|
إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (7) (العرب والسودان، 1967) بقلم عبد الله على إبراهيم
|
إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (العرب والسودان، 1967) في مناسبة فوز مؤلفه أستاذ الجيل بروفسير يوسف فضل حسن بجائزة العز بن عبد السلام (7) مقدمة على إسرافنا في أنفسنا في الجدال عن تعريب السودان وأسلمته التاريخيين، وحاضراً، فإن جهلنا بديناميكية العمليتين عميم. فقد اتفق للمجادلين أنهما طاقة ثقافية سياسية لا أصل لها في في معاش الناس، واقتصادهم، وديناميكية مجتمعهم. وأوضح عيوب هذا الجدل المسرف عن الهوية أنه قل أن نظر بحرفية ومسؤولية إلى كتاب "العرب والسودان" للبروف يوسف فضل حسن الصادر في 1967. وهو كتاب يتغلغل البيئات المادية والبشرية والسياسية التي اكتنفت مسرى التعريب والأسلمة بفراسة في التأرخة غاية في الحرفية. فيأخذ بمؤثر العرق والثقافة ولكنه لايقتصر عليه. فيأخذ باليد الأخرى بمسارات الاقتصاد السياسي للعصر مأخذاً جدياً. فالتعريب والأسلمة ليسا محصلتين مجردتين لمواجهة ثنائية تصادم فيها عرب أفارقة وإسلام ومسيحية أو ووثنية. خلافاً لذلك فيوسف يبعث في بحثه بالمحاضن الاقتصادية للتعريب والأسلمة. فهو يحدثنا عن عرب مستقرة على النيل أخذت بالزراعة بينما الصورة الغالبة عن عرب ذلك الزمان أنهم جحافل بدوية فوضوية. ثم رأيناه ينبه لدور الرقيق النوبي-السوداني في سياسات الدولة الإسلامية في مصر بما كشف ترقيهم في مناكبها وتسنمهم قيادتها. ثم يحدثنا عن العرب كملاك مناجم ذهب بأرض البجة جاؤوها من أنحاء مصر وجزيرة العرب للكسب. ووجدنا في صورة وضع اقتصاد المناجم أمرين، أولهما أن العرب جاءت بأعداد غزيرة مما ينفي قول من استصغر أرقامهم لنفي عروبتنا نسباً في المنشأ. ثم تجد أنهم جاؤوا بأولادهم ونسائهم مما يدحض القول بحضورهم عزابة كان زواج النوبة والبجا خيارهم الوحيد. ونظرنا في الكلمة الماضية في طاقة الأسلمة والتعريب التي ربما تأسست على اقتصاد مؤاني البحر الأحمر السودانية التي ربطت أهل السودن بشبكة التجارة العالمية آنذاك. ثم عرض يوسف لمسألة الشوكة الإسلامية العربية الإسلامية بما تجاوز مجرد بطش السيف. فنظر في شوكة الفقه وينظر في هذه الحلقة قبل الأخيرة في شوكة الديمغرافيا أي غزارة السكان وفعلها السياسي. وسيناقش أن العرب المسلمين غلبوا لغزارة عددهم في حين جرف الاسترقاق أعداد النوبة والسودان فصاروا قلة مغلوبة. ديمغرافيا التعريب والأسلمة: غزارة العرب وتناقص النوبة جاء يوسف بنظر مبتكر إلى عنصر الشوكة في التعريب والأسلمة في السودان. فقد كان شديد العناية بالحقائق الديمغرافية لكل من النوبة والعرب الوافدة مما يفتح الباب لتقدير أفضل لكيفية رجحان كفة الثقافة العربية أو الإسلامية، متى رجحت، على النوبة المسيحية. فما برح المنهج الموروث عن الانتشار السلمي النسبي للتعريب والأسلمة عن طريق تزاوج العرب بالنوبة وآلية توريث ابن الأخت يتحدث عن عمليتي التعريب والأسلمة بإغفال للعامل الدمغرافي. بل سادت مؤخراً مدرسة اشتهرت بمدرسة الاستمرار رأت النوبة شعباً لم يتغير فيه عرق وهو يتحول إلى الإسلام أو حتى حين تعرب. وهي مدرسة تري أن النوبة، وهم سكان السودان قبل وفود الإسلام