهزة للحزب تكون موازية لأجهزة ومؤسسات الدولة الرسمية ، وقد جاء تأسيس هذه المؤسسات والأجهزة بغرض تمكين النظام وليس الدولة ، ورغم أن بعض هذه الأجهزة الموازية أصبح للبعض منها شخصية إعتبارية ولها قوانين ، لكنها غير مذكورة في الدستور مما يطعن في شرعيتها ، الأجهزة التي كونها الحزب ليست قومية ولا محايدة إذ يتكون طاقمها من منسوبي الحزب الذين يدينون بالولاء للحزب ، وتحركاتها تديرها أجهزة الحزب وليس الدولة ، فالدستور حدد الجهات في الدولة التي تتولى تنفيذ المهام المحددة لكل منها ، مثل إدارة وتخطيط الإقتصاد ، والزراعة ، والطاقة ، والعمل الخارجي والدفاع وحفظ الأمن وغيرها . مؤسسات وأجهزة الدولة قومية ومحايدة وحسب ما هو محدد لها من مهام في الدستور فهي التي تعمل لتحقيق مصالح الدولة وبالتالي ينبغي أن يكون مفهوم إصلاح الدولة هو إزالة كل الأجهزة الموازية للأجهزة الرسمية للدولة التي تعمل بمثابة دولة داخل دولة . تدخل هذه الأجهزة في عمل الأجهزة الرسمية شكا منه عدد من الوزراء ينتمون للحزب ، وكلنا يذكر ما قاله السيد علي كرتي وزير الخارجية السابق عندما أشار إلي أن هناك جهات تعرقل ما كانت تقوم به وزارته من عمل ، وعلى ما أذكر كان ذلك إبان زيارة وفد أمريكي للبلاد . برنامج إصلاح الدولة رغم أهميته في التمهيد لأي عملية سياسية ، وإنجاحها بصورة مرتبة ومنظمة بإعتبارة أحد عوامل بناء الثقة وتهيئة المناخ ، لم يجد الزخم والتهليل السياسي لأنه إقتصر على الجانب الإداري فقط ، ولو كان طُبق الشق السياسي فيه فإن مكاسبه ستعم كل أهل السودان لأنه في الأساس سيمثل مقدمة لعملية الحل السياسي إضافة إعادة الإعتبار للدولة ، وأروع مافيه أنه يخلو من المكاسب لأي جهة سياسية بل هو مكسب للوطن وللمواطن السوداني أولا وأخيرا .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة