|
أيقونة الحرية والصفح الجميل بقلم: عمر الدقير
|
أيقونة الحرية والصفح الجميل
بقلم: عمر الدقير
في كتاب مذكراته يقول نيلسون مانديلا، عن زيارةٍ له للعاصمة البريطانية لندن، أنَّه مرَّ ذات يوم مع صديقه ورفيق دربه أوليفر تامبو بساحة البرلمان البريطاني التي تنتصب فيها تماثيل لشخصيات تاريخية يعدها البريطانيون من العظماء .. حينها، والكلام لمانديلا، قلنا لبعضنا ضاحكين: "يوماً ما ستوضع تماثيلنا في نفس هذا المكان".
لربَّما سخر البعض من مانديلا لو أنّه أعلن نبوءته تلك في وقتها، حين كان نظام العنصرية البيضاء يحكم بلاده بقبضة حديدية يبدو الفكاك منها بعيد المنال، وتسانده أو تغض الطرف عن ممارساته معظم دول العالم "المتحضر"، لكن هذا ما يحدث عندما ينتصر المناضلون على اليأس وشلل الروح فيطوِّعون الظروف لمصلحة قضايا شعوبهم العادلة ويبدون استعداداً لتضحيات لا حدود لها في سبيل تحقيقها .. وبالفعل تحولت نبوءة مانديلا إلى حقيقة في بداية عام 2010 حيث نُصب تمثاله إلى جانب تمثال الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل، وأزيح الستار عنه في حفلٍ حضره رئيس الحكومة البريطانية جوردون براون والعديد من الناشطين ضد التمييز العنصري وفي مقدمتهم عمدة لندن كين ليفنجستون الذي قاد حملة واسعة النطاق من أجل أن يقام تمثال لمانديلا في مكان يليق به في لندن.
منذ أن بدأ نشاطه المناهض لنظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا عام 1943، لم يخضع نيلسون مانديلا للإكراهات ولا للإغراءات، وظلَّ متشبثاً بثوابته النضالية والسياسية لم يتزحزح عنها قلامة ظفر .. وعندما كان النظام العنصري في بلاده يقمع أبناء شعبه ويسومهم الخسف في شوارع جوهانسبرغ والكاب وسويتو وغيرها، ويرفض الاعتراف بهم كبشر، كان مانديلا صامداً في سجنه يرفع راية الحرية ويرفض التراجع والاستسلام أو المساومة على حقِّ شعبه في الحرية والكرامة .. ومن عتمة ذلك السجن كان يشكّل أباً روحياً وقائداً سياسياً لنضال السود الذين أيقنوا أن رياح الحرية والكرامة تأتي من كوّة السجن الذي كان يضيق على مانديلا، لكنه لم يوهن إرادته ولم يبثّ في روحه جرثومة اليأس، بل زاده إيماناً بقضيته وصلابةً في موقفه.
وبعد أن قضى أكثر من عشرين عاماً في السجن، عرض عليه رئيس النظام العنصري، بيتر بوتا، أن يهبه الحرية مقابل إعلان إدانته الكفاح المُسلّح .. رفض مانديلا العرض قائلاً: "لا معنى لحريتي الشخصية بينما شعبي مكبَّل بكل أنواع القيود" ومُعلناً في ذات الوقت أنَّ: "اللجوء للكفاح المسلح كانَ عملاً دفاعياً خالصاً لمجابهة التمييز العنصري والعوامل التي ألجأتنا إليه مازالتْ قائمة، لذلكَ ليس لدينا خيارٌ إلّا الاستمرار فيه" .. ومن داخل زنزانته سرَّب رسالةً لرفاقه قال فيها: "اتحدوا وجهزوا وقاوموا، فما بين سندان الحراك الشعبي ومطرقة المقاومة المسلّحة، سنهزم التمييز العنصري".
ولم يكن غريباً، والحال هكذا، أن يعود التاريخ إلى مجراه الطبيعي، بعد أن اقتيد قسراً بشروط القوة المادية إلى مصبٍّ راعف طيلة نحو ثلاثة قرون، وأن تنتصر إرادة الحياة والحرية والكرامة التي أجبرت النظام العنصري، تحت ضغط المقاومة الشعبية، على إطلاق سراح مانديلا في فبراير عام 1990 والقبول بالدخول في مفاوضات مباشرة مع حزب المؤتمر الإفريقي إيذاناً بوضع حدٍّ لذلك النظام البغيض.
بعد خروجه من سجنه الطويل كان طبيعياً أن يواجه مانديلا اشتعال نيران الانتقام في صدور قطاعات واسعة من أولئك الذين تعرَّضوا لأبشع أنواع الظلم والقهر والاضطهاد وامتهان الكرامة وانتهاك الحقوق الأساسية، خاصة بعد أن دانت لهم مقاليد السلطة وامتلكوا إمكانية الثأر .. غير أنَّ مانديلا رفض الدعوة للثأر والانتقام من جلاديه هو شخصياً ومن منتهكي حقوق بني جلدته ودعا إلى الصفح، لكنه قال أيضاً: "نعم للصفح .. لا للنسيان"، وقاد بنجاح حملة حزبه الإعلامية لنشر ثقافة المكاشفة والاعتذار والتسامح والمصالحة وإعانة الناس على فضِّ الاشتباك بين ما يتذكرونه وما يحلمون به، حتى لا يتسرب الحاضر من بين أيديهم ويجرف معه المستقبل .. هذه القدرة على قيادة هذا التجاوز الإنساني النبيل والباسل لواقعٍ تاريخي أثقل الذاكرة الجمعية بالمرارات ومشاعر الغضب، جعلت من مانديلا مثالاً جديراً بالاحترام، بل بالتعميم على نطاق كوني وذلك لأنَّه رفض أن يكون هو أو أفراد شعبه تلاميذاً لجلاديهم، وأدرك برهافة الثائر وحسِّه الأخلاقي وبعد نظره كيف يمكن للضحية أن تسمو فوق جراحها وذاكرتها الملتاعة وتعلن العصيان على تعاليم جلادها وألَّا تسمح له بأن يلدغها بسموم الكراهية والبغضاء والنبذ والإقصاء، وأن تبدو كما لو أنها تكمل المشهد الأخير لتراجيديا إغريقية يهدي فيها المنتصر سيفه للمهزوم.
على طول مدة سجن مانديلا، فإنَّ مدة حكم بعض رؤساء الجمهوريات في العالم الثاث قد قاربتها أو جاوزتها .. لكنه في قضية العلاقة مع السلطة قدَّم أنموذجاً نقيضاً لثقافة سلطوية بائسة، رهانها الوحيد هو "القصر أو القبر" .. فعند انتهاء فترة رئاسته التي انتخب لها بإجماع شعبي كبير، أصرَّ على أن يترجل وألَّا يترشح لولاية ثانية، رغم أنَّ الدستور يعطيه هذا الحق ورغم أنَّه كان يملك من التأييد الشعبي ما يجعل منه رئيساً مدى الحياة لو أراد، فهو بالنسبة لشعب جنوب إفريقيا أيقونة لمسيرة النضال العنيد والدؤوب من أجل الحرية والكرامة الإنسانية .. قدَّم مانديلا لشعبه والعالم المثال الرائع ذاته الذي قدَّمه بصموده خلال سنوات سجنه الطويلة، حين غادر رئاسة الدولة والحزب بإرادته الحرة مرفوع الرأس بعد أن أرسى دعائم دولة المواطنة الديمقراطية، وسلَّم الراية لجيلٍ جديد ليواصل المسيرة.
الحرية هي فاتحة كتاب الوجود وخاتمته، والمناضلون من أجل الحرية والمبشرون بها عابرون للحدود والأجناس واللغات .. فمثلما حاز مانديلا إعجاب العالم وتقديره لمسيرة حياته، ها هو في تابوته ينال إجماع العالم على الخسارة برحيله والحزن عليه .. لكأنَّ أبا الطيب المتنبي قد عناه عندما قال:
فَنَالَ حَيَاةً يَشْتَهيها عَدُوُّهُ .. وَمَوْتاً يُشَهِّي المَوْتَ كلَّ جَبَانِ
[email protected]
|
|
|
|
|
|