في الوقت الذي تخطو فيه البلاد (أو هكذا قيل) نحو الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية ، وتكريس الشراكة الإستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي ... فقد كان المتوقع أن تحتل كل من وزارتي التجارة والإستثمار مكانة عليا وأهمية قصوى في دائرة الإهتمام الرئاسي عند تشكيل حكومة الوفاق . وبما يعزز المفهوم عنها بأنها تندرج ضمن قائمة الوزارات السيادية .... ولكن يبدو أننا لا نزال نعمل ونمارس نفس الذهنية والقناعات التي نشأت بعد الإستقلال عام 1956م لجهة التعامل مع منصب وزارات بعينها نحسبها هامشية غير سيادية ..... منصب وزير التجارة كان من كثرة الإهمال وعدم الرغبة في التنافس عليه بمكان ... حتى أصبح حكراً ومرتبطاً في تاريخ السودان المعاصر بشخص واحد هو المرحوم أحمد السيد حمد والدائرة الختمية. وكذلك سرى الحال وذات القناعة على وزارة الإستثمار التي أستحدثت خلال عهد الإنقاذ . ولم يتم التعامل مع هذه الوزارة بالإخذ في الإعتبار والجدية اللازمة ، فتحولت صالاتها وحجراتها وممراتها وكراً للثعالب والسماسرة .... ومافيا الأراضي وتهريب للدولار... وظلت تطعن في جنبات وظهر البلاد وسمعتها ، وتعصف بنزاهة مواطنيها ردحاً من الزمان حتى أصبحت في ساحة الفشل والفساد مضرب الأمثال. والملاحظ في جانب وزارة التجارة . أن الميزان التجاري بين السودان ومصر ما انفـكّ يميل دائما إلى مصلحة المصريين منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا ..... رغم أننا نبيع لهم لحماً حياً وصمغا نادراً . ونستورد منهم ملايات عناقريب ، وحلل ألمونيوم رديئة الصنع .... وعسل أسود ومِنـيِّـل ؛ ناهيك عن الأغذية المسرطنة والملوثة. وخلال الزمان المعاش ... وفي الوقت الذي مارست فيه إلرقابة على الأغذية بوزارة الصحة الإتحادية لدينا دوراً بارزاً وشفافاً خلال الفترة الماضية في كشف تلوث الصادرات الغذائية المصرية القادمة إلى السودان . وعدم صلاحيتها للإستهلاك الآدمي . فإن وجود وزير موالي لمصر أو يتبع لطائفة موالية تماماً لمصر فيه مفارقة كبيرة ومضحكة ؛ تكشف عن عدم التدقيق في تنصيب الوزراء. ليس لدينا إعتراض على شخص الأستاذ حاتم السر ... ولكن لا يزال تعيين هذا الشخص القادم من داخل مسيد الختمية وزيراً للتجارة لا يبدو موفقاً.... لا بل وفيه خطورة على مصداقيته هو نفسه قبل غيره ..... ولا ندري هل جاء أمر تعيينه محض صدفة أم أنه جاء يطلب وإلحاح ومساومة من دائرة الختمية؟ جميعنا يعلم أن حاتم السر يختلف عن أحمد السيد حمد في رتبة ودرجة إنتمائه الطائفي لبيت الميرغني .... فهو على الواجهة ولدى العامة قد شعل منصب "سكرتير السيد محمد عثمان الميرغني" ... ولكنه يُعرف لدى الخاصة بأنه "حوار السيد" .... وعليه فإنه إذا كانت خادم الفكي مجبورة على الصلاة . فإن حوار الفكي لا يجوز له سوى الدخول على السيد حَـبْـوَاً .... وليس له في حضرته "الشريفة" سوى الجلوس جاثيا ؛ وطأطأة الرأس ؛ وإزلال العنق قبل السمع والطاعة. وعلاقة الميرغية والطائفة الختمية العميقة الجذور المتشعبة المصالح مع المخابرات والسفارة المصرية ليست بخافية على أحد ..... وهي علاقة تتشعب إلى إقتصادية تمويلية ، بدأت منذ دخول إسماعيل باشا السودان . وتكرست خلال مشاركتها العسكرية في محاولات الإحتلال الخديوي المصري وأد وقمع الثورة المهدية في شرق السودان بقيادة البطل عثمان دقنة رحمه الله. وتفاصيل هذه المعارك الشرسة التي دارت في شرق السودان بين الختمية التحالفة للخديوية المصرية من جانب . وأنصار المهدي الوطنيين من جانب آخر موثقة بشفافية في كافة كتب