والعرب، متصلة العرق لم تنقطع عن أرومتها خلال عمليات التعريب والأسلمة التي أعقبت غزو العرب للسودان. ومؤدي المدرسة أن سكان البلاد من النوبة خرجوا من التعريب والتأسلم كما هم نوبة ما زادوا غير أن أصبحوا مسلمين. والحمد لله علي الإسلام. ومن المؤسف أنه سادت في دراسات عرب ومسلمي السودان مدرسة استخفت ب"انتحالهم" صفة العروبة واستسخفته بغير تسويغ من علم الهوية نفسه وقد أسفت كثيراً للطريقة غير الرشيقة أو الحساسة التي عبر بها هؤلاء الكتاب عن استنكارهم لهذا الانتحال. فقد قال آدمز أن تبني النوبة لنظام القبائل العربي ردة عن زمان ممالكهم. وقال إن ادعاءهم بأنهم عرب ضرب من السخف. وزاد: لم يصبحوا مسلمين وحسب بل صاروا عرباً في قرارة أنفسهم. لقد توارت فيهم كل ذكري للبهاء الحق للماضي النوبي. وانتهوا إلى نسب افترعوه من أرومة قبائل بربرية قطعت البحر الأحمر إليهم واستبدلوا أرومتهم الحق كورثة لبعانخي وملوك قرون النوبة الوسطي.
وتبع سبولدينغ أستاذه آدمز في تبخيس زعم عرب السودان العروبة. وظل يصفهم بأنهم "نوبة مسلمين." واستعان بعبارة من مراقب وصفه بأنه لمَّاح رأي منذ عام 1853 أن النوبة المسلمين قد ارتكبوا خطيئة كبري بتوفيق العديد من مظاهر مجتمعهم لتلائم سنن وشرائع المسلمين في الجزيرة العربية. ولم يتطرق سوي يوسف وآدمز إلى هذا الوضع الديمغرافي الذي لا تستقيم بدونه دراسة تعريب وإسلام السودانيين علي النيل الشمالي والأوسط. فقال يوسف إن العرب لم يأتوا إلى السودان بين القرنين التاسع والسادس عشر بأعداد هائلة فحسب بل أنهم أحدثوا عبر هذه السنين نقصاً في أنفس النوبيين بالاسترقاق. وأتفق آدمز مع يوسف في تقويمه للوضع الديمغرافي لشمال السودان في ذلك الزمان. فوصف العرب بأنهم قد جاءوا موجة بعد موجة وامتصوا معظم السكان الأصليين ممن حاق بهم الشتات. غير أن يوسف ميَز تعميماته هذه عن ديمغرافية النوبة في نفس الكتاب كما سنرى. وتحفظ آدمز علي إسرافه لاحقاً وقال إن المرء لا يدري إن كان قول مدونات التاريخ عن تفويج العرب وغزوهم قد عني جماعات حاشدة أو مجرد إعادة توزيع لهم. إهمالنا دراسة ديمغرافيا مواجهة العرب المسلمين والنوبة بصورة مباشرة حال دون أن نسأل كم كان عدد هؤلاء العرب الذين وفدوا للسودان مثلاً؟ وكيف أفرغ السبي والرق شعب النوبة؟ والعدد شوكة. وقال أهل السودان العدد غَزَّر الجراد. وبالنتيجة بدا للبعض منا أن قدوم العرب للسودان كأن لم يكن. فقد قال سبولدينغ مثلاً أن النوبة قد نفدوا بجلدهم العرقي من غزو العرب لم يمسهم ضر كبير. وأتبع ذلك بقوله إن زعم السودانيين الشماليين بأنهم عرب هو مجرد غشاء إيدلوجي يحجبون به حقيقة أنهم نوبة مسلمون. يزن يوسف مترتبات وقائع المواجهة بين دولة مصر الإسلامية والنوبة بميزان ديمغرافي يحصي كل شيء عددا. ويربط يوسف طردياً بين التعريب ووفرة أعداد العرب بين النوبة. فتجده يرد تعريب منطقة الأبواب، "الأكثر تعريباً في السودان" في وصفه لدار الجعليين، إلى تكاثر العرب بها وفرص الحياة المترحلة والمستقرة التي اتاحتها للعرب المهاجرين. بل زاد أن العرب قد تسللوا من عهد طويل إلى المنطقة فامتزجوا بأهلها الذين لم يكن سلطانهم يمانع أو يجافي سلاطين مصر. وقال إن مثل هذا التسلل السلمي لم يزعج ملك الأبواب فيما يبدو (صفحة 139 ). وتجده من الجهة الثانية يفسر نقص التعريب في منطقة النوبة والبجا إلى قلة العرب بينهم. فهو يقول بأنه لم يكن بأرض البجا العدد الكافي من العرب لتعريبهم لحد إكسابهم اللسان العربي. وخلافاً لذلك نجح البجا دائماً في امتصاص جماعات عربية ممن أقاموا وسطهم وتبنوا لغة البجا وعاداتها (صفحة 139). كما لم يكن العرب شمالي دنقلا أيضاً بأعداد كبيرة ليعربوا نوبة تلك المنطقة. فمن أقام بين النوبة منهم تنَوَّب بالتدريج (صفحة 143). وويوسف لا يكل منبهاً إلى سياسة الأرقام ودلالات الإحصاء. فيقول إن حملات الممالك الإسلامية المتتابعة على النوبة لسبعة قرون، بما تضمنت من قتل وسبي ونزوح، فتت في عضد النوبة البشري وأضعفت مناعتها للاستمرار ( صفحة 124). ووصف توغل العرب في أرض النوبة وقال إن وجودهم بأعداد كبيرة زعزع سلطان دولة النوبة التي كانت في غائلة التردي ومكن للعرب في مطلبهم للسيادة على النوبة. ووصف تحول عبد الله برشمبو، ملك النوبة، إلى الإسلام وجعله كنيستها جامعاً في 1317.وقال إن هذا التحول الثقافي الدرامي لم يلق مقاومة مما قد يدل على أن عدد المسلمين قد نمى بصورة هيأت لهذه التحولات وسندتها (صفحة 125). ونظر يوسف إلى الرق كتفريغ سكاني. وساقه هذا ليسأل عن سعة دولة المقرة سكانياً لمقابلة مطالب مصر للرقيق مما التزمت به في اتفاقية البقط وغير البقط. فأثار نتيجة لذلك مسألة مصدر الرقيق النوبي وهل كان من دولة المقرة أو من كليهما أم مما يليهما من بلاد جري تسمية أهلها بالسودان. فمصطلح النوبة والسودان يستخدمان بتجوز في المصادر الإسلامية ليقوم الواحد مقام الآخر. فيقول يوسف إن النوبة بسكانها القليلين لم تكن في وضع لتمد العرب بالأعداد الكبيرة من الرقيق بغير أن تفتقر إلى الآهلين. ومن رأيه أن دفعيات رقيق البقط أنفسهم مما كان يجلبه النوبة من جيرانهم إلى الجنوب وما ترامى من أرض بعدها. وصح الزعم إذاً أن أكثر رقيق مصر من النوبة هم من غير النوبة برغم تسميتهم بالنوبة. والثابت أن التجار العرب قد بلغوا سوبا، حاضرة دولة علوة، لاستحصال بضاعتهم من البشر من أسواق قائمة للرقيق يعرض فيها زعماء وتجار من السودان سبيهم من قوم آخرين (صفحات 45-47). ولكنه اعتبر في موضع آخر علوة من بين البلاد التي يأتي إليها أهل المقرة للحصول على الرقيق لدفع البقط ويغشاها النخاسة العرب لنفس السبب. وقال إنه "نتيجة لهذه التجارة لابد أن علوة فقدت أعداداً كبيرة من سكانها مما أثر سلباً على فرصها في مواجهة العرب المهاجرين إليها" (صفحة 134). خلص يوسف من عرضه لتجارة الرقيق في النوبة أو السودانيين إلي أن "تلك التجارة أثرت على توغل العرب في السودان من جهتين. أولاً: فبرغم أن معظم الرقيق السود كانوا مما استحصل التجار عليه من بلاد السودان إلا أن القدر المستحصل عليه من النوبة على قلته ربما حرم المقرة وعلوة من عنصر الشباب والفتوة الذي ربما أوهنهما في المدي الطويل وقلل من فرص وقوفهما بقوة في وجه العرب الذين سرعان ما سيغرقون النوبة. ثانياً: لقد زادت تلك التجارة العرب معرفة بإقليم النوبة ومراعيه وموارده مما تحصل عليه تجارهم في اجتيازهم أرض النوبة للتجارة. وهي معرفة يسرت للعرب توغلهم فجاج تلك الأرض (صفحات 48-49).
ونظر يوسف إلى حجم الهجرة العربية إلى مصر ثم السودان ليحصل على صورة للشوكة الإحصائية للعرب في مقابل التفريغ السكاني للنوبة. واستنبط من إحصاء هؤلاء العرب وتملكهم الأرض أن استقرار العرب بأعداد غزيرة، لا البداوة، كانت الفيصل في تعريب مصر نفسها. فنظر يوسف لما ورد من إحصائيات العرب بمصر عند المؤرخين المسلمين كتقديرات صالحة للاستخدام وإن لم تخل من مبالغة. فالجيوش العربية التي جاءت مع عمرو بن العاص والزبير بن العوام وعبد الله ابن أبي السرح بلغت 53 ألف منها بالفسطاط أربعين ألف وبالإسكندرية 20 ألف في عهد معاوية (661-80). كما أرسل عمر بن الخطاب ثلث قبيلة بلى إلى مصر لتفادي خصومة ما في الشام. وكان يجيء حكام مصر كل بقسم من قبيلته فزاد هذا من الهجرات العربية لمصر. وقد جاء بعض هؤلاء الحكام بنحو 20000 قبائلي. وجاء إلى مصر نحو 83 حاكماً من البدء حتى 685. كما اقتضت السياسية تفويج العرب إلى مصر. فقد أراد الحكام حفظ التوازن بين القيسية واليمنية في مصر فنتجت عنه هجرة قيسية مجزية ملكت بها أرضاً وأٌسقطت عنها الطلبة. فتسامع بهذا الرزق قبيلها في جزيرتهم العربية فتوافدت تلحق بطيب عيش مصر. وبلغت عائلات قيس فيها في سنة 770 نحو 5200 تزاوجت من فرط استقرارها بالمصريين وكان ذلك سبباً في أسلمة المصريين وتحولهم إلى العربية ( صفحات 33-34).
وظل يوسف يعود إلى حجته الديمغرافية متى أحصى ضحايا النوبة من حربها مع مصر عددا. فولت مصر شكندة عرش النوبة بعد أن غنمت 10 ألف نوبي بيعوا في أسواق القاهرة. وقال يوسف "إذا صح الرقم فلابد أن هذا كان تصحيراً لموارد النوبة البشرية (صفحة 111). كما غنّم المماليك النوبة والعربان بعد حملة 1288 وبيع السبي بمبلغ زهيد.
استحدث يوسف منذ نحو 50 عاماً باباً ذكياً إلى الديمغرافيا والجغرافيا السياسية للنظر إلى غلب العرب المسلمين على السودان. وما يمزق نياط العقل أن هرج الهوية، لذي نصب بروجه على فكرنا خلال العقود الأخيرة، لم يلق له بالاً.
مكتبة د.عبد الله علي ابراهيم
|
|
|
|
|
|