التاريخ المكتوبة بأقلام أجنبية .... لكنها مسكوت عنها في كتب التاريخ السوداني المكتوب بأقلام سودانية ... وكذلك لا تشير إليها مناهج التربية والتعليم السوداني .. وهو ما يعتبر تزويراً (محلياً) لتاريخنا وإفتقار للموضوعية ؛ وقدحاً في مصداقيتنا يبنغي المسارعة بمعالجته. وحيث أن التمويل المالي السخي يدخل ضمن طيات هذه العلاقة التاريخية المشار إليها ...... فهي من ثـم علاقة ميرغنية / مصرية لا فكاك منها على مر الزمان أو حتى يلج الجمل في سم الخياط. كذلك فإن لدى هذه الطائغة إستثمارات عقارية وتجارية عديدة في مصر من أسوان جنوباً إلى الأسكندرية شمالاً .. وهو ما يجعل منها رهينة لا حيلة لها في قبضة الدولة المصرية .... القبضة المصرية المعروفة بأنها ووفقاً لقناعات "أنا ربكم الأعلى" تفتت عظام كل من يحاول الخروج عنها بالمخالفة أو الممانعة. أعتقد أن الأيام القادمة ستكون حبلى بعديد من توجهات (ونضال) وزارة التجارة السودانية لجهة إعادة الصادرات المصرية لدخول السودان بشتى الحيل والمعاذير؛ بغض النظر عن كونها ملوثة بلحوم ومخلفات الديدان والفئران .. أو مترعة بمياه المراحيض والمحسنات والألوان الصناعية الرخيصة المسرطنة لا محالة..... وستشهد ساحة الإستيراد من مصر معارك وحرباً ضروس ما بين وزارة التجارة ووزارة الصحة .. وربما الخارجية. وطالما كان الحال كذلك . فإن العلاقة مع الجارة الجدودية مصر لا يمكن ضبطها تحت شعار ولافتات (المعاملة بالمثل) وحدها... الشعارات هنا ليست كافية لجهة علاقة يومية غاية في الحساسية . وتضارب في المصلحة الحيوية بين بلدين متجاورين أحدهما مجرى والآخر مصب ..... وحيث لابد من شفاعة مبدأ التعامل بالمثل هنا بأدوات وآليات ذكية. لابد والحال كهذه إذن أن تتحول العلاقة (مبدئياً) مع مصر إلى ملف أمني ؛ لا يترك فيه لجهة أو وزارة وحدها أن تتخذ أو تضع إستراتيجيات أو تصدر قرارات منفردة بشأن العلاقات مع مصر . ونأتي بعد هذا للحديث عن تعيين السيد/ مبارك الفاضل المهدي في منصب وزير الإستثمار .. وهو التعيين الذي أدهش الجميع .. خاصة وأن السودان قد وقع إتفاقية للشراكة الإستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجية العربية .... وأن الإستثمارات المتوقع إستقطابها بغزارة من هذه الدول الغنية تتطلب المزيد من المرونة والشفافية .. وأن يعاد ترتيب أوضاع وزارة الإستثمار على نحو يسمح بوضع إتفاقية الشراكة الإستراتيجية موضع التنفيذ ..... شخصية مبارك الفاضل المهدي تظل مثيرة للجدل لأسباب عديدة ليس أقلها تورطه في أحداث المرتزقة (ما يعرف بالغزو الليبي) ؛ وجلبهم إلى السودان على عهد الرئيس الراحل جعفر نميري .... ثم ما يثار عن دوره في قصف وتدمير الولايات المتحدة لمصنع الشفاء للأدوية ... موقع مبارك الفاضل المهدي في داخل دائرة المهدي . وخلافاته ومشاحناته الحالية المزمنة مع الصادق المهدي ... والمستقبلية "بداهةً" مع أبناء الصادق المهدي حول إستقطاب الأنصار لمصلحة هذا الطرف أو ذاك ؛ هذه المشاحنات والخلافات تعطي لدى الرأي العام إنطباعاً بأن مبارك المهدي لن يكون متفرغاً لعمله في وزارة الإستثمار ؛ بقدر ما سيكون مهموماً بحشد التأييد والزخم لنفسه .... والبحث عن أبواب ومنافذ تمويل مالي أياً كانت مصادره ، وبما يمكنه من إلقفز إلى كرسي الإمام خلفاً للصادق المهدي. في كافة الأحوال تبقى شخصية مبارك الفاضل غامضة عدائية شرسة إنفعالية غير موثوق بها لدى الرأي العام ... وتحتاج منه إلى جهد كبير لتلميع نفسه وإثبات جدارته كسياسي محنك أمام الشعب.... ولكن من غير المتوقع أن يخرج مبارك الفاضل في معركته المتوقعة مع عبد الرحمن الصادق المهدي مستقبلاً .. من غير المتوقع أن يخرج منها سليماً دون أن يلعق الجراح ، حتى لو تمكن من إقصاء عبد الرحمن وإعلان نفسه إماماً لأغلبية الأنصار. لكل هذه الأسباب التي يضعها مبارك الفاضل كأولويات في الحاضر والمستقبل ... فإن تعيينه وزيراً للإستثمار يظل غير مفهوم المغزى والأسباب .... ولا أعتقد أنه سيكون منتجاً.... لا بل من المتوقع أن تتحول وزارة الإستثمار إلى ساحة شد وجذب ؛ يختلط فيها الحابل بالنابل ما بين مصالح البلاد ومصالح الأفراد.
الموقف عموماً لجهة وزارتي التجارة والإستثمار يثير في النفوس القلق من وجود أصابع للمخابرات المصرية في الأمر .... ذلك أن نجاح إتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع منظومة دول مجلس التعاون الخليجي يتوقف حتماً على مدى مرونة وجاهزية كل من هاتين الوزارتين للعمل المخلص الجاد الدؤوب ..... ولاشك أن المخابرات المصرية تضع نصب عينيها أن الإستثمارات الخليجية في السودان ستتوجه بشكل أساسي إلى الإنتاج الزراعي والحيواني .. وهو ما يعني إستهلال السودان لكامل حصته الحالية من مياه نهر النيل .... وبما يعني ذلك أن السودان سيتوقف عن الإستمرار في منح مصر السلفة السنوية التي يمنحها لها من حصته في مياه النيل منذ عام 1958م ، والتي يبلغ مقدارها 6 مليارات متر مكعب سنوياً .. لا بل ربما يطالب السودان مصر بإسترداد هذه السلفة التي بلغ حجمها إلى يومنا هذا ثلاثمائة وستين مليار متر مكعب (360,000,000,000 متر مكعب) . ولا أدري لماذا لا يضع السودان المجموع التراكمي لهذه السلفة على الطاولة سنوياً أمام الجانب المصر ، ليتم توثيقها بتوقيعهم عليها قبل الحصول على سلفة سنوية جديدة؟ ... وحتى تكون مصر متيقظة ليل نهار بمدى أفضال السودان عليها. من جهة أخرى فإن الأحداث اليوم وأمس قد تلاحقت سراعا ... وتبدل الحال ما بين عشية وضحاها عقب أن أخرج الكونغرس السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب .. وأدخل مصر على رأس قائمة الدول المصدرة للإرهاب ..... وهو ما يعني بالضرورة أن الباب قد أصبح مفتوحاً أمام رفع العقوبات الإقتصادية الأمريكية عن السودان نهائياً .... وكذلك لاحظنا خلال القمة العربية الأخيرة المنعقدة في الأردن أن الرئيس عمر البشير قد حقق إختراقاً نوعياً هاماً ؛ حين لم يتقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بمذكرة إلى السلطات الأردنية ؛ تطالب بتنفيذ أمر المحكمة الجنائية بشأن مثوله أمامها في لاهاي .. واقتصر الأمر على مناشدة "خجولة" من منظمة هيومان رايتس ووتش. لأجل كل هذا فلا نرى حاجة للنظام الحاكم في السودان إلى خطب ود القاهرة .. فقد ثبت جلياً أن مصر لا تستطيع أن تساعد السودان ولا نظامه الحاكم في المحافل الدولية ... وحتى إن كانت تستطيع فإن إستراتيجيتها تجاه السودان تحول بينها وذلك ..... وواقع الحال فإن على السوداني أن يعي جيداً (مثلما يعي المصري) أن إنكماش السودان هو رخاء لمصر .... وأن رخاء السودان هو إنكماش لمصر ..... وفي كافة الأحوال ؛ فإنه وللأسف الشديد ، يغيب عن ذهنية ودماغ شعبنا الطيب حقيقة أنه لولا السودان لما كانت مصر .... وحبذا لو سارع السودان بنقل كل أحماله وأثقاله إلى جنوب القارة الأفريقية .. وإلى حيث يمكن أن يجد الترحيب والمساندة الحقيقية والمساعدة المنتجة (في الساحة العربية) ؛ مثل تلك التي بذلتها له المملكة العربية السعودية . فأثمرت إتصالاتها وضغوطها القوية على حليفتها الإستراتيجية الولايات المتحدة في صدور كافة القرارات الأخيرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة